تأملات في الأمر الملكي بتنظيم الفتوى والخطابة والحسبة

عيسى الغيث

TT

صدر عن خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود - حفظه الله - يوم الخميس الثاني من شهر رمضان 1431هـ أمر ملكي موجه أصالة إلى سماحة المفتي العام للمملكة العربية السعودية ورئيس رئاسة البحوث العلمية والإفتاء ورئيس هيئة كبار العلماء ورئيس اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الشيخ عبد العزيز آل الشيخ - حفظه الله - ونسخا إلى ثماني جهات حكومية ذات صلة، وذلك بشأن تنظيم شؤون الفتوى والخطابة والاحتساب.

وقد عالج الأمر الملكي الحكيم ثلاث قضايا كبرى، بشمول لجميع الجزئيات، وتوازن بين جميع الفئات، بعد أن كانت محل خلاف خلال الفترة الماضية، وهي قضايا: الفتوى، والخطابة، والحسبة، حيث فشت خلال الفترة الأخيرة مجموعة من الفتاوى الشاذة، إضافة لتسلق الكثير ممن هم من غير المؤهلين إلى مقامات الفتيا عبر المساجد والفضائيات والإنترنت وقنوات رسائل الجوال، إضافة لكون بعض هذه الفتاوى اعتدت على حقوق خاصة بالمواطنين وحقوق عامة بالمجتمع كالتكفير والتبديع والتفسيق، إضافة إلى فوضى في شأن الاحتساب، حيث رأينا من يتطفل ويفتئت على جهاز الحسبة الشرعي ويقوم بما يزعم أنه إنكار للمنكر سواء بيده أو لسانه، إضافة لعشوائية الاحتساب القضائي حيث قام مجموعة من المواطنين برفع بعض القضايا ضد آخرين من أفراد ومؤسسات في شأن غير خاص بهم، وفي هذا تطفل وافتئات على جهاز النيابة العامة الشرعي وهو هيئة التحقيق والادعاء العام، وعلى ذلك فقد قرر جلالته الحسم وبحزم كعادته وفقه الله.

ففي القضية الأولى وهي مسألة الفتوى، تم قصر الفتوى المتعلقة بالشأن العام على هيئة كبار العلماء، وأما الشأن الخاص فعلى أعضاء الهيئة إذا كانت الفتوى عبر وسائل الإعلام بأنواعها، أو وسائل الدعوة من خطبة جمعة، أو محاضرة، أو درس، وأّما من سواهم فمقيد بالفتاوى الخاصة دون العامة، أي الفردية وليست الجماعية، وبشرط ألا تكون علنية، وهذا بضابط قد حدد بأنه بين السائل والمسؤول دون سماع غيرهما، بحيث تكون غير معلنة، كمن يسأل مواجهة، أو على الهاتف، وقصرت على مسائل العبادات، والمعاملات، والأحوال الشخصية، وأما ما سواها من بقية أبواب الفقه فضلا عن العقائد كالتفسيق، والتبديع، والتكفير فليست إلا للهيئة، والقضاء، وذلك حسب الاختصاص.

وأما القضية الثانية وهي مسألة الخطابة، حيث نص الأمر على خطبة الجمعة، ويقاس عليه الجامع المشترك بينهما وهو ما له حكمه كالمحاضرات في المساجد، ودروسها، ومناشطها، وذلك بحيث لا تخالف في مسألتي الفتوى والحسبة.

وأما القضية الثالثة وهي مسألة الاحتساب فعلى ثلاثة أنواع: النوع الأول: الاحتساب الميداني: وتختص به هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وينتهي دور المتطوعين بالتبليغ عن المنكرات، ولا يجوز لهم الاحتساب على الناس ميدانيا، لا بأيديهم، ولا بألسنتهم كما هو حاصل. والنوع الثاني: الاحتساب القضائي: وتختص به هيئة التحقيق والادعاء العام، وينتهي دور المحتسبين بالتبليغ عن القضية، ولا يجوز لهم رفع الدعاوى الاحتسابية على الأفراد، أو المؤسسات مباشرة كما حصل في بعض القضايا. والنوع الثالث: الاحتساب عبر البيانات الفردية والجماعية، وهذا ممنوع بنص الأمر الكريم.

وقد وجه الأمر الملكي الحكيم إلى تسع جهات لتقوم بدورها تجاه المخالفين من منسوبيها، أو ممن هم تحت مسؤوليتها أو اختصاصها، وذلك بشأن قواعد الفتاوى العلنية الأرضية والفضائية والتقنية، أو عبر الخطب، والمحاضرات، والدروس، أو الحسبة الميدانية، والقضائية، والبيانات الفردية والجماعية.

وهناك جهة عاشرة، وهي وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات بصفة وزيرها رئيسا لمجلس إدارة هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات المسؤولة عن الإنترنت والجوال، وذلك بشأن مراقبة التزام مواقع الإنترنت، وقنوات الجوال؛ بقواعد الفتوى والحسبة، لأنهما أداتان خطيرتان، ورأينا خلال الفترة الماضية كونهما المؤثر الأول في تلك الفتاوى الشاذة والمعتدية على الحقوق الخاصة والعامة، وفي جانب تهييج وتحريض الناس على الحسبة الميدانية والقضائية والبيانات الفردية والجماعية.

ومن أهم ما أشار إليه الأمر الملكي الكريم؛ نصه على منع مشاركة القضاة في ميادين الحسبة وقضاياه وبياناته الجماعية، وهو الذي سبق طرحه في تحقيقات إعلامية وكتابات صحافية، وقد حسم الآن بأمر ملكي صريح، ولم يبق إلا التنفيذ على جميع الجهات ذات العلاقة.

وهناك شروط لترخيص المفتين وطبيعة ممارستهم للفتوى، ويظهر بأنه لن يكون هناك مساعدون لأعضاء الهيئة، وإنما علماء مستقلون عنهم، ويشاركونهم في الفتاوى بتفرغ أو من دونه، لأن الفتاوى العامة بموجب الأمر الملكي ستكون من اختصاص الهيئة بمجلسها الجماعي، وأمّا بشأن الفتاوى الخاصة فهي إن كانت عبر الوسائل الإعلامية والدعوية فمحصورة بأعضاء الهيئة، ومن يضاف إليهم بعد رفع ترشيحهم من قبل سماحة المفتي إلى جلالة الملك للموافقة عليهم، وأمّا من سواهم فلا يجوز لهم الإفتاء إلا في المسائل الخاصة وبشرطين: أولهما أن يكون بين السائل والمسؤول بمواجهة أو عبر الهاتف، وليس عبر الإعلام والمساجد والتقنية، وثانيهما أن يكون مقصورا على ثلاثة أنواع من المسائل الفقهية وهي: العبادات، والمعاملات، والأحوال الشخصية، وأمّا ما سواها كباقي مسائل الفقه، ومن باب أولى مسائل العقيدة، فلا يجوز لأحد منهم الإفتاء فيها مطلقا كما تقدم، وسيكون هؤلاء المرخصون من المؤهلين للفتوى، وكما أن هناك جداول لدى وزارة الشؤون الإسلامية بمن يستحق الخطابة، وإلقاء المحاضرات والدروس، فكذلك هنا من باب أولى، حيث ستكون هناك جداول للمؤهلين في جميع المناطق المأذون لهم من قبل الملك بعد ترشيح المفتي، والضوابط هي أن يكون من أهل العلم المؤهلين حسب ما نص عليه الأمر الملكي، الذين يجمعون بين غزارة العلم، ورجاحة العقل، وظهور الحكمة، ومن المؤكد أنهم من المتخصصين في علوم الشريعة دون غيرهم، وهم علماء الفقه وأصوله، لأنهم الذين يتم الاختيار منهم لولاية القضاء والتوثيق حسب نظام القضاء، ولا يجوز لغيرهم ممّن هو من غير المتخصصين، أو من غير المواطنين أن يقوم بهذا الأمر، سواء كان بواسطة الفضائيات، أو الإنترنت، أو قنوات الجوال، أو خطبة الجمعة، والدروس والمحاضرات، والتعرف على هؤلاء المرشحين يتم عبر اشتهارهم بالعلم، وهم ممن لا يخفون على الناس.

وهيئة كبار العلماء تمارس عملها الجماعي عبر مجلسها، فتجتمع مرتين في السنة، وكل ما دعت الحاجة، وهي للفتاوى المتعلقة بشأن عام، وأما الفتاوى الخاصة فيقوم بها أعضاؤها فرادى، وعبر اللجنة الدائمة، كما سيقوم بها من يتم الإذن له من قبل الملك بترشيح المفتي، ويفترض منهم أن يكونوا مغطين للفراغ الكبير الذي سيحدثه منع غيرهم من الإفتاء عبر الفضائيات، والإنترنت، وقنوات الجوال، والمساجد، وغيرها، ونرجو نحن المواطنين ألا يتراخى المسؤولون عن تنفيذ هذا الأمر الحكيم بكل دقة وسرعة وحزم واستمرار، حتى يستقر لبلدنا ومجتمعنا دينه ودنياه.

ولا بد من الرصد اعتبارا من صدور الأمر الملكي، ليتم محاسبة المخالف من جهتين: إدارية، وقضائية، فالإدارية من قِبل مرجعه، والقضائية بدعوى من هيئة التحقيق والادعاء العام لدى المحاكم المتخصصة، ويعزر بما يراه القاضي من جزاء مناسب، ويكون التعزير بدءا من التعهد والتوبيخ، ومرورا بالجلد، ووصولا إلى السجن على حسب الحالة وتكررها، ومعصية صاحبها للأمر، ولكننا نظن بالجميع خيرا، ونتفاءل بالتزام الجميع بالأمر الملكي حتى لا تضطر الجهات المختصة لاتخاذ اللازم.

* كاتب سعودي