فكرة الخلافة والتاريخ لدى المؤرخين المسلمين

رضوان السيد

TT

تنبهت إلى مصطلح تاريخ العالم، أو التاريخ العالمي لدى المؤرخين المسلمين، من نشر أطروحة المستشرق الألماني Bernd Radtke بالمعهد الألماني ببيروت في أواخر الثمانينات من القرن الماضي. وكان فرانز روزنتال قد سمى أعمال المؤرخين المسلمين في القرنين الثالث والرابع: «الحوليات»، باعتبار أنها تأريخ على السنين. أما رادكه فقد قال إن هؤلاء (أمثال أبي حنيفة الدينوري والبلاذري واليعقوبي والطبري وحمزة الأصفهاني)، كانوا يملكون رؤية عالمية عبروا عنها بالتأريخ لما قبل ظهور الإسلام. وعندما ذهبت للتدريس في جامعة شيكاغو في ربيع عام 1994، تنبهت إلى وجود مدرسة بالجامعة تطلق على نفسها اسم (مدرسة التاريخ العالمي)، تقول بترابط منذ القرن الثامن قبل الميلاد بين حضارات العالم ودوله أو إمبراطورياته؛ ومن ضمن ذلك، الإمبراطورية الإسلامية. ومن أعلام تلك المدرسة وليام ماكنيل، صاحب «صعود الغرب»، ومنهم مارشال هودجسون، صاحب الكتاب ذي المجلدات الثلاثة، بعنوان: «تجربة الإسلام، الوعي والتاريخ في حضارة عالمية». وعندما عدت في خريف عام 1994 للتدريس في جامعة سالسبورغ بالنمسا، زرت جامعة لايدن بهولندا، وفوجئت في دار النشر المشرقية المشهورة (بريل) بأن الأستاذ قاسم السامرائي أصدر في ذلك العام الأجزاء الباقية من كتابي سيف بـن عمر الضبي (180هـ): «الردة والفتوح»، و«الجمل ومسير عائشة وعلي». والكتابان مصدر رئيسي لدى الطبري عن فترة الراشدين، كما هو معروف. ولا علاقة مباشرة بالطبع بين كتاب رادكه، وأعمال مدرسة شيكاغو للتاريخ العالمي، وعمل سيف بن عمر المهم. وإنما تركت هذه المصادفات آثارا عميقة على رؤيتي لعلاقة تاريخ الإسلام وحضارته بتاريخ العالم، وظهور الكتابة التاريخية العربية وتطوراتها. ونتيجة ذلك فقد قمت بإصدار عدد مزدوج من مجلة «الاجتهاد» الفصلية التي كنت أصدرها مع الأستاذ الفضل شلق، بعنوان: «تاريخ الإسلام وتاريخ العالم» (م26 - 27، السنة السابعة، 1995). كما قمت بعد ذلك بكتابة مقالة موجزة بمجلة «المنارة» التي تصدرها جامعة آل البيت بالمملكة، بعنوان: «فكرة التاريخ والكتابة التاريخية العربية» (المجلد الثامن، العدد الثاني، يونيو (حزيران) 2002، ص 85 – ص 98) استطلعت فيها علائق الأخبار بين من كتبوا في القرن الثاني الهجري، بأعمال المؤرخين الكبار في القرنين اللاحقين.

إلى ذلك الوقت، أي أواسط التسعينات من القرن الماضي، كان المعتمد في تأمل علم التاريخ عند العرب والمسلمين عمل الأستاذ روزنتال ذي الطابع الفهرسي، الذي ترجمه الراحل صالح أحمد العلي إلى العربية. ثم جاء عمل الأستاذ الدوري من عام 1960، والمعنون: «بحث في نشأة علم التاريخ عند العرب»، الذي صار المرجع في تحقيب مراحل ظهور علم التاريخ العربي من القصص الديني والنسبي، وإلى السيرة النبوية، ومن الناحية الثانية الأخباريين؛ ثم كتب التاريخ الشامل. ثم ظهرت محاولات ورؤى طريف الخالدي بعنوان: «فكرة التاريخ عند العرب» (1997)، وفرد دونر: «بدايات الكتابة التاريخية العربية» (1998)، وإلى كتابات عزيز العظمة والمراجعين الجدد.

لقد جدد لدي الاهتمام بظهور علم التاريخ العربي أمرين: الأول، أعمال المراجعين الجدد، التي تهدف لتفكيك التاريخ العربي – الإسلامي، علما وتصويرا لتاريخ الأمة وثقافتها ومفاهيمها الكبرى؛ بما في ذلك السيرة النبوية، والأمر الآخر، المشكلات الفكرية والفنية أو التقنية الموجودة بالفعل في ذلك التاريخ. فقد أردت منذ أواخر السبعينات، العمل على تاريخ المفاهيم، مثل الأمة والجماعة والسنة والوحدة والفتنة والدولة، وما استطعت الجزم بشيء إلا ما تعلق بالمصطلح القرآني. وقد ذكر الأستاذ طريف الخالدي «فكرة التاريخ» في عنوان كتابه، لكنه ما عمل على دراستها في الكتاب المذكور. وحدد الأستاذ دونر أربعة مواضيع، اعتبر أن علم التاريخ نشأ من حولها، لكنه ما اهتم ببيان علاقة «السيرة النبوية» بالتاريخ، إذ اعتبرهما شيئا واحدا؛ في حين ذهب الخالدي إلى أن «السيرة» فرع على علم الحديث، أو أنها بدأت كذلك؛ بينما يعتبرها المراجعون الجدد تارة فرعا على تفسير القرآن، أو أنها ظهرت على مثال الموروث اليهودي لتصور النبوة والنبي، شأن قصص الأنبياء. وهكذا وبعد أعمال حول نشأة علم التاريخ تمتد لأكثر من قرن، ليس لدينا في الحقيقة غير خطاطة الأستاذ الدوري سالفة الذكر، وفصله عن كتاب السيرة، الذي طوره تلامذته عبر ثلاثة عقود في أطروحاتهم. بيد أن الخطاطة: الأنساب وأيام العرب، فالأخبار، فالتاريخ بالنسبة لعلم التاريخ، وقصص الأنبياء، فالسيرة لكتب السيرة، لا تكشف عن آليات الانتقال وأسبابه الفكرية، كما أنها لا تعلل حضور السند كثيرا في كتب التاريخ دون كتب السيرة، وما علاقة ذلك كله بعلم الحديث؟

لقد توصلت بعد تأمل طويل ومقارنات إلى أن فكرة التاريخ أو لاهوته مأخوذة من جزء «المبتدأ»، وهو الجزء الأول في السيرة النبوية. والمعروف أن المبتدأ يتضمن قصص الأنبياء، الوارد قسم كبير منها في العهد القديم. لكنه يتضمن أيضا أخبار إبراهيم أبو الأنبياء، وابنه إسماعيل في حقبتهما المكية، ولا أثر لذلك في العهد القديم. ثم إنه يتضمن إلى جانب أخبار الرسل، أخبار الملوك والأمم السالفة الأسطورية والتاريخية. وهذان الخطان، خط النبوة لدى بني إسرائيل، خاصة خط إبراهيم، وخط الملك لأزمنة ما بعد الطوفان، خاصة ملوك اليونان والترك والروم والفرس، يلتقيان في وعي كتاب السيرة وكتاب التاريخ في محمد، صلى الله عليه وسلم، وأمته، والخلافة التي ظهرت لترث النبوة والملك معا، استبدالا من جهة، ونعمة ورحمة واختبارا من جهة ثانية. وهكذا فإن النقلة من الأخباريين إلى المؤرخين سببها ليس التطور الثقافي أو الحضاري وحسب، مما أدى إلى تنظيم للأخبار في سلاسل على السنين؛ بل تبلور فكرة الأمة المستخلفة نبوة وملكا، وظهور الدولة أو الخلافة التي تقود هذا المشروع الخلاصي.

ما مصادر هذه الرؤية المهدوية والخلاصية، التي صنعت التاريخ الشامل للأمة ودار الإسلام والعلائق بالعالم؟ يرى Donner أن الجماعة الإسلامية الأولى (جماعة المؤمنين) هي جماعة دينية تقوية. وهو تصور تطورا عن مقالة في ثمانينات القرن التاسع عشر لفلهاوزن، تصور فيه «جماعة المدينة» بصورة الجماعات البروتستانتية الأولى. والدولة اللاحقة التي أنتجتها ظروف وتطورات غير مخطط لها أو مفكر فيها، هي التي أنتجت فيما بعد فكرة التاريخ والكتابة التاريخية الشاملة. لكن فلهاوزن ودونر ينسيان، أو يتجاهلان أن مفردات الاستخلاف والعهد والوعد والإظهار والشهادة؛ كلها مفردات قرآنية، وهي تعابير تتعلق بالأمة ومصائرها ومهماتها في العالم، وتكليف الله سبحانه وتعالى لها، ورعايته وعنايته واختباره ومحاسبته، في نطاق ذلك التكليف وتلك الشهادة. ولذلك فإن الخلافة أو الدولة هذا هو معناها في أخلاد المسلمين الأوائل وعملهم. وهذا هو معنى «خلافة الله» على مسكوكات الدينار الأموي، والنصوص القرآنية المختارة التي دونها عبد الملك بن مروان عام 72هـ على مسجد قبة الصخرة. فالأمر في اعتقاد المسلمين الأوائل ما ذكره الحسن البصري، أن نبيهم آخر الأنبياء، وأن أمتهم آخر الأمم. والأمر كما قال ابن عباس إن الأمة أمتان: أمة الإجابة، وأمة الدعوة. وعمل المؤرخ المسلم إنما هو تتبع تحقق الأمة في الزمان.

لقد انتهى الأخباريون بمجرد ظهور المؤرخين. فالتاريخ ليس خبرا وإلا لما كان له معنى خارجه. هو عند الطبري خبر عن ظهور الأمة في الزمان، وهو عند أبي الفداء خبر عن البشر، وعند ابن خلدون خبر عن العمران. إنه مادة التاريخ، لكنه يبقى خبرا وليس تاريخا حتى تكون له متعلقات وسياق، ويكون ذلك ضروريا لإسباغ المعنى، ووضع الذات والمشروع في مجرى الزمان. ولهذا كان مهما في حالة الأخباريين، السؤال عن الحقيقة والنزاهة لأن معنى الخبر فيه وليس خارجه؛ بينما المسألة في حالة الطبري والمسعودي أو البلاذري تتناول الفلسفة والرؤية والمشروع؛ ولذا يتجاوز التاريخ مادته الخبرية.