علماء دين وأساتذة إعلام لـ«الشرق الأوسط»: فتاوى مذيعي الفضائيات «فهلوة».. وأصحابها آثمون

طالبوا بتشريع ديني حاسم لردعها

البرامج الدينية في الفضائيات العربية في حاجة ملحة لاستضافة العالم الديني المتخصص للإجابة عن استفسارات المشاهدين في قضايا دينية شائكة («الشرق الأوسط»)
TT

بعد تزايد الاتهامات بمخالفتها الشرع ووقوعها في الهوس والفهلوة واتساع نطاقها على الفضائيات العربية، أصبحت البرامج الدينية موضع تساؤل، خاصة أن أغلب مقدميها تحولوا إلى شيوخ ومفتين، يبادرون بالإجابة عن استفسارات المشاهدين، في قضايا دينية شائكة، تحتاج إلى رأي العالم المتخصص، بل وصل الأمر ببعضهم إلى مصادرة رأي ضيفه سواء كان شيخا أو عالما ليستأثر لنفسه بالإجابة. كما تحولت هذه الفضائيات إلى حلبة صراع للنقد بين المذيعين القدامى والجدد تحت دعوى الحداثة ومجاراة لغة العصر. حتى باتت الحاجة ملحة لإعادة النظر في طبيعة هذه البرامج والقائمين عليها صونا لوعي المسلمين، وعدم وقوعهم في التشتت والالتباس جراء هذه الفوضى.

وفي استطلاع لـ«الشرق الأوسط» أجمعت كوكبة من علماء الدين وأساتذة الإعلام على أن هذه الفتاوى «سلق بيض» ونوع من «الفهلوة»، واستثمار لربح مادي بغيض، وأنها مرفوضة شكلا وموضوعا، وتصم من يفتون بها بالإثم. وطالبوا بإصدار تشريع ديني رادع لوقف مثل هذه الفتاوى التي أصبحت «آفة»، على حد قولهم، وتصيب المجتمع في مقتل..

في البداية أوضح الدكتور علي النجار الأستاذ في كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول «أجرؤكم على الفتوى أجرؤكم على النار»، هذا الحديث النبوي الشريف يتأسى به كل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فهذا الذي يتجرأ على الفتوى في أمر الدين من غير علم ولا دليل إنما يورد نفسه النار دون أن يدري، ولعله يدخل تحت قول النبي الكريم «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار».

ويرى الدكتور النجار أن الذين يفعلون ذلك إنما ساعدهم على ذلك عدة عوامل، منها تخلي بعض هؤلاء الذين تلقوا العلم الديني والشرعي في مؤسسة الأزهر عن القيام بدورهم المنوط بهم تجاه المجتمع، فتجد أحدهم يترك المسجد الذي بجواره ليصلي فيه أحد الذين يشغلون حزمة من الحرف، فإذا استمعت إليه تجده لا يستطيع قراءة الفاتحة قراءة صحيحة، والأدهى والأمرّ أن يتعدى هذه المرحلة ليصعد منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخطب في الناس ويفتيهم في أمور دينهم، ولو أدى كل منا عمله المنوط به لصلح حال المجتمع، فهذا العامل يحتاج إلى العالم ليفتيه، والعالم يحتاج إليه وإلى حزمته لتسيير شؤون حياته، إذ يقول المولى سبحانه وتعالى «وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا». كما أن العلم الديني قبل احتياجه إلى علماء يحتاج إلى رجال يقومون بالدين مع علمهم، فالمولى سبحانه وتعالى مدح في غير موضع في القرآن رجالا يدافعون عن الدعوة ولم يكونوا علماء إذ يقول سبحانه «وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ..» سورة القصص. وقال الله في سورة يس «وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ». فلم يقل القرآن وجاء شخص أو جاء إنسان وإنما قال وجاء رجل، وصفة الرجولية هي التي دعت هذين الرجلين إلى الوقوف في وجه الطغاة والظلمة العتاة للدفاع عن الدعوة، ولما كان معظم علمائنا في أيامنا هذه يتحلون بالعلم، ولكنهم يخشون في الله لومة لائم، تجرأ غير المختصين على النيل من القرآن والسنة، ومن ثم تجرأوا على الفتوى لأنهم علموا أنهم سيقولون ما يريدون ولا يردهم أحد، وما كنا نرى أمثال هؤلاء يتحدثون منذ سنوات قليلة، وما كنا نرى لهم منابر حين كان يعيش بيننا رجال أمثال الشيخ محمد متولي الشعراوي، والشيخ جاد الحق علي جاد الحق، والشيخ محمد الغزالي وغيرهم، ومن ثم نقول لعلمائنا اجعلوها خالصة لله، إذ إننا لو أخلصنا دعوتنا لله ما وجدنا من يطالب بالمساواة بين الرجل والمرأة في الميراث ليلغي بذلك نصا ثابتا في القرآن، وما وجدنا امرأة تطالب بالمساواة في الشهادة بين الرجل والمرأة لتضرب الحائط بنص قرآني ثابت.

وذكر الدكتور عادل عبد الشكور الداعية الإسلامي أن المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، كان يؤمن بالتخصص، لأمور منها اختلاف القدرات البشرية في تسيير الأمور، والإعلام قائم الآن على عكس ذلك، فالشخص غير المناسب غير المؤهل في المكان غير المناسب، خصوصا عندما يتحدث باسم الدين، فالله يقول «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ»، ومن هم أهل الذكر؟ هم أهل التخصص من رجال الدين والدعاة المؤهلين علميا ودعويا للقيام بهذه المهمة، والعجيب أنه عندما يتحدث أحد في الرياضة من غير الرياضيين تقوم غضبة شديدة من المجتمع الرياضي، كذلك المجتمع الفني وغيره، وعند الحديث عن الدين تتعالى الأصوات وتختلط، ويختلط الحابل بالنابل وكأن الدين هو الولد اليتيم الذي لا أهل له. إن المفترض إذا أردنا أن نقيم منظومة دعوية سليمة لا بد أن يقوم بها المؤهلون بذلك، وعندما نقول عن المؤهلين نعني المتخصصين، وهنا يأتي دور الأزهر «النائم» في هذه القضية، فمن ذا الذي يدافع عن الدين وتراث الأمة إذا لم يدافع الأزهر ورجاله؟! وبنبرة غضب يتابع الدكتور عبد الشكور حديثه قائلا: إن المشكلة الآن تكمن في أن غير المتخصصين في مجال الدعوة فرغوا الدين من مضمونه واختزلوه في بعض الأمور، لذا قلّت نسبة التأثير الديني في المجتمع بنسبة كبيرة، إن لم تكن صفرا في زمن كثرت فيه الفضائيات والمنابر الإعلامية المختلفة، فلو نظرنا إلى الإعلام الديني على سبيل المثال في التلفزيون المصري منذ عقدين من الزمن كانت برامجه الدينية محدودة كحديث الشيخ محمد متولي الشعراوي، وحديث الروح، ومع ذلك كان التأثير المجتمعي أقوى لأن من كان يقوم بأمر الدعوة شخص مؤهل التأهيل الكامل والإخلاص لله سبحانه وتعالى، فلم تكن الدعوة إلى الله نوعا من البزنس أو المنفعة أو التربيطات أو مجرد «سلق بيض»، أو قائمة على الشكل الهش أو ما يعرف بطريقة «الشو»، والأخطر من ذلك أن أشباه الدعاة وأنصاف الدعاة عندما يضيق بهم المقام لضحالة ثقافتهم ومحصلتهم الدينية يطعنون في ثوابت الأمة وفي تراثها فيجوز بعضهم شرب السجائر في رمضان، وآخر يجيز القبل والأحضان بين البنت والولد، ولا أدري أهو استخفاف بعقول الأمة أم إنه دليل دامغ على الجهل وضحالة الفكر؟ وإذا كان الأمر كذلك فإن إظهاره للناس «خيانة» لله ولرسوله، ورأينا آخر يطعن في علماء الأمة ومفكريها، أمثال الإمام الطبري والقرطبي وابن تيمية وابن القيم وغيرهم، ويقول إن آراءهم قد عفا عليها الزمن وأصبحت غير ذات قيمة، مستندا في ذلك لأقوال الصحف.

وخلص الدكتور عبد الشكور الداعية الإسلامي إلى أن آفة الدعوة الحديثة تكمن في أنها تفتقر إلى المؤهلين المخلصين الذين لا يبيعون الآخرة والدين بعرض من أعراض الدنيا، وأن أمثال هؤلاء يفسدون على الناس دينهم وهم جزء لا يتجزأ من خطة أعداء الدين والأمة، وما أحوجنا إلى أن نقف مع أنفسنا لتصحيح المسار.

ومن جهته قال سعد المطعني، كبير مذيعي إذاعة القرآن الكريم في القاهرة: من الضروري أن يعرف كل إنسان مجاله الذي يعمل فيه وتخصصه الذي تخرج فيه، فليس كل المذيعين الذين يعملون في الحقل الديني من حملة الشهادات الدينية أي ليسوا من خريجي الأزهر بل هم خريجو كليات أخرى، وبالتالي يجب على كل من يتصدى للفتوى أن يعلم أن «أجرؤكم على الفتوى أجرؤكم على النار»، وأنه من أراد أن يتصدى للفتوى يجب أن يكون عالما بعلوم الدين المختلفة سواء القرآنية أو الأحاديث النبوية، وعليه أن يعرف الضرورات الحياتية وظروف المستفتي ثم يطبق الرأي الفقهي الذي يناسب العصر، ويجب أن يلم إلماما كاملا بفتاوى العلماء السابقين والمعاصرين.

وتساءل المطعني: هل من يتصدى للفتوى يعلم أن هناك فرقا بين الرأي والفتوى والاجتهاد. لذلك فإنني أربأ بالمذيع أن يدخل في مجال الفتوى إلا إذا كان مؤهلا، والمشكلة أن الفتوى أصبحت كلأ مباحا لكل من قرأ فتوى، وتمثل خطورة على المجتمع وتقلل من شأن العلماء المتخصصين. والخطأ الأعظم أن عامة الناس ينظرون إلى المذيع على أنه مفت ويسألونه في أمور دينية معينة، ولكن الواجب عليه عندما يتصل به أحد ليسأله سؤالا معينا أن يحيل هذا السؤال إلى أهل الفتوى حتى يربأ بنفسه من الوقوع في فتوى قد يترتب عليها ما لا يحمد عقباه مثل فتاوى الطلاق والرضاعة.

واتفق معه المذيع كرم من الله السيد، مؤكدا أن الرؤية المبدئية لوضع القنوات الفضائية بشكل عام ومقدمي البرامج بشكل خاص غاية في السوء ما لم يتم تقنين أوضاعهم من قبل رقابة حكيمة ورشيدة من مختلف الجهات، ولا سيما الجهات الدينية.

وانتقد السيد إجابة بعض المذيعين لأسئلة المشاهدين على الهواء مباشرة بالحلال والحرام، مذيلا كلامه بعبارة «والله أعلم» دون أن يكون مؤهلا للفتوى.

ومن جانب آخر، أكد الدكتور محمد وهدان، أستاذ الإعلام في جامعة الأزهر أن الدعوة إلى الله واجبة على كل مسلم بالقدر الذي يعرفه، فالكل يجب أن يعملوا دعاة إلى الله في حدود فهمهم، أما عن الإفتاء في أمور الدين فله دعاة متخصصون، فلإسلام يؤمن بالتخصص كما قال الله تعالى «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ»، وأهل الذكر هنا هم المتخصصون في كل مجال من مجالات الحياة.

وأضاف الدكتور وهدان: الفتوى الآن أصبحت كلمة «مباحة» وتعاني من الفوضى، ويجب على كل من يدعو للدين في وسائل الإعلام أن يكون من حفظة كتاب الله وسنة رسوله وعالما بالسنة وعارفا بعلم اللغة، لأن من لا يحسن اللغة لا يحسن الفهم، مشيرا إلى أن الذين يعملون في البرامج الدينية ويتفرغون للإفتاء ينبغي أن يتوقفوا عند هذا الحد، لأنه أمر مرفوض شكلا وموضوعا، ويجب ألا يكون هذا الأمر استثمارا للدين لتحقيق أغراض وأهداف معينة.

واستطرد الدكتور وهدان قائلا: إن هذه موجة هدفها تحقيق الثراء المادي وهؤلاء «آثمون» شرعا ويجب على المواطنين عدم أخذ النصيحة من هؤلاء لأنه أمر ديني ويجب النظر إليه جيدا، موضحا أن مجمع البحوث الإسلامية يدرس الآن إصدار تشريع ديني لتحريم الفتوى لغير أهل الاختصاص، وسيتم عرضه على لجنة الشؤون الدينية في مجلس الشعب المصري (البرلمان) لإصدار القانون.

وقال الدكتور محيي الدين عبد الحليم أستاذ الإعلام في جامعة الأزهر: أصبحنا الآن أمام هوس إعلامي في مجال الفتوى، وكل واحد قرأ كتابا يصبح مفتيا من خلال القنوات التي تركت الحبل على غاربة، مضيفا أنه دائما نقول إن الرسالة الإعلامية لن تصل للهدف المرجو منها إن لم يكن مقدمو البرامج «محبي» لنوعية البرامج الدينية.

وأعرب الدكتور شعبان شمس عميد كلية الإعلام في جامعة 6 أكتوبر بالقاهرة عن أسفه لتحول الكثير من البرامج الدينية إلى برامج تجارية، وذلك بأن يقوم مقدم البرنامج بإثارة الضيف واستدراجه لإصدار فتوى معينة حتى يجذب المعلنين والرعاة لبرنامجه.

واستطرد الدكتور شمس قائلا: يجب أن يكون اختيار مقدم البرامج مبنيا على أسس سليمة وعلمية ولا بد أن يكون ذا خلفية شرعية مؤصلة علميا، وكذلك خلفية ثقافية جيدة، وأن يكون على دراية واطلاع بالقضايا الفقهية المعاصرة، وأن يكون من المشهود لهم بسلامة المنهج فكريا، رافضا أن تقدم برامج الفتوى على الهواء مباشرة، لأن الفتوى تحتاج إلى بحث ودراسة حتى تخرج الإجابة التي تتفق مع الشريعة.

وقال الدكتور عبد الراضي حمدي مدرس الإعلام في جامعة الأزهر: إن ظاهرة تحول المذيعين إلى دعاة ومفتين إنما تدخل في إطار العشوائية، وعدم الالتزام والدخول في تخصصات الآخرين، وهي سمة تميز المجتمعات النامية، فالكل إعلامي والكل مفت، ولا تواصل بين هذا وذاك، المهم هو أن يتمتع الشخص بأكثر من موهبة دون النظر إلى التخصص العلمي الدقيق، فأصبحنا نعيش فوضى الفتاوى نتيجة دخول فئة غير مؤهلة وغير مدربة وغير مطلعة على كتب الفقه وأصوله. ومن المعروف في مجال الإعلام أن القائم بالاتصال لا بد أن يلتزم بالموضوعية والحياد، ولا بد أن تتوافر فيه شروط ومواصفات معينة حددها الخبراء، ولكن أن يتحول المذيع إلى داعية أو مفت فهذا أمر غير مقبول، وأعتقد أن هذا الشخص لم يدرس الإعلام ولا أصول الفتوى وإنما يعتمد اعتماد كليا على مهارة التحدث فقط دون النظر إلى عوامل أخرى قد تحدث ضررا بالمجتمع، فهو يعطي مثالا ونموذجا ظهر في العالم العربي مؤخرا وأفرزته الحياة المعاصرة ورصده الباحثون في علم الاجتماع وعلم النفس وهي شخصية «الفهلوي» الذي يتحدث في كل شيء وعن كل شيء، فهو مذيع ومفت ومفسر أحلام وخبير اجتماعي وعالم دين، وهذه الشخصيات بدأت تظهر بقوة في الآونة الأخيرة في وسائل الإعلام العربية، مما يشكل ضررا جسيما ويشوه صورة الإعلاميين ويعطي الفرصة لكل فرد، بغض النظر عن مؤهلاته، أن ينصب نفسه مفتيا، فالقضية خطيرة وتحتاج منا لوقفة جادة للقضاء لوأد هذه الآفة، وأن نضع شروطا لا يخرج عنها أحد، وتفعيل ميثاق العمل الإذاعي، والاستعانة بشخصيات مثقفة وواعية تعرف حدود عملها ولا تخرج عن المألوف.