الاضطراب الديني بين المسيحيين الغربيين وتأثيراته على المسلمين

TT

شهدت الشهور الأولى من عام 2010 انفجار الصراع بين الكاثوليك والبروتستانت في أوروبا أولا، ثم امتد ذلك الصراع إلى الولايات المتحدة، وأميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية والشرق الأوسط. وقد بدأ الأمر ظاهرا بعرض البابا بنديكتوس السادس عشر على «المحافظين» الإنجليكانيين (البريطانيين) العودة إلى «حضن الكنيسة الأم» مع ميزات خاصة أو استقلالية من نوع ما. وقد استغل البابا في ذلك التذمرات التي ظهرت في الأوساط المحافِظة بكنيسة الدولة البريطانية، لإقبال أسقف كانتربري روان وليامز على الاستجابة للتحديثيين داخل كنيسته بقبول النساء في سلك الكهنوت، وإيصالهن إلى الرتبة الأسقفية، وقبول مثليي الجنس في سلك الكهنة، والتسليم بالإجهاض. ويقال إن ما يقارب العشرة آلاف من المحافظين الإنجليكان استجابوا لدعوة البابا، مع ما يتوقع من تأثيرات سلبية على الإنجليكان خارج بريطانيا. وفي الوقت نفسه زاد البابا من عروضه على الصين للعودة للمحادثات مع الفاتيكان بشأن الصينيين الكاثوليك، الذين كانت بكين قد منعتهم من التواصل مع المركز، وفضلت عليهم البروتستانت الذين لا يحتاجون لعلائق خارجية؛ فضلا عن تمتعهم بشكل ما بحماية أميركية. وكانت الحركة الثالثة للفاتيكان الحديث عن حقوق المسيحية في القدس؛ في تمايز عـن الكنائس البروتستانتية التي حصلت على ميزات من إسرائيل، لوجود أجنحة قوية فيها موالية للسيطرة اليهودية على الأماكن المقدسة. قال الفاتيكان إنه يعد لسينودس (مجمع كَنَسي) للبحث في مصائر المسيحية المشرقية آخِر هذا العام. وبحسب إحصائياته فإن عدد المسيحيين في الشرق الأوسط (المشرق العربي) يبلغ سبعة عشر مليوناَ، بينهم خمسة ملايين من الكاثوليك، وهؤلاء يعانون من انقسامات داخلية، ومن منافسات على «المؤمنين» بين الكنائس، ومن ضغوط من اليهود والإنجيليين الجدد. ويأمل الفاتيكان من ذلك كله إحداث نوع من التوازن بعد الاختراقات القوية التي حققها الإنجيليون الجدد في الأساس خلال العقود الثلاثة الماضية، في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية.

بيد أن هذا الهجوم الكاثوليكي المنسق في سائر أرجاء العالَم، واجهَ انتكاسة كبيرة عندما هبت في وجه البابا والفاتيكان قبل ثلاثة أشهر عاصفة «اعتداء» الكهنة الكاثوليك على مئات الأطفال عبر العقود الثلاثة الماضية، في أوروبا وغيرها. وكانت العاصفة ذاتها قد واجهت الكنيسة الكاثوليكية بالولايات المتحدة (2000 - 2005)، وأدت إلى شبه إفلاس في عدة مطرانيات لضخامة التعويضات المادية التي اضطرت لدفعها، فضلا عن الانهيار الجزئي لبنيتها الكَنَسية ويضاف لذلك أن «عزوبية الكهنة» لدى الكنيسة الكاثوليكية، ليست مشكلتها الوحيدة. فهناك مطالب تحديثية كثيرة عالقة منذ عقود، من مثل الإجهاض، وكهنوت المرأة، وحبوب منع الحمل، ومسؤولية مدنيي الرعية في الأبرشيات؛ وهي مطالب استجابت لأكثرها الكنائس البروتستانتية، وظل الفاتيكان شديد الرفض لها، مما أثر على الانتشار الكاثوليكي، وأعطى البروتستانت والإنجيليون الجدد مجالات واسعة للاختراق في أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية على الخصوص.

كيف يؤثر هذا الصراع المحتدم الذين لا ينتظر أن يهدأ في السنوات المقبلة، على المسلمين؟ لدى المسلمين تجاور وتماس مع المسيحيين في المشرق العربي وأوروبا والولايات المتحدة. ومساكنوهم بالمشرق تاريخيا أكثرهم من الأقباط والروم الأرثوذكس، وهؤلاء لديهم مشكلات كبيرة مع البروتستانت والكاثوليك على حد سواء، لأن الطرفين جاءا إلى المشرق مع الاستعمار وحققا اختراقات وولاءات في صفوف الأرثوذكس والأقباط، أَوصلت أعداد الكاثوليك - بحسب الفاتيكان - إلى خمسة ملايين، وأعداد البروتستانت والإنجيليين إلى حدود المليون. وما كانت بين المسلمين والأرثوذكس والأقباط مشكلات كبرى، وفي العقود الماضية كان الأرثوذكس والأقباط قد انتظموا مع الكنائس البروتستانتية الكبرى في مجلس الكنائس العالمي، ومجلس كنائس الشرق الأوسط. وصار المسلمون يتحدثون إليهم من خلال هاتين الوسيلتين؛ إضافة إلى «الفريق العربي للحوار» الذي تشكل قبل عشر سنوات. لكن مجلس كنائس الشرق الأوسط تصدع في السنوات الماضية، وبرزت مشكلات مع الأقباط ومسيحيي العراق، وأنحاء أخرى مختلفة، مما يستدعي حديثا خاصا وقنوات مختصة مع المسيحيين الشرقيين هؤلاء؛ وبخاصة بعد يقظة العالم الأرثوذكسي وعودته للتأثير في روسيا وأقطار يوغوسلافيا السابقة واليونان.

أما الجوار الإسلامي - المسيحي في أوروبا والولايات المتحدة، الذي صار حقيقة واقعة لتزايد أعداد وتأثير الجاليات الإسلامية والمسلمين الجدد في القارتين؛ فإن الجهات العربية - الإسلامية في العقود الخمسة الأخيرة، قادت حوارات واسعة مع الكاثوليك بعد مجمع الفاتيكان الثاني (1962 - 1965)، ومع مجلس الكنائس العالمي في القترة نفسها. واختلفت موضوعات ونتائج تلك الحوارات من عقد لآخَر، لأن الجهات العربية المحاوِرة ما كانت واحدة أو منسقة أو منتظمة، ولاختلاف الظروف السياسية خلال الحرب الباردة وبعدها، كما للاختلاف في سياسات الفاتيكان ومجلس الكنائس العالمي. والواقع أن أكثر تلك الحوارات حتى مطالع الألفية الثالثة كانت تتعلق بالمشكلات السياسية وبخاصة قضية فلسطين. أما في العقد الأخير فقد ظهرت في الوعي وبشكل مستقل قضية الإسلام بأبعادها العالمية (مشكلة الإرهاب؟)، وقضية الوجود الإسلامي بالغرب وبخاصة في أوروبا. وتبدو مواقف الكنائس البروتستانتية الكبرى والتقليدية تجاه المسلمين في الغرب أكثر تفهما ورحابة. بينما يظهر الفاتيكان تشددا تجاه المسلمين حينا، وترددا حينا آخَر. والملاحَظ أن قضايا «عيش» المسلمين في الغرب تعتبر مشكلات في الدول ذات الأكثرية الكاثوليكية، وهي التي ظهرت فيها مسألتا الحجاب والنقاب. وحتى البابا نفسه أكثر تشددا لاهوتيا ضد الإسلام، وعارضَ لفترة دخول تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. وقبل موقفه عام 2006 الذي أثار عليه فيه المسلمين، كان معروفا عنه أنه طرح قضية الحجاب عندما كان مطرانا في ميونيخ في السبعينات. لكن، ورغم المركزية الشديدة في الكنيسة الكاثوليكية، فإن المعروفَ أن البابا السابق يوحنا بولس الثاني كان في مواقفه عامة ظاهرَ الود تجاه المسلمين. ثم إن مقررات المجمع الفاتيكاني الثاني لا تزال فاعلة ومؤثرة في أوساط من العلماء واللاهوتيين الكاثوليك، وهي تعمل على الاعتراف بالمسلمين من ضمن أطروحة الديانات الإبراهيمية. أما في الجانب البروتستانتي - ورغم تراجع دور مجلس الكنائس العالمي - فيحسَب للكنائس الكبرى التقليدية، أنها ما تراجعت في مسائل الحوار مع المسلمين، والاعتراف بالإسلام، حتى في حقبة ظهور الأصوليات البروتستانتية، وعهد بوش وما شنه من حروب على «الإرهاب الإسلامي».

أما المسملون فقد أحسوا بالحصار في العقد الماضي بعد أحداث 11/9/2001، فتسارعت طروحات الحوار عندهم، ومع المسيحيين، على اختلاف فئاتهم، كما مع الديانات والثقافات العالمية؛ حتى بلغت ذِروتَها في دعوة الملك عبد الله بن عبد العزيز عام 2007 للحوار العالمي مع الديانات والثقافات، انطلاقا من الفاتيكان. ومن مؤسسة آل البيت بالأردن انطلقت مبادرة «الكلمة السواء» مركزة على البروتستانت. وكانت للمبادرتين، وبخاصة مبادرة الملك عبد الله آثار إيجابية في أوساط السياسيين والرأي العام المسيحي واليهودي والبوذي والهندوسي. إنما ما كانت للمبادرات آثار مباشرة على أَوضاع المسلمين في أوروبا؛ رغم أن الأتراك دخلوا أيضا في مبادرة «تحالف الحضارات» التي أطلقها رئيس الوزراء الإسباني عام 2005.

كنت في ألمانيا قبل أسبوعين، وألمانيا بروتستانتية الروح والعقل، لكن الكاثوليك صاروا نصف السكان تقريبا، والبابا الكاثوليكي منهم. وفي اليوم نفسه كانت وسائل الإعلام الألمانية مشغولة بحدثين دينيين بارزَين: البابا الألماني يزور البرتغال الكاثوليكية وقديستها فاتيما، ويكرر اعتذاراته عن جنايات الكهنة على الأولاد في الفترة التي كان هو فيها مطرانا لميونيخ، فيظهر على التلفزيون كهنة وعلمانيون يرفضون اعتذاراته، ويعلنون خروجَهم من الكنيسة. وفي مدينة ميونيخ - وهي حاضرة كاثوليكية في الأصل - يعقد البروتستانت مؤتمرهم السنوي الذي يحضره آلاف مؤلفة، تحتفي بسيدة بروتستانتية كانت تتسنم منصبا رفيعا في الكنيسة البروتستانتية الألمانية، لكنها استقالت من منصبها لخطأ ارتكبته في حادث سَير. والذين يهتفون لها من الشبان والشِيب يعَرضون بالبابا وكهنته الذين يرتكبون «جرائم» ثم لا يستقيلون ولا يتوبون! وهكذا فهناك عودة إلى الدين في أوروبا، تظل ملحوظة رغم أنها لا تبلغ في الانتشار والتأثير ما بلغته في الولايات المتحدة. وهؤلاء العائدون الجدد يرتكبون تجاوزات تجاه خصومهم الدينيين من الفريق الآخر؛ فتزداد الشكوى من الطرفين، وليست لدى الطرفين أو الأطراف روح تصالحية. ولذا فالمنتظَر أن يستمر الاضطراب في العلائق، وأن تستمر - ومن الطرفين - محاولات كسب العلمانيين والمتدينين. وكما سبق القول؛ فإن الطرفين لا يظهران ودا زائدا تجاه المسلمين لكن تقاليد المواطنة والفردانية في الأقطار البروتستانتية المنزع، تبدو أرحَب تجاه المسلمين. أما مواقف الكنيسة الكاثوليكية في فلسطين فإنها أكثر إيجابية في المدى المتوسط. ولذا فقد يكون المخرج الأفضَل إظهار حيادية قوية، وفي الوقتِ نفسه البقاء في استعداد دائم لمبادرات الحوار من الطرفين.