مقاربات جديدة حول الإسلام والمسلمين والديمقراطية

TT

لا يزال الاشتباكُ القائم بين «الإسلام» و«الديمقراطية» محركا لكثير من الدراسات والأبحاث التي تهتم بتناول هذه الإشكالية. وفيما تنحى بعض الدراسات إلى القول بالترادف بينهما، ينحو بعضها الآخر إلى إثبات تعارضهما بالكلية! وما بين هذا وذاك ثمة اتجاه ثالث يحاول التوفيق بين مضامين كل منهما: إما بإعادة استكشاف التجربة السياسية التاريخية للأمة الإسلامية - مع إبراز جوانبها الإيجابية - أو بالتعويل على مضامين النصوص الدينية - مع الإشارة لبعض تطبيقاتها العملية - وصولا إلى الجزم بعدم وجود مشكلة بين الإسلام والديمقراطية، وأن اللبس الحاصل يرجع إلى عدم التزام المسلمين بتعاليمهم الدينية. ونتيجة لذلك؛ لم يخفف من حدة هذا الاشتباك قول البعض إن المسلمين قد سبقوا الأمم الأخرى في إرساء المبادئ الإسلامية الديمقراطية، وفي تطبيقاتها التاريخية العملية: نصا وروحا، ولا ذهابُ البعض الآخر إلى القول بانعدام وجود الديمقراطية: حالة وتأسيسا، نصا وتطبيقا، في التاريخ الإسلامي كلية! ذلك أن كلا الموقفين ينزع إلى التطرف في بحث الإشكالية ويخرج بها من سياقاتها المعرفية الرحبة إلى عوالم الأدلجة والتحيزات والأحكام الشخصية. وفي المقابل؛ يثير أصحاب الاتجاه الثالث - خاصة رموز الحركات السياسية الإسلامية - عددا من التساؤلات أكثر مما يقدمون إجابات شافية، أو نهائية، بشأن تلك الإشكالية. في هذا السياق، ينزع الموقفان: المساوي بين الإسلام والديمقراطية، والموفق بينهما إلى التأكيد بأن الإسلام لم يتبن نظاما سياسيا معينا - رئاسيا كان أم جمهوريا - وإنما ترك المجال واسعا لاختيارات الشعوب وفق منطق العصر وتطور المجتمعات البشرية، آخذا بعين الاعتبار حقيقة أن لكل حقبة تاريخية خصوصيتها الذاتية، وأسلوبها في اختيار الحاكم وتسيير منظومة الدولة. أيضا ثمة تأكيد في هذا الإطار على أن مصطلح «المواطنة» قد تم استيعابه والعمل به في النظام الإسلامي منذ الصدر الأول للإسلام حين قال الفاروق عمر قولته الشهيرة للعجوز اليهودي: ما أنصفناك حين أخذنا منك «الجزية» وأنت شاب، وتركناك عالة على الناس تتسوّل وأنت شيخ؛ اصرفوا له راتبا من بيت مال المسلمين! ومن أجل فهم أفضل للتوافق بين مصطلحي: الشورى والديمقراطية؛ يعوّل الإسلاميون على القاعدة الأصولية التي تنصّ بأن لا مشاحة في الاصطلاح، بمعنى أن الاتفاق حول المضمون هو الأهم، وأن العبرة إنما تكمن في المعاني وليس في الألفاظ والمباني. وتأسيسا على ذلك؛ يخلصون إلى القول: إذا كان مصطلح الديمقراطية يعني أن يحكم الشعب نفسه بنفسه عبر ممثليه ونوابه المنتخبين بشكل حر وسليم - كما هو متعارف عليه في الأدبيات السياسية - فإن الشورى/ الديمقراطية قد تحققت بأسمى معانيها من خلال سيادة الأمة التي لا مانع لديها يحول دون استعمال لفظة الديمقراطية بديلا عن الشورى أو بمعناها، كما أنها لا تشعر بضير أو غضاضة حين يقال عنها: إنها أمة ديمقراطية بدلا من القول إنها أمة شوروية، فهذا ما ينشده الإسلام الوسطي المعتدل في خضم جنوح بعض المسلمين إلى التعصب والتطرف والوقوف عند الألفاظ والشكل دون المضمون والجوهر.

أيضا لا يكتفي الإسلاميون بمجرد الربط بين كلا المفهومين بالنظر إلى تحقق معناهما، وإنما يرومون إلى فك الاشتباك القائم عند البعض بين الديمقراطية والعلمانية، حين يؤكدون أن الديمقراطية نظام سياسي فيما العلمانية مشروع فكري آيديولوجي انبثق من خلال الممارسات الكهنوتية للكنيسة الأوروبية. وأن العلمانية قد تكون عبئا على الديمقراطية ذاتها، كما هو الحال في تركيا وفرنسا اللتين قيدتا الحريّة الشخصية للمرأة بسبب التزامها بالحجاب الشرعي، وهو ما يتناقض مع مبادئ الديمقراطية في الحرية الشخصية والتعددية الدينية. ومن بين الدراسات المهمة التي ظهرت بخصوص هذا الشأن دراسة ميدانية قام بها الباحث المصري معتز بالله عبد الفتاح تحت عنوان: «المسلمون والديمقراطية» حاول فيها الإجابة على بعض التساؤلات المهمة وفي مقدمتها: ما الذي يعتقده المسلمون بشأن الديمقراطية كقيم ومؤسسات؟ وهل تزيد معتقداتهم من فرص إحداث التحول الديمقراطي في المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة، أم أنها تنال من فرص هذا الحراك؟ وقد قام الباحث برصد التوجهات التي يتبناها المسلمون نحو الديمقراطية وبدائلها منتهيا - بعد أن شمل استطلاعه 31.380 مسلما في اثنتين وثلاثين دولة ذات أغلبية مسلمة - إلى القول: إن المسلمين ليسوا ضد الديمقراطية بشكل غير عقلاني، أو انفعالي - كما حاول بعض الدارسين إظهارهم على هذا النحو - ولكنهم ينظرون إلى الديمقراطية - سلبا أو إيجابا - على حسب العوائد المتوقعة منها في ضوء خبراتهم السابقة من جهة، أو ما وصل إليهم من معلومات عن مميزات أو عيوب الديمقراطية من جهة أخرى.

والواقع أننا لا نعدم وجود كثير من الأمثلة التاريخية التي تدل على هذا الأمر: ابتداء بعزل السلطان العثماني سليم الثالث سنة 1807 استنادا لفتوى المفتي العثماني عطا الله أفندي، التي جاء فيها: «إن كل سلطان يُدخل نظامات الإفرنج وعوائدهم، ويُجبر الرعية على اتباعها لا يكون صالحا للملك»!، ومرورا باستخدام الحجة ذاتها من قبل السلاطين لقمع قوى المعارضة مثلما فعل الشاه الإيراني محمد علي بن مظفر الدين القاجاري عندما أشاع أن النظام الدستوري الذي تدعو إليه الحركة المناهضة لحكمه يخالف الإسلام، وأنهم يسعون لإلغاء الخلافة الإسلامية واستبدالها بأنظمة الغرب الكافر! وليس انتهاء بالرسالة التي بعثها الإمام اليمني أحمد الشامي لاستنهاض شيوخ القبائل ضد مطالب المعارضة التي جاء فيها: «هل يرضيكم أن يحل محل شريعة الله حكم القانون، وأن يُستبدلَ بالقرآن الدستور، وتباع اليمن للنصارى؟»! أما الكتاب الجديد الذي قمت بتقديمه وصدر مؤخرا بعنوان «الإسلام والحداثة، الانسحاب الثاني من مواجهة العصر؟»؛ فقد اشتمل على ثلاث أوراق تدور حول هذا الموضوع: أولها للكاتب الإندونيسي سوكيدي موليادي بعنوان: «حول العجز الديمقراطي في العالم الإسلامي»، وفيها يؤكد «فشل الدول الإسلامية في تأسيس أنظمة حكم ديمقراطية، وإن كان هناك بعض المؤشرات القليلة التي تدل على وجود تقدم ملموس في مدى الانفتاح السياسي». الورقة الثانية للباحث لطفي الشوكاني وتحمل عنوان: «هل الفقه السياسي ما زال مناسبا؟ وجهة نظر جديدة للفكر السياسي الإسلامي»، وفيها يؤكد أن الفلسفة السياسية، كما هي متضمنَة في كتابات فلاسفة الإسلام بإمكانها أن تحل بديلا عن الفقه السياسي الذي ظل خاضعا لقيم دينية معينة حالت دون تطوره! أما الورقة الأخيرة؛ فللكاتب مارسودي كيسوورو وتحمل عنوان: «دور الاتصالات والمعلوميات في دمقرطة العالم الإسلامي». وفيها يؤكد ضعف الارتباط بين مجموع عدد المسلمين وانتشار تكنولوجيا الاتصالات، وقوة الارتباط بين الديمقراطية والتكنولوجيا مُرجعا سبب هذا الضعف إلى تدني مستوى الديمقراطية في أغلب الدول الإسلامية.

* كاتب مصري