أفكار الإصلاح الإسلامي وقضاياه ومشكلاته

رضوان السيد

TT

لقد أردت في هذه المقالة القيام بقراءة للكتاب الجديد الذي صدر للدكتور محمد أبو رمان بعنوان «الإصلاح السياسي في الفكر الإسلامي - المقاربات والقوى والأولويات والاستراتيجيات» (الشبكة العربية ببيروت - 2010). ويبدو أن هذا العمل كان أطروحة جامعية كتبها بإشراف الأستاذ سيف الدين عبد الفتاح. وكان هدفه التأريخ النقدي لأفكار وممارسات الإصلاح السياسي تحت العنوان الإسلامي منذ القرن التاسع عشر، وإلى الزمن الحاضر. والمتابعة ضرورية للبناء والمراكمة وخدمة قضيتي التجديد والنهوض في مجالنا الثقافي. وقد كنت أؤثر أن تكون الحقبة المدروسة أقصر، كما كنت أؤثر خيارات أخرى في الشخصيات. لكن الآراء تختلف، ولكل وجهة نظره التي تستحق الاعتبار.

يضع أبو رمان الفكر الإسلامي في القرن ونصف القرن الماضيين في مسارات، وهو يرى أن النهضويين الأوائل من مثل محمد عبده ورشيد رضا كانوا يسعون للإصلاح الديني والتعليمي والتربوي، ويقدمون وجوه الإصلاح تلك مرحليا على الإصلاح السياسي. وذلك لأن المشكلة التي يعاني منها المسلمون يجمعها مصطلح «الانحطاط الحضاري»، وهو يكافح بالعودة إلى قيم الإسلام الأصيلة، وبتعلم المعارف الحديثة، وحين ينهض بالطبقات الوسطى والدنيا بهذه الطرائق، أي ينقلهم من مرحلة ثقافية وحضارية إلى مرحلة أخرى، فإن الأوضاع السياسية ستتحسن أيضا، لأن هؤلاء المتعلمين والمتقدمين سوف يسعون لإقامة سلطة صالحة تمثل مصالحهم ومطامحهم. فالتقدم في المعارف والأفكار، والجد في العمل الفكري والديني، هما شرطان أساسيان في عملية التمدن. وهذا الإيجاز لأفكار عبده ورضا جيد، إنما ما اتضح لي وجه اعتبار الإصلاح الديني المدعو إليه، متأثرا بأفكار الإصلاح الديني الأوروبية. فالذي اتضح لي في الدراسات التي قمت بها أن النهضويين المسلمين متأثرون بأفكار منظري المدنية والتربية الوطنية من الأوروبيين القوميين في القرن التاسع عشر. وقد ترجمت كتب غوستاف لوبون على مدى أربعين عاما، في حين ما ترجم شيء من كتب الإصلاح الديني البروتستانتي، وكان عبده عنيفا في مناقشة أفكار فرح أنطون (المتأثرة بإرنست رينان) في فصل الدين عن الدولة. أما إن قيل إن الإصلاحيين حملوا على التقليد وتعظيم المشايخ والجمود الفقهي، فكل ذلك أفادوه من السلفيين الذين كانوا متحالفين معهم. ولست هنا بصدد تتبع أصول الأفكار، لكن هذه المسألة مهمة في نقاشات رفض العلمانية في ما بعد. بيد أن الجديد والطريف ذلك الوصل بين الإصلاح الديني والحضاري لدى محمد عبده ورشيد رضا، والإصلاح الذي دعا إليه مالك بن نبي منذ أواسط الخمسينات من القرن العشرين. فابن نبي من أبناء جمعية العلماء الجزائريين ورئيسها عبد الحميد بن باديس. وهو اعتبر بعد تأمل - ومثل عبده ورضا - أن مشكلة المسلمين ليست النظام السياسي، بل التخلف الحضاري. ولذلك ظهرت كتبه تحت عنوان مشترك للسلسلة كلها «مشكلات الحضارة». لكنه كان أكثر تحددا وإفصاحا عندما جمع بين أمرين: التقدم في الجوانب المادية للحياة، واستقامة وسلامة الوعي بمجريات العالم. ولست أدري اليوم (وقد عرفت مالك بن نبي أواخر الستينات عندما كان يتجول بين سورية ولبنان) إن كان قد استخدم مصطلح «رؤية العالم» للتعبير عن نظريته، لكنه بالتأكيد كان أقرب ما يكون إلى ذلك في هذا الفهم الثقافي الواسع لمشكلاتنا التاريخية. ومع أن هذا التيار في الإصلاح يعتمد المقاربة الثقافية والحضارية، وليست لديه رؤية سياسية محددة، فإن د. أبو رمان تابعه مع جودت سعيد، ومشروع إسلامية المعرفة، وقام في آخر هذا القسم بنقد تيارات المقاربة الثقافية.

ومن جانب آخر فقد اعتبر خير الدين التونسي (1888م) رائد اتجاه المقاربة السياسية للأوضاع، وقد تسنم الوزارة في تونس، والصدارة العظمى في الدولة العثمانية، وكتب منهجا للإصلاح والتجديد الحضاري والسياسي في مقدمة كتابه «أقوم المسالك إلى معرفة أحوال الممالك»، إنما الواقع أن التونسي لا يختلف كثيرا عن عبده والحجوي والثعالبي، من حيث إنه يعتبر التقدم الحضاري مرتكزا للتقدم السياسي، وإنما يفترق عن باقي النهضويين بأنه يقول بالتنظيم أو بالمؤسسات التي يعتبرها الطريقة الأجدى لصون المصالح وتطويرها. إنما المتابعة الأكثر ظرفا وطرافة لمسار أتباع مدرسة أو اتجاه الإصلاح السياسي، ما كتبه د. أبو رمان عن مقاربة منير شفيق في هذا الصدد، والكاتب مؤدب، فهو يعرض التفاصيل بطريقة وصفية، ثم يتساءل في النهاية ببراءة: هل تصل مقاربة شفيق ما انقطع؟ وقد كنت أرى أن مقاربة عادل حسين التي عرض لها د. أبو رمان بإيجاز هي الأولى بالاعتبار إذا كان الحديث جاريا عن المدخل السياسي في الإصلاح. فقد كان الرجل واسع الخبرة في المسائل الاقتصادية، ومتأثرا بمقاربات نقاد الاقتصاديات الكولونيالية والشيوعية الرسمية.

وإذا كان الانتقال من خير الدين التونسي إلى منير شفيق مفاجئا، فما كان الأمر مفاجئا عندما انتقل المؤلف إلى الإسلام الحركي، لأن الإسلاميين الحركيين كانوا بالفعل هم أصحاب رؤية التغيير الثوري في حقبة الإسلام السياسي. لكن حتى في مجال دراسة رؤى ونشاطات الإسلام الحركي والسياسي، لي على د. أبو رمان بعض الملاحظات. فقد احتار في تسمية تلك الحركات هل هي أصولية أم إسلامية أم تمامية... إلخ. لكن ما دام يربطها أساسا بسؤال الهوية، فهي أقرب إلى ما سميتها به في عدة دراسات، أي الحركات الإحيائية. ثم إن الكاتب يعتبر جيل البنا وقطب جيل الرواد. والواقع أن الريادة هنا تعني تثبيت رؤية: الإسلام دين ودولة. لكن سيد قطب حول الرؤية إلى عقيدة، والدولة إلى حاكمية، وأسلوب الوصول إليها انقلابي تربوي ثم عملي. ورغم كثرة تأليف محمد قطب، فلا يمكن تخصيصه بفصل لأنه ليس أكثر من مضي مسرف في مسائل التغريب والغزو الثقافي والحاكمية والجاهلية، والمؤامرة الغربية. وإذا كان الأمر كثرة الكتابة، فأنور الجندي يستحق فصلين بدلا من فصل واحد. ولست ممن يبخس الناس أقدارهم، ولا ممن يعتبر نفسه متفوقا على الآخرين، لكنني وقد قرأت عشرات الكتيبات، على طريقة «دليل المناضل لدى المتمركسين العرب» للراحل فتحي يكن، لا أرى أيضا أي حاجة لتخصيصه بفصل من أجل بحث منهجه في الإصلاح السياسي. وكذلك الأمر مع الحزب الإسلامي العراقي. أما طارق البشري، فتستحق مقاربته أكثر من فصل، وأنا أشبهه بمالك بن نبي، فذاك يملك رؤية شاملة في النهوض الثقافي والحضاري، وهذا يملك منهجا شاملا يتأسس على مقاربة تاريخية ودستورية وقانونية لمسألة الدولة، انفرد بها المصريون منذ أواخر العشرينات من القرن الماضي، مع ظهور أطروحة عبد الرزاق السنهوري في الخلافة. وقد أتت على الأستاذ البشري «فترة» أصغى فيها لمقولات الخصوصية والأصالية، ثم خرج منها والحمد لله، واستأنف نشاطا يتضمن جابنين: الجانب النقدي والنقدي المقارن، والجانب البنائي للتجربة السياسية العربية والإسلامية.

وقد تجاوزت عمدا الفصل القصير (205 - 212) الذي خصصه د. أبو رمان للإخوان المسلمين والسؤال الديمقراطي. والذي أراه أن تجربة الإخوان مع محاولات المشاركة (في النقابات والبرلمان ومجلس الشورى من طريق الانتخاب)، والبيانات الدالة التي صدرت عنهم في السبعينات والثمانينات والتسعينات وعام 2004، ووجوه تعاونهم (أو عدم تعاونهم) مع الأحزاب الأخرى، وعلائقهم المتشابكة والمشتبكة بالسلطات ومعها، كل ذلك كان يستحق دراسة مفردة عن الحالة المصرية أولا، ثم عن الحالة الأردنية، وهما أبرز «الحالات» العربية. ولست من أنصار الإسلام السياسي ولا الدولة الدينية، لكن تجربة الإخوان منذ السبعينات من القرن الماضي في مصر والأردن تستحق اهتماما بالفعل لجهة «القول» المتداول، والعمل «غير المتداول»! ويلفت أبو رمان أخيرا إلى الإسلام الحركي أو السياسي الذي يملك رؤية أو مشروعا، وهو يريد تحقيقه إنما من غير طريق البرلمان أو الانتخابات. ويبدأ مع السلفيين فيقسمهم إلى قسمين، التقليديين والجهاديين. وهو يقصد بالتقليديين الذين صاروا يسمون أنفسهم «السلفية العلمية»، وهم مهتمون بإصلاح العقيدة والعبادة، ويكتفون بنصيحة ولي الأمر. وهذا النهج ليس سببه الخضوع للسلطات أو التبعية، بل هو تقليد حنبلي وسلفي منذ أيام الإمام أحمد بن حنبل، إذ هم معنيون نظريا وعمليا بالهوية الطهورية للجماعة وصون عقائدها وعباداتها من البدع. ولأنهم لا يملكون مشروعا سلطويا فهم في مركز قوة، إذ لا يصارعون على السلطة. وفي ظل رؤية كهذه كان يمكن أن لا يحولوا دون إنشاء دول حديثة، بل وأن يشاركوا في ذلك. وهذا لم يحدث لعدم التأهل من جهة، ولأن جماعات الإسلام السياسي التي اعتبرت الاستيلاء على الدولة من ضرورات الدين أو مقتضياته، هي التي سلبت منهم الجمهور، بل وتمكنت من شق صفوفهم، وإلا فكيف ظهرت «السلفية الجهادية» الفظيعة؟! ولا أرى حاجة لاستعراض آراء السلفية الجهادية في طرائق التغيير السياسي، فالوقائع والشواهد معروفة (إنما أود تنبيه المؤلف إلى كتاب صدر عن آرائهم لكيسي، الأستاذ الأميركي في أخلاقيات الدين، بعنوان «مسألة الحرب العادلة». وهو منشور بالشبكة العربية). لكن ما يستحق الاهتمام (والاستغراب أيضا) مقاربات حزب التحرير من الخلافة وإلى التعددية الإسلامية المعادية للديمقراطية الغربية. ثم هناك جماعة العدل والإحسان، والجماعات والأحزاب المشابهة بالمغرب والجزائر وتونس. وهذه الحركات جميعا أطياف للإسلام السياسي. ويبدو أن المؤلف ما رأى بيانات أو تجربة اليمنيين والأردنيين من الإسلاميين الحركيين جديرة بالمتابعة.

لقد أنهى أبو رمان عمله بطرح ثلاث إشكاليات أو تساؤلات: الاختلاف مع الإسلام السياسي وأسبابه ونتائجه، وقوى الإصلاح المرشحة وطبيعة إعدادها وبنائها، ومن هو الممثل «الشرعي» للإصلاح الإسلامي. وجوهر المسألة أن جهود الإصلاح الإسلامي انتهت لدى أهل الإسلام السياسي بعد قرن ونصف إلى التركيز على إقامة دولة دينية هم حزبها الحاكم. فلله الأمر من قبل ومن بعد.