من القيم الروحية لفريضة الصيام في الإسلام

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

على الرغم من تعدد التعاريف المتعلقة بلفظة «دين»، فإنها تتفق جميعا على أهمية عامل التدين في الحياة العامة ودوره في صياغتها؛ حتى بالنسبة لمن ينكرون أمره بالكلية! ولا أدل على ذلك من أن المناهجة الذين ينكرون «العقائد الأخلاقية» لا ينكرون قوة التدين هذه. وكذلك البراغماتية التي تفاعلت تاريخيا في طرح ثري مع القوة الإلزامية والفعلية والقيمية التي يمتلكها الدين، وأفسحت المجال له في الحياة الواقعية.

وفي كل الأحوال؛ عادة ما يشتمل الدين على جانبين رئيسيين: أولهما مجموعة الاعتقادات التي تشكل أصوله، وثانيهما مجموعة الشعائر أو الطقوس التي تمثل رسومه، وكلا الجانبين لا ينفصل في الواقع عن الآخر؛ فالشعائر والعبادات مجرد صور وأشكال يقصد بها التقرب إلى الله تعالى، بمعنى أنها «توفيقية تؤخذ بأوضاعها وأشكالها»، وليس المطلوب من المؤمنين بها أن يسألوا عن هيئاتها، بقدر ما هو مطلوب منهم تحقيقها وإقامتها باطنيا.

وإذا كان الإسلام في أحد أهم معانيه يعني «الاستسلام لله»؛ فإن مثل هذا الاستسلام لا يتأتى بتمامه إلا من خلال الإخلاص والصدق في الإقرار بالعبودية لله تعالى. بمعنى أن الإسلام لا يفي وحده للتحقق بهذا الأصل الإيماني على هذا النحو الأخير، إذ لا يكفي الإقرار بالشهادتين عن طريق اللسان، وإنما تحقيق معنى الاستسلام ظاهرا وباطنا لله في آن معا. وبالتالي، الترقي إلى درجة الإيمان بحسب ما ورد في حديث جبريل، عليه السلام، للنبي، صلى الله عليه وسلم، حين سأله عن معاني - أو بالأحرى مراتب - الإسلام والإيمان والإحسان.

والحال أن القيم الروحية والأخلاقية ترجع إلى عدة أصول عقدية في مقدمتها: «الإيمان بالله وبالآخرة»، كما أن الالتزام بها يحتاج إلى قوة روحية دافعة يشعر بها الإنسان في طواياه، تحرضه على فعل الخير وتحذره من فعل الشر «النفس اللوامة»، وهي ما يتعارف عليها الناس في العصور الحديثة باسم «الضمير»، فيما أطلق عليها متصوفة الإسلام قديما ألفاظا من مثل: «مراقبة الله» و«محاسبة النفس».

والواقع أن استشعار الرقابة الإلهية وتمثلها في الضمير الإنساني تبدو أكثر ما تبدو في عبادة الصوم. ذلك أن تجربة الصوم تجعل من الله حاضرا في ظل غياب البشر، وهنالك يمتنع الصائم - مهما اشتد به الجوع أو العطش - عن أن يمد يده إلى طعام أو شراب يسد به رمقه أو يطفئ به ظمأه، لا خوفا أو حياء من رقيب، ولكن خضوعا لرقابة المولى القدير الذي «يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور».

ففي الصوم تذكير بالمعاني الخلقية والقيم الروحية، ومن ثم كان قوله صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه»، ويكفي للتدليل على قيمة الصوم قول المولى - عز وجل - في حديثه القدسي: «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به»، إذ لم يكن اختصاص المولى سبحانه للصوم دون سائر العبادات الأخرى أمرا عبثيا أو محض مصادفة؛ وإنما لمجموعة من الأسباب الرئيسية من بينها: أن جميع الفرائض التي تخص الجوارح يتهيأ للخلق أن ينظروا إليها إلا الصوم، فإنه عبادة بغير حركة الجوارح.

يتحصل مما سبق أن الصوم يكتسب صفة صمدانية؛ نظرا لأن حقيقة الحق تستلزم التنزه عن التغذي، على عكس حقيقة المخلوق التي تقتضيه (التغذي)، ولما كان للصوم هذه الصفة فقد ترتب على ذلك نسبة الحق تعالى إليه؛ لأن ذاته تعالى لا يجوز عليها ما يجوز على الخلق، وبما يعني أيضا أن في صيام الإنسان تشبها بالخالق سبحانه وتعالى.

هذا ويترتب على ما سبق أن جزاء الصائمين - كما الصابرين - بلا حدود «إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ»، وبالتالي يخرج الصوم من عداد الحسنات المعدودة ثوابها؛ لأنه صبر للنفس عن مألوفاتها من المأكول والمشروب، وإمساك للجوارح عن شهواتها، ولهذا السبب فالصائمون من هذه الجهة هم الصابرون. ومن هنا كان الصوم من أشق الأمور على النفوس؛ لأنه خلاف ما جبلت عليه؛ من حيث إن قوامها لا ينفك عن المادة، وليس الأمر كذلك بالنسبة للحق سبحانه، فهو الغني عن كل شيء، ومن أجل هذا رغب الحق تعالى في الصيام؛ لما فيه من التشبه به في صفة الصمدية. واتساقا مع المعنى الباطني للصيام ليس المطلوب من الصائم إذن مجرد الإمساك عن المأكل والمشرب فحسب؛ وإنما لا بد له من تحقق صوم الباطن كذلك، بحيث يكون الصوم ضبطا للظاهر والباطن في آن معا. وكما أن الأول (الظاهر) يحصل بكف الجسد وإمساكه عن الطعام، كذلك يكون الثاني (الباطن) بكف الجوارح عن الآثام، وبهذا المعنى يكون الصوم قيمة روحية تنمي في جسد الإنسان وروحه إحساس الحاجة والحرمان والرضى والشبع.

وفي كل الأحوال فإن عماد القيم الروحية والأخلاقية في الإسلام يتجسد في تحقق الوازع الديني العميق في نفس الإنسان وتأصيله؛ بحيث تقوى شخصية المؤمن حسيا ونفسيا، دينيا ودنيويا، ماديا ومعنويا.. إلخ. فمن المعلوم أن الإنسان عادة ما يتمسك بالخير وخصال البر: إما لفائدة عاجلة يرجوها، أو لثواب آجل ينتظره، أو لضرر يريد دفعه عنه، أو لإعجاب وإيمان بالخلق الكريم بحد ذاته دون انتظار لثواب عاجل (شكر الناس، المدح)، أو آجل (دخول الجنة).

والوازع الديني الصادق يحقق لصاحبه كل هذه المعاني مجتمعة، فهو الذي يحدثه دائما بأن «الدين المعاملة»، وأن الخلق المستقيم يجلب لصاحبه سعادتي الدنيا والآخرة؛ مصداقا لقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ».

الدين بهذا المعنى يهب الإنسان كرامته الموفورة حين يوقظ فيه ضميره، بل ويجعله حكما فيما يعرض له من أمور الناس، ومن هنا نستطيع أن نفهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوْك» وقوله: «البر ما سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في الصدر وكرهتَ أن يطلع عليه الناس».

وكذلك ما روي عنه أنه قال: «ضرب الله مثلا صراطا مستقيما، وعن جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: أيها الناس ادخلوا الصراط المستقيم جميعا ولا تتفرقوا، وداع يدعو من جوف الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال له: ويحك لا تفتحه، فإنك إنْ تفتحه تلجه». وهو ما فسره البعض بالقول: الصراط هو الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من جوف الصراط هو واعظ الله في قلب كل مؤمن.

* كاتب مصري