حول الغني الفقير.. والفقير الغني!

TT

أعاد الحوار الديني الذي أجري هنا، في صحيفة «الشرق الأوسط»، الأسبوع الماضي مع الداعيتين السعوديين، عائض وعوض القرني، إلى الأذهان النقاشات الطويلة الموسعة التي جرت قديما حول المسألة الصوفية التقليدية: أيهما أفضل عند الله؛ الغني الزاهد أم الفقير السائل؟ فقد حفزني اختلافهما حول «الزهد» على الرجوع إلى عشرات المصادر الصوفية، بهدف تقويم وتقديم هذه المسألة بصورة وجيزة مبسطة، كي نتعرف على منشأ وتحولات ومآلات هذا الخلاف من جهة، وما لنتيجته من آثار - قد تكون سلبية أو إيجابية بحسب الميل إلى أحد الرأيين- من جهة أخرى.

تاريخيا، ارتبط الزهد بحياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام، وبخاصة «أهل الصفة» من الفقراء الذين كانوا يقيمون في مسجد النبي بصفة دائمة. لكن بعد وفاة الرسول واتساع رقعة الخلافة بفضل الفتوحات، حدث أن مالت الدنيا ببعض من كانوا يهتمون لأمر الآخرة آنفا. وإزاء ذلك الوضع الجديد، أحست طائفة من أتقياء الأمة بغربة الإسلام، وعانت لذلك اغترابا داخليا شديدا، زاد من حدته صمت علماء الدين ممن كانوا يمضون في مواكب السلطة وركابها! وعلى أي حال، كانت نزعة «الزهد» في أول عهدها تميل إلى التشدد في التعاطي مع الدنيا بمختلف مظاهرها. ثم سرعان ما جرى استيعاب وهضم التدين التقشفي، وما صاحبه من احتكار صارم، وغير مثمر للحياة، واستكمل بحب إلهي، ثم عمق بالكشف عن الطريق الذي ينبغي على النفس البشرية أن تسلكه إلى الله. ومن ثم انتقل الزهد من مرحلة كان فيها مأخوذا ضمن غيره، إلى مرحلة صار فيها مستقلا واضح الملامح والقسمات (التصوف).

ومثلما تم الانتقال من «الزهد» إلى «التصوف»، انتقل الأخير من البحث في «الأخلاق» إلى الكلام في «المعرفة»، فكان في طوره الأول طريقا من طرق العبادة، يتناول الأحكام الشرعية من جهة معانيها الروحية وآثارها في القلوب، ثم أصبح طريقا للمعرفة يقابل طريق أرباب النظر من المتكلمين. وفي كلا الطورين احتدم الجدل والنقاش حول «مسألة الفقر» وأيهما أولى: منة الأغنياء، أم هوان الفقراء؟

ليس غريبا إذن، والحال هذه، أن يسود اعتقاد راسخ بفضل «الفقر» على «الغنى» في الطور الأول من أطوار التصوف (الزهد)، وذلك استنادا لأحاديث متداولة تؤكد دخول الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام، أي بما يعادل نصف يوم من أيام الآخرة! وفي هذا السياق نصادف مجموعة كبيرة من الآثار والأقوال والأحاديث التي تحبب في الفقر حتى إن السراج الطوسي (توفي 378هـ) قد خصص بابا كاملا في كتابه «اللمع» سماه «باب مقام الفقر وصفة الفقراء»، ثم تابعه في ذلك كل من: الهجويري (ت465 هـ) في كتابه «كشف المحجوب»، والقشيري (ت465هـ) في رسالته القشيرية.

نحن إذا إزاء اتجاهين، أو مجموعتين من التعاليم: أولاهما مبكرة تاريخيا تنزع إلى القول إن الفقر هو «أول منزلة من منازل التوحيد»، وتبشر الفقراء الصُّبَّر (كثيري الصبر) بمجالسة المولى، عز وجل «يوم القيامة»، وتؤكد أن «إظهار الغنى في الفقر أحسن من إظهاره مع الغنى»، وتعرف الفقير بأنه «من لا يملك شيئا ولا يميل إلى التملك»، ثم تقارن صدق الفقر بالكف على السؤال «علامة الفقير الصادق أن لا يسأل»، و«إن المسكين ليس بالطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان؛ والتمرة والتمرتان. إن المسكين هو الذي لا يجد ما يغنيه ويستحي (من الله) أن يسأل الناس (شيئا)»، فمن «تواضع لغني لأجل غناه ذهب ثلثا دينه»! لكن سرعان ما نما داخل هذا الاتجاه تيار أخذ يساوي بين الفقر والغنى، لا بمعنى أنهما على درجة واحدة، ولكن بمعنى إطلاق لفظة «الغني» على «الفقير». وفي ذلك يقول إبراهيم بن أدهم: «طلبنا الفقر فاستقبلنا الغنى، وطلب الناس الغنى فاستقبلهم الفقر»! ويقول أبو سعيد بن أبي الخير: «الفقر هو عين الغنى بالله تعالى».. إلخ. وعند كل أولئك ثمة اتفاق على أن الفقر هو شعار الأولياء، وحلية الأصفياء، وأنه «أزين بالعبد المؤمن من العذار الجيد على خد الفرس».

أما أصحاب الاتجاه الثاني، أو المجموعة الثانية، فيحبذون الغنى مع الزهد على الفقر مع الهوان. وهو اتجاه ظهر متأخرا نسبيا مع شيخ الطائفة «الجنيد البغدادي» الذي سئل يوما عن الافتقار إلى الله، عز وجل، أهو أتم أم الاستغناء بالله تعالى؟ فأجاب: إذا صح الافتقار إلى الله فقد صح الاستغناء بالله، وإذا صح الأخير كمل الغنى به فلا يقال حينئذ: أيهما أتم الافتقار أم الغنى؟ لأنهما حالتان لا تتم إحداهما إلا بالأخرى.

وممن يفضلون الغنى على الفقر: يحيى بن معاذ، وأحمد بن أبي الحواري، والحارث المحاسبي، وابن عطاء الله، ورويم البغدادي وغيرهم. ويستدلون لذلك بأن «الغني» صفة للحق سبحانه وتعالى، وأن الصفة التي تكون مشتركة في المحبة بين العبد وربه، أتم من الصفة التي لا تجوز في حقه تعالى «الفقر». على أن الهجويري يقلب هذه الحجة رأسا على عقب حين يقول: إن «الغنى» اسم لائق بالحق، ولا يستحق الخلق هذا الاسم، أما الفقر فاسم لائق بالخلق، ولا يجوز على الحق! ومن يسمونه غنيا فعلى المجاز لا يكون كالغني على الحقيقة (الله).

ومن يفضلون «الزهد في حال الغنى» على «اليأس مع الفقر» يقولون أيضا بأن الزهد أمر متعلق بشيء ما، كالمال والسلطة، وإذا كان يصح للغني أن يزهد فيما يملك، ففيم يكون زهد الفقير إذن؟ هنا يخرج علينا أحد المتأخرين بتأويل جديد مفاده «ليس الفقير من خلا من الزاد، إنما الفقير من خلا من المراد»! وهكذا يتجدد الخلاف ويتواتر بصيغ شتى، وإن سبَّب بلبلة لدى البعض، فإنه يشهد على ما في الفكر الصوفي من ثراء وغنى.

وتبعا لتأكيد المتصوفة ضرورة الزهد في الملك والجاه، فقد احتفوا بقصة إبراهيم بن أدهم التي تواترت بصيغ شتى، أطرفها ما حكاه جلال الدين الرومي من أن رجال الحرس في قصره سمعوا ذات ليلة جلبة صاخبة فوق سطح القصر، وعندما ذهبوا لاجتلاء الخبر، فاجأوا قوما يدعون أنهم يبحثون عن إبلهم الضائعة! فلما سألهم ابن أدهم: هل حدث أن تفقد امرؤ إبله فوق سطوح المنازل؟ أجابوا: نحن لا نعمل إلا اقتداء بك أنت الذي تسعى إلى الاتحاد بالله، بينما أنت جالس على عرشك، فهل لرجل في مثل هذا المقام يستطيع أن يقترب من الله؟ فما كان منه إلا أن زهد الملك وساح في الأرض حتى هداه الله للإسلام فيما بعد.

وعود على بدء؛ يميل الدكتور عائض القرني إلى تفضيل الغنى على الفقر نافيا أن يكون «في الحلال زهد» - وهو أمر أختلف فيه معه بشدة -، ويميل الدكتور عوض إلى تفضيل الفقر على الزهد، وإن أشار إلى عدم ترادف الأمرين «الزهد والفقر»، وبذلك يكون أولهما أقرب إلى أصحاب الاتجاه الثاني، وثانيهما أقرب إلى أصحاب الاتجاه الأول! على أن الأمر ما عاد اليوم شبيها بما كان عليه السلف، فقد فسد ملح الأرض (العلماء)، وكثر الجشع والطمع، وأصبح الدين تجارة رائجة ورابحة لدى البعض، ما يذكرنا بشكاية القشيري حين قال في صدر رسالته: «مضى الشيوخ الذين كان بهم اهتداء، وقل الشباب الذين كان لهم بسيرتهم وسنتهم اقتداء، وزال الورع، واشتد الطمع، وارتحل عن القلوب حرمة الشريعة (احترامها)، فعدّوا قلة المبالاة بالدين أوثق ذريعة، ورفضوا التمييز بين الحلال والحرام»! فيا طالب الدنيا وما تبقى له/ألهاك مغشوش النصيحة آفك دار يريق دم المصدق زورها/بصوارم الآفات وهي تضاحك كم غر غيرك حسنها ووراءه/بيض لآجال النفوس فواتك غرر تخيل الحسن وهي قبيحة/أيد تخيل البذل وهي مَواسِك هذا الضعيف دم المدامة سافك/هذا القوي دم البرية سافك ملك الهوى رق النفوس فكلنا/لا يعتني إلا بما هو مالك! نور الحقيقة نصب عينك لامع/لكن يصدك عنه قلب حالك هيهات! في أهل الحقيقة قلة/صعب الطريق فقل فيه السالك