رمضان بين الأمس واليوم

د. عيسى الغيث

TT

بقي على رمضان ساعات محدودة، وهو شهر للصيام والقيام وصالح الأعمال. وللصيام حكمة ربانية وأهداف تحقق صلاح الدين والدنيا؛ فالعبادة ليست مقتصرة على ما نفعله، وإنما تشمل ما نتركه من أجل الله تعالى، فهناك عبادات نؤديها بجهدنا البدني كالصلاة والصيام، والصلاة من النوع الموجب «أي الفعل»، والصيام من النوع السالب «أي الترك»، وهاتان العبادتان تسميان العبادة البدنية، كما أن هناك العبادة المالية، كالزكاة والصدقات، وهناك ما يجمع بين البدن والمال وهو الحج والعمرة، وجميع هذا وذاك من الحكم التشريعية التي تحصل سعادة الدنيا وفلاح الآخرة.

ولو استرسلنا في الحكمة التشريعية من صيام رمضان لطال بنا المقال، سواء في ذات الصيام، أو في بقية العبادات الأخرى كصلاة التراويح والتهجد، وقراءة القرآن، وجميع أنواع العبادات، ولكن هل واقعنا اليوم هو المفترض حصوله كما هو المطبق بالأمس، أم إننا انحرفنا عن الطريق السوي، وقصرنا في امتثال الحكمة الربانية لهذا الشهر المبارك، فجمعنا بين التقصير بترك الواجبات والمستحبات من جهة، والاعتداء بفعل المحرمات والمكروهات من الجهة الأخرى، ومن ذلك الصوم بلا صلاة، أو النوم عنها في النهار والانشغال عنها بالليل عبر المآكل والملاهي، حتى صار هذا الشهر مسرحا للأطعمة والترفيه المبالغ فيه كمّا وحكما.

فالصيام من العبادات التي تزكي النفس، وتحيي الضمير، وتقوي الإيمان، وتحقق التقوى، «..كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» (البقرة/183)، والتقوى بفعل الأوامر وترك النواهي، فينزه الصائم الصيام عما يجرحه، ويصون سمعه وبصره وجوارحه عما حرمه المولى، ويعف لسانه عن اللغو والرفث، فلا يصخب ولا يجهل، ولا يقابل السيئة بالسيئة، وإنما يدفعها بالتي هي أحسن، ليجعل الصيام واقيا له من الوقوع في الإثم والمعصية في الدنيا، وعذاب الله في الآخرة إن لم يتب، ولذا قال السلف «إن الصيام المقبول ما صامت فيه الجوارح من المعاصي، مع البطن والفرج عن الشهوة».

وإن في رمضان جنة روحية ولذة تعبدية لا يعرف طعمها إلا من ذاقها، فمن صام نهاره وقام ليله وأدام طاعته وترك معصيته، فقد استلذ بشهد قد حرم منه غيره، والموفق من حافظ على راحته النفسية وسلامته البدنية وطاعته الربانية ليحقق خيري الدنيا والآخرة، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: «من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه». ولأننا جميعا لا نسلم من الذنوب، فمن الذي ما أساء قط ومن له الحسنى فقط، فقيام هذا الشهر يعني القيام بواجبه ومنه قيام الليل تصديقا بوعد الله وطلبا لوجه الله وثوابه، ومع ذلك فقد رحم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه حين ترك التراويح خشية أن تفرض، كما في الصحيحين «عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات ليلة (أي في رمضان) من جوف الليل، فصلى في المسجد، فصلى رجال بصلاته، فأصبح الناس فتحدثوا، فاجتمع أكثر منهم فصلوا معه، فأصبح الناس فتحدثوا، فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله.. حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى الفجر، أقبل على الناس فتشهد ثم قال: أما بعد، فإنه لم يخف علي مكانكم، لكني خشيت أن تفرض عليكم، فتعجزوا عنها». وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأمر على ذلك، أي يصلون فرادى، وكذلك في خلافة أبي بكر، وصدرا من خلافة عمر رضي الله عنهما، حتى جمعهم عمر على الصلاة خلف أبي بن كعب، وهذا مشروع وتطبيق لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي»، وذلك لزوال سبب تركها جماعة خشية الفرض، واستمرت الأمة على الصلاة جماعة طول القرون الماضية، لما فيها من مظهر الوحدة، واجتماع الكلمة، ولأن الاجتماع على واحد أنشط لكثير من المصلين، لا سيما إذا كان حسن القراءة، ولهذا ذهب الجمهور إلى سنية صلاة التراويح في الجماعة، بل ذهب الطحاوي الحنفي إلى وجوبها على الكفاية، ومن صلى بإحدى عشرة ركعة فقد اهتدى بهدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لقول عائشة رضي الله عنها عند البخاري وغيره: «ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة»، ومن صلى بثلاث وعشرين، فله ذلك أسوة بما كان في عهد عمر رضي الله عنه، وقد أمرنا باتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، ولأن في فعل السنة العمرية تخفيفا لطول الركعات بزيادة عددها ولعدم تنفير المصلين عنها، وهو المعمول به في الحرمين الشريفين، وقد أجاد ابن تيمية كعادته رحمه الله في بيان هذه المسألة حين قال: «والصواب أن ذلك جميعه حسن، كما نصَّ على ذلك الإمام أحمد، وأنه لا يوقت في قيام رمضان عدد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوقت فيه عددا، وحينئذ فيكون تكثير الركعات وتقليلها بحسب طول القيام وقصره، فإن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يطيل القيام بالليل، حتى قد ثبت عنه في الصحيح من حديث حذيفة: (أنه كان يقرأ في الركعة بالبقرة والنساء وآل عمران، فكان طول القيام يغني عن تكثير الركعات). وأبي بن كعب لما قام بهم وهم جماعة واحدة، لم يمكن أن يطيل بهم القيام فكثر الركعات، ليكون ذلك عوضا عن طول القيام، وجعلوا ذلك ضعف عدد ركعاته، فإنه كان يقوم في الليل إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة، ثم بعد ذلك أن كان الناس في المدينة ضعفوا عن طول القيام، فكثروا الركعات، حتى بلغت تسعا وثلاثين».

ويجوز للمرأة الخروج لصلاة التراويح كالرجل، وقد أعجبني ما كتبه في هذا فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي حيث قال: «وأحب أن أقول هنا كلمة منصفة: إن بعض الرجال يسرفون إسرافا شديدا في الغيرة على جنس النساء، والتضييق عليهن، فلا يؤيدون فكرة ذهاب المرأة إلى المسجد بحال، على الرغم من الحواجز الخشبية العالية التي تفصل بين الرجال والنساء، التي لم يكن لها وجود في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، والتي تمنع النساء من معرفة تحركات الإمام إلا بالصوت والسماع، ولا غرو أن ترى بعض هؤلاء الرجال يسمحون لأنفسهم في المسجد بالكلام والأحاديث، ولا يسمح أحدهم لامرأة أن تهمس في أذن جارتها بكلمة ولو في شأن ديني، وهذا مبعثه التزمت وعدم الإنصاف، والغيرة المذمومة التي جاء بها الحديث: (إن من الغيرة ما يبغضه الله ورسوله)، وهي الغيرة في ريبة. لقد فتحت الحياة الحديثة الأبواب للمرأة، فخرجت من بيتها إلى المدرسة والجامعة والسوق وغيرها، وبقيت محرومة من خير البقاع وأفضل الأماكن وهو المسجد، وإني أنادي بلا تحرج أن أفسحوا للنساء في بيوت الله، ليشهدن الخير، ويسمعن الموعظة ويتفقهن في الدين، ولا بأس أن يكون من وراء ذلك ترويح عنهن في غير معصية ولا ريبة، ما دمن يخرجن محتشمات متوقرات بعيدات عن مظاهر التبرج الممقوت». ونسأل الله أن يوفق الجميع للصيام والقيام وصالح الأعمال.

* كاتب سعودي