المرجعية الإسلامية بين الديني والسياسي

الصحبي بن مسعود

TT

المرجعية بصفة عامة هي المصدر الذي تنبثق منه التصورات ومناهج التفكير والأهداف العليا، فهي الإطار النظري الذي يحكم سياق المواقف والرؤى، فمرجعية الفكر الغربي هي الفكر الليبرالي الذي أنتجته فلسفة الأنوار في القرن الثامن عشر مع روسو وفولتير ومونتسيكو ولوك.. والمرجعية الإسلامية تعني الإيمان بالوحي (القرآن والسنة) مرجعية لكل التعاملات، بل يذهب المستشار طارق البشري إلى اعتبارها «ضابط الانتماء للإسلام»، لذلك فالمرجعية الإسلامية لها عمق عقائدي إلى جانب ما تلعبه من دور في تشكيل الوعي وصياغة الإدراكات السياسية والأخلاقية، ومن خلالها تتجسد طرق التفكير والممارسة. غير أن الملاحظة الأساسية في المرجعية الإسلامية اتساعها وتعدد الأفهام داخلها من الفكر السلفي إلى الوسطي إلى الصوفي إلى الشيعي. وتتأسس المرجعية الإسلامية على نصوص الوحي (القرآن والسنة) المصدر المركزي والتأسيسي للمعاني والمفاهيم والقيم التي تعطي للثقافة والحضارة مشروعية الاستمرار، وهي المصادر التشريعية الأصلية والمرجعية العليا التي تمنح الشرعية في الإسلام، وهي بالطبع ليست على درجة واحدة من حيث الحجية والدلالة والقابلية للتأويل، فهناك كليات ثابتة ومبادئ عامة، وهناك مجملات واسعة ونصوص ظنية تحتمل وجوها شتى من الفهم والتنزيل على الواقع، وتأخذ أشكالا تبعا لتجارب الإنسان وظروف الحياة المتطورة، وهناك أحكام قطعية لا تتأثر بظروف الزمان والمكان، وهناك ما تركه الشارع عفوا لا نسيانا وتركه للاجتهاد، وخاصة في مجال السياسة الشرعية والمعاملات المالية وتوزيع الثروة، والأدوار التي تسند للمرأة في المجتمع، وهناك أشكال من التنزيل ارتبطت بعهد نزول الوحي فلا بد من فهمها على ذلك المعنى، بحيث تندرج ضمن التجربة التاريخية. وهنا لا بد من التفريق بين:

- مفهوم الدين بما هو وضع إلهي موحى به لا تؤثر فيه ظروف الزمان والمكان ويعبر عن الحق في نصوص مقدسة.

- ومفهوم المعرفة الدينية وأحوال التدين الظرفية والتاريخية التي تعبر عن اجتهاد بشري مرشحة للتغير والانفتاح.

والخطأ الكبير هو في إضفاء المطلق على النسبي الزمني فيؤول الأمر إلى تقديس الفهوم البشرية التاريخية، أو إضفاء النسبي على المطلق الإلهي المقدس فيؤول الأمر إلى إخضاع الثوابت والقواطع المحكمة إلى النسبية والتاريخية، ومن ثم يقع الاختلال والاختلاط في الوعي بين صورة الثابت والمتحول وبين الوحي والاجتهاد البشري. وفي هذا المجال لا بد من تحديد معنى شرح السنة لنصوص القرآن حتى لا يختلط ما هو تشريع ثابت بما صاغه الواقع الخاص المتلبس بعهد التنزيل، ولا يقع تجاوز المقدار المأثور عن الشارع في ذلك كمسألة التشريعي وغير التشريعي والتعبدي والمعلل في الأحكام عند علماء الأصول، يقول الإمام محمد الطاهر بن عاشور: «ولذلك كان واجب الفقيه عند تحقق أن الحكم تعبدي أن يحافظ على صورته وأن لا يزيد في تعبديتها كما لا يضيع أصل التعبدية.. فإن كثيرا من أحكام المعاملات التي تلقاها بعض الأئمة تلقي الأحكام التعبدية قد عانى المسلمون من جرائها متاعب جمة في معاملاتهم». لذلك قسم الإمام ابن عاشور مقامات الأقوال والأفعال الصادرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرق بين أنواع تصرفاته، وأكد على أهمية تعيين الصفة التي عنها صدر منه قول أو فعل لاختلاف أثرها في التشريع، وهو في هذا الأمر أضاف إلى ما ذكره الإمام القرافي.

أما في المجال السياسي فالمرجعية الإسلامية تمثل الإطار القيمي للأفكار والرؤى، وتظل ثوابت الإسلام وأحكامه ومقاصده المرجع الأعلى والمصدر الرئيسي للتشريع، إلى جانب الاجتهاد فيما وراء ذلك تأويلا وتجديدا وتنزيلا، ثم إن هذه المرجعية العليا لا تمنع انفتاح المشروع الإسلامي على منجزات الحضارة الإنسانية، إلى جانب ما يتيحه الواقع والعقل والمصالح من اجتهاد في تنزيل أحكام الوحي، بحثا عن الحقيقة، وطلبا للإضافات النافعة للبشرية، فالحكمة ضالة المؤمن يأخذها أينما وجدها. ونظام الحكم في المنوال السني للإسلام لا يستمد مشروعيته من قوة غيبية ولا وصاية، ولا يملك أحد أن يزعم احتكار فهم النص ولا حق التحدث باسمه على خلاف الفكر الشيعي، حيث الإمامة أصل من أصول الدين، وللإمام سلطته الدينية، مما يؤسس لتماهي أقوال المرجع وأفعاله مع أقواله تعالى، ووفقا لذلك، يحيل مفهوم المرجعية الدينية في الفكر الشيعي إلى نوع من الإكليروس الذي لا يوجد في الفكر السني، حيث لا توجد سلطة دينية، يقول الإمام محمد عبده: «إن الإسلام لم يعرف تلك السلطة الدينية.. التي عرفتها أوروبا.. فليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة، وهي سلطة خولها الله لكل المسلمين.. والأمة هي التي تولي الحاكم، وهي صاحبة الحق في السيطرة عليه، وهي تخلعه متى رأت ذلك من مصلحتها، فهو حاكم مدني من جميع الوجوه.. فليس في الإسلام سلطة دينية بوجه من الوجوه». ولئن ظهر مفهوم السلطة «المدنية» حديثا وإثر الصراع ضد الكنيسة في الغرب فأحيلت إليها الأمور الروحية بعد ما كانت مهيمنة على كل مفاصل المجتمع والدولة بما أدى إلى عزل الدين عن الحياة، وبما أعطى لهذا المصطلح (المدنية) معنى التحلل من كل ما يرتبط بالدين، فإن التاريخ الإسلامي لم يعرف هذا الصراع، كما لم يعرف كذلك الحكم باسم سلطة دينية، وإن وقع توظيف الدين في كثير من الأحيان من طرف السلطة السياسية.

* كاتب وباحث من تونس