محمد إقبال وترجمة جديدة لكتابه «تجديد الفكر الديني في الإسلام»

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

«لأن يقضي المرء حياته كلها في ترجمة كتاب واحد ترجمة جيدة وافية؛ خير له من أن يترجم مائة كتاب ترجمة سيئة ناقصة!».. هكذا يؤمن الأستاذ محمد يوسف عدس، المستشار السابق بمنظمة اليونيسكو، الذي ينتمي إلى طائفة نادرة من المترجمين ممن يصرفون جهودا غير عادية لنقل الكتاب المترجم بالروح نفسها التي كتب بها إلى القارئ العربي.

وهذا ليس غريبا عليه؛ وهو الذي استغرق في ترجمة كتاب علي عزت بيغوفيتش «الإسلام والغرب» عدة سنوات، وبلغ به الإجهاد حدا أُدخل بسببه أحد المستشفيات البريطانية لعدة أيام! وما إن ظهرت الترجمة العربية للكتاب حتى تلقفتها الأيدي ونفد سريعا من الأسواق وأعيد طبعه عدة مرات لدرجة أن الطبعة الأخيرة لدار «الشروق» المصرية نفدت هي الأخرى من السوق في أقل من أسبوعين! ومحمد يوسف عدس صاحب منهج فريد في الترجمة، فهو من ناحية يحافظ على بنية اللفظ في لغته الأصلية ويلتزم بها قدر الطاقة الإنسانية، لكنه - من ناحية أخرى - يميل أكثر فأكثر للمحافظة على روح النص المترجم. وهو ما يبدو واضحا في ترجمته الكاملة لمؤلف محمد إقبال «تجديد الفكر الديني في الإسلام» التي ستطبع قريبا ضمن إصدارات «مشروع إعادة إصدار كتب التراث الإسلامي في القرنين الثالث والرابع عشر الهجريين» الذي تقوم به مكتبة الإسكندرية بشراكة مع مؤسسة «كارنيغي» الأميركية.

جدير بالذكر أن هذا المشروع الضخم يهدف إلى تكوين مكتبة متكاملة ومتنوعة تضم مختارات من أهم الأعمال الفكرية لرواد الإصلاح والتجديد الإسلامي خلال القرنين الأخيرين، وإتاحة هذه المختارات للشباب بصفة خاصة مع ترجمتها لكل من الإنجليزية والفرنسية مصحوبة بتقديمات علمية لباحثين متخصصين في الفكر الإسلامي.

وتشير تلك التقديمات عادة إلى موقع الكتاب في سياق مشروع المؤلِف، وتعاطي المشاريع الثقافية الأخرى المعاصرة له سلبا أو إيجابا، مع تعريف موجز بالمؤلف وحياته وأبرز مؤلفاته. وقد أنجزتُ شخصيا ثلاثة تقديمات ضمن هذا المشروع المهم حتى الآن: أولها عن كتاب «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية» لمؤلفه الشيخ مصطفى عبد الرازق (1885 - 1947)، وثانيها عن كتاب «الحياة الروحية في الإسلام» لمؤلفه محمد مصطفى حلمي (1904 - 1969)، وثالثها عن كتاب «القرآن والفلسفة» لمؤلفه محمد يوسف موسى (1899 - 1963).

أما ترجمة كتاب إقبال فستصدر مصحوبة بمقدمة للزميلة الشيماء الدمرداش العقالي، وقد انتهت منها بالفعل، وتمت مناقشتها في الجلسات التي تعقد شهريا لمراجعة المسودات الأولى والنهائية الخاصة بكل تقديم على حدة. ومن اللافت للنظر في هذا السياق أن كتاب إقبال سينشر كاملا للمرة الأولى؛ ذلك أن ترجمة عباس محمود كانت قد أدمجت الفصل الرابع من الكتاب وهو بعنوان «الذات الإنسانية: حريتها وخلودها» مع الفصل الثالث وهو بعنوان «الألوهية ومعنى الصلاة» مع حذف أجزاء منه. ومن ثم؛ يشتمل الكتاب في صورته الجديدة على سبع محاضرات كاملة بدلا من ست، وذلك بحسب النسخة الإنجليزية الكاملة التي صدرت تحت عنوان: «The Reconstruction of Religious Thought in Islam».

أضف إلى ذلك أيضا؛ أن المترجم آثر أن يكون عنوان الكتاب «تجديد الفكر الديني في الإسلام» بدلا من «تجديد التفكير الديني في الإسلام»، مع استخدامه لمصطلحيْ «الجواني» بدلا من الداخلي و«البراني» بدلا من الخارجي، للتعبير عن مضمون الذات الإنسانية. كما آثر المترجم أيضا استخدام لفظة «التجربة الدينية» بدلا من «الرياضة الدينية»، وهو يذكر صراحة أنه قد عول في ذلك الترجيح على ما خلفه الدكتور عثمان أمين - أحد رواد الدرس الفلسفي في النصف الثاني من القرن العشرين - من تراث فلسفي بهذا الشأن؛ خاصة ما ورد في كتابه: «الجوانية: أصول عقيدة وفلسفة ثورة» (مارس 1963).

والجوانية - كما يقدمها عثمان أمين - فلسفة تنظر إلى «المخبر» ولا تقف عند «المظهر»، وتلتمس «الباطن» دون أن تقنع «بالظاهر»، وتفحص عن «الداخل» بعد ملاحظة «الخارج»، وتلتفت دائما إلى «المعنى» و«القيمة» و«الروح» من وراء اللفظ والحس والظواهر. وكان المترجم قد تتلمذ على يد صاحب الجوانية إبان عقد الخمسينات من القرن الماضي.

ومن الأمور المهمة الدافعة لإعادة ترجمة هذا الكتاب وتقديمه للقارئ العربي؛ أن فكر إقبال الفلسفي لم يحظ بما يليق به من العناية والاهتمام على نحو ما لقي شعره من الحفاوة والتقدير. فضلا عن أنه ضمن كتابه هذا خلاصة فكره ومشروعه الفذ لنهضة المسلمين في العالم الحديث. وقد أثار الكتاب منذ ظهور ترجمته الأولى جدلا كبيرا بشأنه في الأوساط الفكرية الغربية والعربية على حد سواء. ومع ذلك؛ فلا الذين امتدحوه كانوا على وعي كامل ودقيق بما امتدحوه فيه، ولا الذين انتقدوه عرفوا حقيقة ما يستحق النقد فيه، فقد كانوا جميعا أمام نص مترجم إلى العربية يحمل في ثناياه عيوب مترجميه لا عيوب مؤلفه الحقيقية.

ذلك أن الترجمات العربية المبكرة لهذا الكتاب كان قد جانبها الصواب في مواضع كثيرة، ولم تكن على المستوى اللائق به. على أن التقصير لم يكن من جانب الذين تصدوا للترجمة - فقد بذلوا قصارى جهدهم بإخلاص ملحوظ - لكن بذل قصارى الجهد لا يكفي أحيانا، خصوصا مع نص فلسفي شديد العمق لمؤلف موسوعي النظرة، يعرض رؤى غير مألوفة، شديدة التكثيف عن الكون والحياة والخلق والذات والزمان، والحقيقة المطلقة والوجود.. إلخ.

ناهيك عن استخدام إقبال مصطلحات خاصة به، بعضها غير مألوف نظرا لأنها كتبت بلغة إنجليزية كلاسيكية تنتمي إلى القرن التاسع عشر الميلادي، حيث كانت لغة المفكرين والفلاسفة المعاصرين له ممن عرفهم والتقى بهم فصادقهم وتحاور معهم. لغة مغموسة بروح إقبال الشاعرية، ممزوجة بثقافته الإسلامية العريقة، مشوبة بتهويمات ثقافة هندية تسمع إيقاعاتها في الأفق البعيد.

ويشير المترجم إلى أن أكبر مشكلة تواجه القارئ العربي في النص الإنجليزي لهذا الكتاب، تتعلق بالصياغة اللغوية والأسلوب؛ فعبارات الكتاب وجمله وفقراته تتميز بتعقيد من نوع خاص، فهي جمل طويلة مركبة، تحتوي على كثير من التقديم والتأخير في عناصرها، وعلى جمل اعتراضية مبثوثة في ثناياها، تزيد من تعقيدات المعنى وتدفقه، وتكاد تبدد الوحدة الفكرية للجملة. ولمعالجة تلك الصعوبات حاول المترجم بسط العبارات قليلا، كما استخدم أقواسا لاحتواء بعض الجمل الاعتراضية، التي لم يجد بُدّا من إيرادها في مواضعها حتى لا تتجاوزها عين القارئ، وهو يتابع سياق الأفكار والمعاني. وفي المحصلة؛ لقد بذل المترجم قصارى جهده في إعادة ترجمة هذا الكتاب، محاولا أن يتجنب ما وقع فيه الآخرون من أخطاء، وأن يعرضه بلغة وصياغات تبتعد به عن التراكيب اللغوية المعقدة قدر الاستطاعة، من دون المساس بالدقة التي توخاها إقبال في عرض أفكاره. وعندما تعثر النص وانقطعت حبال الوصل في معاني بعض عبارته، وشعر المترجم بأن المعنى منغلق عن القارئ العربي، أضاف بين مستطيلين كلمة أو عبارة من عنده، لوصل المنقطع وإضاءة المعنى، وقد حدث ذلك في مواضع نادرة من النص، وهو أمر مشروع على كل حال في عرف الترجمة. ويبقى القول: إن صدور هذا الكتاب كاملا بهذا الشكل ومترجما ترجمة دقيقة على هذا النحو يشكل إضافة مهمة لمعرفة المسلمين - وغير المسلمين - بتطور الفكر الديني في الإسلام.

* كاتب مصري