الأمر الملكي بين حفظ الدين وحفظ الشأن العام

رضوان السيد

TT

إلى عقود مضت، كان كثيرون من المعنيين بالشأنين، الديني والعام، يأخذون على أهل الفتوى الإصرار على التقليد، والاستعصاء على منازع التطور والتطوير. بيد أن العقود الثلاثة الأخيرة شهدت ظواهر مضادة تجلت في فوضى الفتاوى وانطلاقها من كل قيد أو ضابط. ويرجع ذلك لثلاثة أسباب: الأول هو الصحوة الدينية الإسلامية التي أدخلت أعدادا هائلة من الشباب لمجال الاهتمام الديني، وقد تفرع على ظاهرة الصحوة ما صار يعرف بالإسلام السياسي. والثاني هو القدر الهائل من المتغيرات الجذرية والمتسارعة في شتى المجالات، وقد أوجد ذلك جمهورا عريضا غاصا بالتساؤلات، ومستعدا لتقبل الإجابات السريعة والسهلة. والثالث هو انتشار وسائل الإعلام والاتصال، التي تلاقى عبرها دعاة الصحوة وجمهورها. فلدينا إذن، ومنذ نحو العقود الثلاثة، ظواهر الفتاوى السريعة وغير الملائمة، يصدرها غير المختصين، فتثير استحسان قلة من الحزبيين، كما تثير الاستهجان والاضطراب في أوساط واسعة من المجتمعات العربية والإسلامية. والفتاوى التي يلتفت إليها ناس العصر تنقسم لثلاثة أقسام:

- الفتاوى التي تعنى بمسائل العقيدة والعبادة والمعاملات ومسائل الأحوال الشخصية. وهي الأكثر تداولا، والأكثر تعرضا لسوء الفهم والاستغلال، لأن كل الناس معنيون بها، ومحتاجون في كثير من الأحيان للأسئلة والفتاوى بشأنها.

- والفتاوى المتعلقة بالشأن العام، أو الفتاوى السياسية. وهي قسمان، أحدهما الناجم عن رأي في مسألة عامة بقصد مناصحة أولي الأمر أو الاعتراض عليهم، والقسم الآخر من الفتاوى السياسية، هي المتصلة برؤى الجهاد والقتال، ورؤى الإسلام السياسي والحزبي في شرعية الدولة والنظام، وضرورات إقامة الدولة الإسلامية التي تطبق الشريعة.

- والفتاوى المتعلقة بالتلاؤم مع أحوال العصر، سواء لجهة الجسد الإنساني أو علاقات الرجل والمرأة أو المعاملات المالية، أو تغير صورة الكون والتقدم التكنولوجي، أو ظروف الأمة والعالم.

لقد شهدت العقود الماضية اضطرابا شديدا في أمور الفتوى بالأنواع الثلاثة. وذلك لأن الأمر في إصدارها ما عاد مقصورا على مجتهدي وفقهاء المؤسسات الدينية والمجامع الفقهية، ولأنه ظهرت جهات حزبية وإعلامية، اكتسبت مشروعيتها من الجمهور، وليس من التدريب العلمي والفقهي؛ وهي قد تجرأت على إصدار الفتاوى، خاصة في المجالين الأول والثاني.

ولذلك؛ فإن الأمر الملكي كان ضروريا لمنع الفساد الذي انتشر بسبب وجوه الخطأ والانحراف أو الاستغلال والمزايدة أو العصبية الفئوية أو لمجرد استجلاب عواطف وميول الجمهور. ويريد خادم الحرمين في أمره أن يقتصر حق الفتوى وواجبها على أعضاء هيئة كبار العلماء، واللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، مع إتاحة المجال للتوسع في العضوية باقتراح ذلك على الملك. وقد التفت الملك عبد الله بن عبد العزيز في ذلك لمصلحة الدين والوطن، وهي فوق كل اعتبار. ذلك أن «الجلبة» الحاصلة واللغط والتأثير على الناس، شوش الأفكار، وحرك السواكن، وشكل تعديا على صلاحيات المؤسسات الشرعية. ثم عدد الأمر الملكي التجاوزات الداخلية في «فوضى الفتوى»؛ فذكر خطباء الجمعة الذين يتناولون مواضيع تخالف التعليمات الشرعية، والآخرين الذين يتجرأون في فتاواهم على الكتاب والسنة، والذين يتخطون باجتهاداتهم الفردية أجهزة الدولة، والذين يخلطون في فتاواهم بين الشأن الخاص والشأن العام، والذين يتعدون على الناس بحجة الاحتساب، أو يحتسبون بالمناصحة والأمر بالمعروف، ثم يعلنون عن ذلك في الصحف ووسائل الإعلام. واستثنى الأمر الملكي من المنع «الفتاوى الخاصة الفردية غير المعلنة في أمور العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية، بشرط أن تكون خاصة بين السائل والمسؤول..».

وقصد الأمر الملكي من وراء إعادة تنظيم شؤون الفتوى بهذه الطريقة: «حفظ الدين»، وهذا شأن مختلف عن تدخل السلطة في الدين. فقد جاء في «الأحكام السلطانية» للماوردي أن الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في «حراسة الدين وسياسة الدنيا». وحراسة الدين تتضمن: صون ما علم من الدين بالضرورة، وتأمين حريات الاعتقاد والعبادة والتعليم الديني؛ وهذان الأمران يشملهما مفهوم: حفظ الدين، على أعرافه المستقرة. وهذا الشأن، كما سبق القول، من واجبات السلطة السياسية وتكليفها. وقد أضاف الأمر الملكي لذلك مفهوم المصلحة أو مصلحة الدين والوطن. ولا شك أن هناك مصلحة دينية ووطنية في التوحد الديني، وفي الاستقرار الذي تشكل الوحدة الدينية ركنا من أركانه. فقد تهدد التوحد الديني، وغودرت الأعراف المستقرة نتيجة الفتاوى الحزبية والفئوية، ونتيجة الفتاوى الشاذة والتخريبية، وفتاوى التشدد والخلط بين الخاص والعام، ومعاداة العالم ومقاتلته، والقول بالسيف في الأمة، والمضي وراء بطر الفضائيات وشعوذاتها. أما والأمر هكذا، فما كان يسع ولي الأمر إلا التصدي لهذا الفساد المستشري، والخطورة البادية على الدين وأعرافه. وهو ما تدخل بهذا المعنى في الدين، بل أعاد أمور الفتوى إلى المتأهلين لذلك من العلماء، والذين اعتاد الناس الرجوع إليهم منذ آماد طويلة. أما إذا صار الشأن شأن سؤال فردي، فلا بأس أن يلجأ المرء لمن يثق بدينه من شيوخ الحي أو البلدة أو المدينة، لكنها الحالة التي تبقي الخاص خاصا، فلا تخلط بين الخاص والعام من جهة، ولا تحول الفتوى الفردية إلى إعلان في هذه الفضائية أو تلك.

وإنما تبقى مسألتان: مسألة الاحتساب، ومسألة التنفيذ. فالحسبة حق رقابي للأفراد وتكليف يوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد ضبطه الفقهاء قديما بأن الرقابة إنما تمارس من طريق السلطة، وإذا مارس المحتسب المسألة بنفسه، فعليه ألا يؤذي أحدا، وألا يتسبب بالضرر في شخص أحد أو ممتلكاته. ونحن نعلم أن الحسبة مورست خلال العقود الأخيرة للإيذاء، ولا شيء غير، في معظم الحالات، وفي عدة بلدان عربية وإسلامية. وقد ضرب الأمر الملكي أمثلة ونماذج على ذلك، لينتهي، ليس إلى الحيلولة من دون ممارسة المواطن لحقه الرقابي؛ بل لكي يعيد للحسبة معناها الشرعي والصحيح، وممارستها المستقلة من طريق المؤسسات.

ويستحق التنفيذ بعض التأمل. إذ يمكن تطلب الانضباط من موظفي الدولة من العلماء والعاملين معها. ويمكن تطلب الأمر نفسه من مواطني المملكة والمقيمين على أرضها. وإنما ماذا نفعل مع البرامج الدينية، والدعاة الجدد؛ على الفضائيات؟ فهل تعتبر أحاديثهم في تحليل هذا الشيء أو تحريمه، وتحسينه أو تقبيحه، فتاوى وإن لم يدعوا ذلك لأنفسهم؟ ثم إن اعتبرناها كذلك، فهل تمنعهم ونوقف البرنامج المقصود، أم نعتبر تلك البرامج إرشادية، خطرها هين، باستثناءات طبعا. وقد ذكرت برامج الفضائيات، ويمكن الحديث عن الإنترنت وعوالمه الهائلة، وهي مصدر الفوضى الرئيسية الآن، بل ومنذ سنوات. فكيف يمكن السعي إلى شيء من الوعي والانضباط، دون أن تتصاعد الصرخات من المساس بالدين أو بالحريات؟! وأعاد الملك الفتوى إلى هيئة كبار العلماء ومؤسسة الإفتاء، وقال إنه سيعاقب الذين يتجاوزونها بالاتجاهات التي ذكرها. ولا شك أن المسؤولية الرئيسية في التجاوزات الحاصلة تقع على عاتق أصوات الصحوة والإسلام السياسي، ومن صاروا يعرفون بالدعاة الجدد. بيد أن العلماء المجتهدين لا يخلو طرفهم من المسؤولية. فقد انصرف بعضهم عن الحياة العامة وتأثيراتها، فلم يشعر بحاجات الجمهور. وكان هناك من امتلك الاهتمام، لكنه ما سعى لامتلاك المعرفة بالمجالات الجديدة.

وأخيرا فإن العودة للعلاقة السلمية والصحيحة والودودة بين السلطة السياسية والمؤسسة الدينية، أمر جيد ومثمر. بيد أن التجربة تبقى حتى الآن سعودية. وحبذا لو تبادر بلدان عربية وإسلامية لتصحيح العلاقة وإصلاحها بالاتجاه الذي يلائم ظروفها في عصر العولمة.