اتجاهات الإصلاح والتجديد بين الأصالة والتغريب

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

على غير الشائع، تم طرح قضايا الإصلاح والتجديد وعلاقة الإسلام بالغرب باكرًا في البيئات الإسلامية غير العربية - الهندية منها بصفة خاصة - وذلك خلال القرن السابع عشر الميلادي مع الإرهاصات الأولى لانهيار الخلافة العثمانية. ومن بين المؤلفات الأولى التي ظهرت في هذا السياق كتاب «أصول الحكم في نظم الأمم» لمؤلفه إبراهيم متفرقة (عام 1727م)، وكتاب «جنة المشركين» لمحمد جلبه أفندي (عام 1731م)، بالإضافة إلى تقرير حول التنظيمات العسكرية وأنماط الإدارات والحكومات للدول الأوروبية أعده راتب أفندي عام 1793م. ليس غريبا إذن، والحال هذه، أن ينقسم المفكرون العثمانيون آنذاك إلى فريقين رئيسين: فريق يرفض مظاهر التحديث الأوروبي كافة، استشرافا منه للخطر الداهم الكامن بين ثنايا الثقافة الغربية الوافدة على الإسلام وشريعته. وفريق آخر أدرك - بحكم الواقع وضرورات العصر - أن لا سبيل لإصلاح شؤون الخلافة إلا من خلال اللحاق بركب الحضارة الغربية، وانتحال نظمها السياسية والإدارية والاجتماعية كافة! أما مفكرو شبه القارة الهندية؛ فلم تظهر بواكير كتاباتهم المتعلقة بتلك القضايا إلا بعد انهيار دولة المغول الإسلامية/الدولة التيمورية (932 - 1273هـ)، وانتشار موجة المواجهات العسكرية مع الإنجليز في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي. فقد ظهرت في منتصف العقد الثالث من هذا القرن تحديدا بواكير الدعوات الإصلاحية التي كان همها الأكبر ممثلا في مناقشة قضايا الصراع بين الحضارة الأوروبية الوافدة من جهة، والثقافة الهندوسية من جهة ثانية، والعقيدة الإسلامية من جهة ثالثة.

وتبعا لذلك؛ انقسم المفكرون المسلمون هناك - وخاصة عقب ثورة عام 1274هـ - إلى اتجاهين رئيسين: أولهما الاتجاه السلفي المحافظ، ممثلا في أتباع الشاه ولي الله الدهلوي (1114 - 1176هـ)، الذي دعا إلى مقاطعة الغرب ومحاربته والتمسك بكتاب الله وسنته. ثانيهما ما يُطلق عليه الاتجاه التحديثي/التغريبي، ممثلا في شخص السيد أحمد خان (1233 - 1316هـ)، الذي دعا - على العكس من الاتجاه الأول - إلى الاقتباس من الحضارة الغربية في علومها ونظمها وفنونها، مع ضرورة التمسك بالثوابت العقدية الإسلامية. نتيجة لذلك؛ سرعان ما انتقل هذا الجدل لاحقا إلى البيئات العربية خلال القرن التاسع عشر، وذلك بظهور كتاب رفاعة الطهطاوي (ت1290هـ) «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» عام 1834م، ومرورا بكتابي فارس الشدياق (ت1304هـ) «الواسطة في معرفة أحوال مالطة» و«كشف المخبأ عن فنون أوروبا» عام 1866م، وليس انتهاء بكتاب «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك» لخير الدين التونسي عام 1867م.

غير أن الملاحظ على أغلب هذه الكتابات أنها ناقشت قضايا الإصلاح والتجديد، وعلاقة الإسلام بالغرب من خلال الاكتفاء بمقابلة الواقع الإسلامي ومقارنته بمثيله الغربي، داعية - على استحياء شديد - إلى ضرورة الأخذ بالجوانب الإيجابية للحضارة الأوروبية الحديثة. وإلى جانب ما سبق؛ ثمة ملاحظة أخرى على قدر كبير من الأهمية، ألا وهي أن الراصد لبدايات الانشغال بقضايا «الإصلاح والتجديد، ومستقبل العلاقة مع الآخر» في البيئات الإسلامية المعاصرة - على ما بينها من اختلافات شتى - يخرج بنتيجتين رئيستين:

الأولى: أن تلك القضايا لم تطرح في ذلك الوقت إلا كرد فعل مباشر للصدام الحضاري بين الثقافتين الإسلامية والغربية، وهو ما يفسر نشأة هذه التيارات في كل من تركيا والهند أولا، حيث وقعت الهند في قبضة المستعمر الغربي، فيما كانت أجزاء كثيرة من العالم العربي لا تزال واقعة تحت سلطة وسيطرة الخلافة العثمانية. ومن ثم، كان الانشغال بتلك القضايا وليد الواقع المعيش أكثر من كونه معبرا عن إرادة عقلية، أو محض استشراف للمستقبل من قبل المفكرين المسلمين آنذاك.

النتيجة الثانية: وهي مبنية على سابقتها، تتمثل في أن قضية العلاقة مع الآخر لم يتناولها المفكرون المسلمون من منطق الوعي بالهُوية والدفاع عن مشخصاتها وثوابتها ضد الآخر بقدر ما نُوقشت باعتبارها إحدى قضايا الإصلاح والتجديد والتحديث ليس إلا!! ونتيجة لذلك؛ صارت هذه الإشكالية بمثابة حجر الزاوية في كل معالجة لاحقة تم طرحها لحل مشكلات أخرى، حتى وإن بدت على غير صلة بها! ولعل في ذلك يكمن سر انبعاثها من جديد وبقائها قيد المناقشة لما يزيد على قرنين وعقد من الزمان.

فما إن أطلت الحداثة برأسها على شبه القارة الهندية حتى نمت فيها التيارات السلفية المتمسكة بأصولها الحضارية. ومن ثم، أخذ العلماء ينظرون إلى التطورات الغربية نظرة مريبة فعكفوا على علوم الدين يُفهِّمونها للناس، داعين إياهم إلى ضرورة التمسك بالهُوية الإسلامية ورفض كل ما عداها من دعوات إقليمية ومذهبية. في هذا الجو المشحون برزت نخبة قليلة تلقت علومها في الغرب، لكنها عادت فحطمت القيود كافة من حولها ولم تُبال بسخط العلماء وانتقاداتهم. ومن ثم، نشأت خصومة بين الإسلام والمدنية الحديثة في واقع المسلمين وعقولهم واحتدم الصراع فوصل إلى مرتبة العنف بين متخرجي جامعة «عُليكرة» المتغربنين والعلماء الديوبنديين (الدرعميين بلغة المصريين، نسبة إلى كلية دار العلوم).

وفي كل الأحوال؛ يمكن القول إن خارطة التيارات الإصلاحية في شبه القارة الهندية بصفة خاصة تنحصر في ثلاثة اتجاهات رئيسية، ابتداء بظهور التيار الإحيائي السلفي ممثلا في شخص كل من: ولي الله الدهلوي، وأبو الأعلى المودودي، ومرورا بالاتجاه التحديثي التغريبي مُمثلا في شخص السيد أحمد خان، وانتهاء بالاتجاه الإصلاحي التجديدي ممثلا في شخص كل من: أبو الكلام آزاد ومحمد إقبال. هذا ويبدو من سياق العصر الذي وجد فيه الدهلوي أنه كان أقرب شبها بعصر شيخ الإسلام ابن تيمية الحراني (ت 728هـ) لجهة انحطاط الدولة وذهاب هيبة الخلافة، وتعويلهما على الكتاب والسنة باعتبارهما الأصل والأساس في حل جميع المعضلات والمشكلات الواقعية، فضلا عن ظهور الحاجة الماسة إلى إعمال العقل واتساع رقعة الاجتهاد والتجديد.

وبهذا التوافق الفكري يصبح لدينا سلسلة مكونة من مؤسس ووسيط ومجدد: أما المؤسس فهو ابن تيمية، وأما الوسيط السابق على الدهلوي فهو الشيخ أحمد بن عبد الأحد المعروف بالإمام السَّرهندي (971 - 1034هـ)، وأما المجدد فهو ولي الله الدهلوي الذي بذل جهودا غير عادية في الإحياء والإصلاح والتجديد.

* كاتب مصري