جون إسبوسيتو ودعاة الإسلاموفوبيا الجدد

إميل أمين

TT

هل هناك حاجة ماسة إلى أن يعيد الغرب عامة والولايات المتحدة الأميركية على نحو خاص قراءة أوراق المفكر الأميركي الكاثوليكي جون إسبوسيتو، والتوقف طويلا أمام أطروحته الفكرية المتميزة: «التهديد الإسلامي خرافة أم حقيقة»؟

يبدو أن ذلك يتوجب أن يكون كذلك، لا سيما في ضوء بعض المشاهد التي لو جرت بها المقادير فعلا كما المناداة بها الآن قولا، فستكون من قبيل السوابق الخطيرة جدا والتجاوزات التي لا حدود لها ويمجها العقل.

ومن عينة تلك الدعوات - على تهافتها وضآلة الوزن الفكري والأكاديمي للداعين إليها - القول بجعل الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) المقبل يوما لحرق القرآن الكريم في الولايات المتحدة الأميركية، إضافة إلى أصوات بعض من أتباع الإسلاموفوبيا الجدد مؤخرا بطرد المسلمين من البلاد لما يمثله وجودهم من تهديد كامن لنسق الحياة الأميركية وحريتها وأنموذجها الديمقراطي، ووصولا إلى الغلو والتطرف عند البعض الآخر المطالب بإطلاق الكلاب المسعورة على المسلمين في وقت صلاة الجمعة! والشاهد أن هذه الأصوات تعكس حقيقة مرة، وهي أن ذهنية العداء للإسلام والمسلمين لا تزال تشكل عقبة في التواصل الحقيقي بين الغرب والشرق، وهي عقبة كثيرا ما تتحول إلى مخاوف، وهذه بدورها تترجم إلى أفعال صدام كما جرى خلال العقد الماضي، وهي مخاوف مرشحة للتصاعد لا سيما إذا استعلن اليمين الأميركي وجماعات المحافظين الجدد مرة ثانية في رئاسة أميركية قادمة، وهو احتمال قائم إذا وجد الجواد الرابح حتى الساعة للجمهوريين الأميركيين «القس المعمداني ماياك هاكابي» طريقه إلى البيت الأبيض. وهذه قصة أخرى قد تكون كارثية في حد ذاتها.

ولعل الناظر للمشهد الأميركي بعين التفاؤل يندهش من ارتفاع مثل هذه الأصوات رغم تيار المصالحة الذي حاول الرئيس الأميركي باراك أوباما ولا يزال جاهدا تسريبه إلى ثنايا المجتمع الأميركي، العلماني الهوية، الديني الهوى إلى أبعد حد ومد.

غير أن الدهشة تتوارى خجلا ووجلا عندما يقرأ المرء سطورا كتبها الراحل الدكتور إدوارد سعيد، في أوائل الثمانينات ولا تزال ضاربة في حقيقة الأمر في جينات الأوروبيين والأميركيين: «بالنسبة إلى العامة في أميركا وأوروبا اليوم، الإسلام نوع من الأخبار غير السارة، ذلك أن وسائل الإعلام والحكومة والاستراتيجيين الجيوبوليتيكيين والخبراء الأكاديميين في الإسلام - على الرغم من أنهم هامشيون في الثقافة ككل - جميعا يعزفون لحنا واحدا.. الإسلام خطر على الحضارة الغربية».

من بين هؤلاء الهامشيين تيري جونز، الأستاذ المتخصص في علم الأحياء، الذي استهواه الاستشراق، وكانت جهود المستشرقين الأبوكريفيين لا تكف، فانطلق بقوة وجعل من قلمه معولا خطيرا يحاول - عبثا - هدم الإسلام وحرق القرآن.

وجونز في واقع الأمر لا يجب أن يطلق على جماعته «العهد الجديد على أساس الكتاب المقدس» لفظة كنيسة، فالكنائس الرسوبية التي تعود إلى عهد الحواريين هي الكاثوليكية والأرثوذكسية فقط، أما التيارات البروتستانتية فهذه يصعب تصنيف المنتمين إليها، حيث يتجاوزون المئات، وإن كانت التيارات الأشهر فيها كالإنجيلية المعتدلة أكثر تعقلا وبعدا عن مهاترات التكوينات العنصرية اليمينية، التي يمثل جونز إحداها، لكنها الحرية الأميركية الغناء التي تتيح لأي مبتدع أن يقول ما يشاء ويدعو إلى ما يدعو إليه دون حسيب أو رقيب. ومن عينة أقوال جونز أن «الإسلام من الشيطان»، وأن «القرآن يقود الناس إلى جهنم»، الأمر الذي دعا الكاتب البريطاني توم منديلسن إلى التعليق بالقول: «إنه خبر غير سار، وسيساهم في علو ظاهرة العداء للإسلام والمسلمين في الولايات المتحدة والغرب».

وعلامة الاستفهام في هذا المقام: لماذا ينجح - ولو بصعوبة - أمثال جونز في مهاجمة الإسلام، وتخويف الأميركيين من المسلمين عبر مقالاته المهيجة ومحاضراته المليئة بالكراهيات، ومظاهراته المستفزة أمام المساجد؟ ثم بالأحرى، لماذا يجد من ينقاد إليه ويلف لفه من الأميركيين الأنجلوساكسونيين على نحو خاص؟

من هنا تأتي الحاجة الفعلية إلى إعادة قراءة البروفسور جون إسبوسيتو، أستاذ الأديان والعلاقات الدولية في جامعة جورج تاون الكاثوليكية في العاصمة الأميركية واشنطن، ومدير مركز التفاهم الإسلامي - المسيحي بها، الذي يلفت بادئ ذي بدء إلى أن الصور السلبية للإسلام سائدة بكثرة شديدة تفوق أي صورة أخرى، وأن مثل هذه الصورة لا تتعلق بحقيقة «كينونة» الإسلام، ولكنها تتعلق بما تظنه قطاعات بارزة في مجتمع بعينه أنه الإسلام.

ومن دون تطويل ممل أو اختصار مخل يمكننا أن نشير إلى أن معلقين غربيين كثرا، رأوا ولا يزال البعض منهم ماضيا في رؤاه أن الإسلام والغرب يسيران على طريق الصدام، إذ إن الإسلام يحمل تهديدا ثلاثيا؛ سياسيا، وحضاريا، وسكانيا.

وغالبا ما يتم تصوير المواجهة على أنها صدام حضارات. وهناك عملان كان لهما تأثير خاص: «جذور الهياج المسلم» لبرنارد لويس، و«صدام الحضارات» لصموئيل ب. هنتنجتون. وكلاهما كان جوهريا في التعريف بمدى حجم الجدل الذي أمسك بتلابيب الدبلوماسيين وصناع السياسة والصحافيين والمحللين الأكاديميين.

ويمكن تحديدا الإشارة إلى دور بعينه لإسبوسيتو في إطار الرؤية الأكاديمية العقلانية التي يقود إليها دون فخاخ مزالق التعميم أو السقوط في منزلقات الانتقائية، ويتعلق بالوقوف في وجه المقولة التي اصطلحها هنتنجتون الخاصة بما أطلق عليه «الحدود الدموية للإسلام»، وقد عدها أسطورة من ضمن تلك الأساطير التي يروج لها البعض في الغرب، ولهذا يرى أن التحدي الحقيقي للغرب ليس في الإسلام ودمويته المزعومة، ولكن في قدرته على التفهم الأفضل للتاريخ وأبعاد العلاقة بين الإسلام والغرب، وفي ذات الوقت يرفض بسط مصطلح الأصولية «بشكل سافر» ومطلق على العالم الإسلامي، أو المسلمين.

وإذا كان تيري جونز وغيره من المهولين الكارهين يتمترسون خلف الرهاب الذهني الذي يشعل البعض ناره حتى الساعة، «رهاب التهديد الإسلامي»، فهل هناك تهديد إسلامي للغرب عند إسبوسيتو، أو الأمر برمته خرافة عصرانية لجهة الإسلام والمسلمين؟

أساء الغرب فهم الإسلام والمسلمين، هذه حقيقة يقررها المفكر الكاثوليكي الأصل، كما أساء فهم حركة الإحياء والتجديد الإسلامي.

والشاهد أن الغرب قد أخطأ حكما حينما صور العرب في الماضي على أنهم «بدو وصحراء وإبل وتعدد زوجات وحريم»، ثم أخطأ مرة ثانية عندما استبدل بهذا التصوير عدل الثورة الإيرانية بأنهم «ملالي حاملو بنادق أصوليون ملتحون مناهضون بعنف للحضارة الغربية»، فاختزل بذلك الإسلام والجهاد الإسلامي في مقولة التطرف والإرهاب الديني، مجاوزا الحقيقة، فالعنف والإرهاب والظلم ظواهر إنسانية موجودة في العالم الإسلامي وأيضا في مناطق أخرى من العالم.

وعند الرجل أنه إذا كان المعنى أنه يمكن أن يكون هناك تهديد غربي أو تهديد يهودي - مسيحي، فنعم ساعتها يمكن القول بوجود تهديد إسلامي، فالإسلام مثل اليهودية والمسيحية قدم طريقا للحياة وهداية حولت حياة الكثيرين.

إلا أن بعض المسلمين، مثل بعض المسيحيين واليهود، قد استغلوا أيضا دينهم لتبرير العدوان والحرب وإضفاء الشرعية عليهما، وكذلك الغزو والاضطهاد، في الماضي أو الحاضر.

يضع إسبوسيتو أصبعه كذلك على واحدة من القضايا الملتهبة، وهي إشكالية «الإسلام السياسي»، الناهض، وهل هو وجه آخر من وجوه الأصولية الإسلامية التي باتت تهدد الغرب صباح مساء كل يوم، أو لا، كما يروج المرجفون؟

وهو ينكر هذا التبسيط المخل للمعنى والمبنى، فحركة الإسلام السياسي مثل اللجوء إلى أي ديانة أو آيديولوجيا، يمكن أن تكون قوة إيجابية فعالة للتغيير، ويمكن أيضا أن تكون تهديدا خطيرا للمجتمعات المسلمة وللغرب، والآيديولوجيات العلمانية كالديمقراطية والاشتراكية وأيضا الشيوعية والقومية العربية، برهنت بدرجة مماثلة على أنها عرضة للاستغلال والاستخدام الذكي من جانب الديماجوجيين، فالأفكار النبيلة مثل نشر إرادة الله، ونشر الديمقراطية يمكن تشويشها واستغلالها لإضفاء الشرعية على الإمبريالية والقهر والظلم باسم الله أو باسم الدولة.

ومما لا شك فيه أن المسطح المتاح للكتابة يضيق عن الإشارة الشافية الوافية إلى أفكار إسبوسيتو التي كانت ولا تزال تستنهض همم الباحثين والمفكرين لجهة تعديل دفة النظرة الغربية للإسلام، وهي دون مواراة أو مداراة، نظرة مبتسرة - عند الغالبية - جزئية مفادها أنه إمبراطورية الشر الجديدة، بعدما سقطت إمبراطورية الشر السوفياتية، وهو أمر غاية في الخطورة وكفيل بنسف العلاقات بين العالم الغربي والإسلام، وربما يؤدي إلى قيام حرب باردة أو ساخنة جديدة.. هل من توجه بديل وفعال مغاير يذهب إسبوسيتو في إيجابية المفكر النهضوي التصالحي الداعي إلى الوفاق عوضا عن الافتراق في طريقه؟

هو كذلك بالفعل، فإسبوسيتو يشدد على ضرورة أن يأخذ الغرب في حساباته أن الإسلام دين عالمي، وفي ذات الوقت قوة آيديولوجية يعتنقها خمس سكان العالم تقريبا، مما يجعل له وزنه وأثره، لذا فإن الرجل يدعو إلى القفز فوق الجزئيات وتحليلاتها، أو التمسك بالقشور والطنطنة الممجوجة التي ترشح في الأذهان صورة نمطية مريحة بمعنى أن المسلم إرهابي وأن الإسلام دين الإرهابيين، وهو ما يغني رجال المراكز البحثية عن التفكير العميق لاستجلاء حقائق الأمور، وما الدافع وراء ظواهر الاحتجاج بالعنف المعروف من قبيل خطأ التوصيف العلمي الدقيق بـ«الإرهاب»، وكذا فإن دعوته تمتد إلى تجاوز الافتراضات العلمانية الغربية المسبقة منعا للوقوع في السقطات والتحيزات الآيديولوجية، التي تزخر بها كثير من التحليلات السياسية التي تنطلق من الإيمان بوجود حتمي لعدو إسلامي.

ويبقى قبل الانصراف تساؤل: ما الذي أعاق جهود الغرب في القرن العشرين عن تحليل الإسلام تحليلا علميا صحيحا يقف في وجه دعاة الإسلاموفوبيا الجدد؟

أغلب الظن أن العلمانية المطلقة شلت قدرة الغرب بدرجة كبيرة - ولهذا ربما تكثر الآن دعوات الإحياء الديني المسيحي في أوروبا - على فهم طبيعة الإسلام، بل والكثير من الأديان الأخرى، حيث أدى تعريف الدين باعتباره نسقا للحياة الشخصية إلى حصره بطريقة مصطنعة في نطاق ضيق، بل وجعل العنف من طبيعته، وفي الوقت نفسه نظر إلى العقيدة الدينية التي تخلط الدين بالسياسة على أنها عقيدة رجعية وقابلة للهوس والتعصب، ومن ثم تشكل تهديدا ملحوظا للغرب.

* كاتب مصري