الفاتيكان والأنجليكان.. حوار الإيمان والعقل والإنسان

إميل أمين

TT

هل نجحت زيارة البابا بنديكتوس السادس عشر إلى بريطانيا في أن تعيد العلاقات بين حاضرة الفاتيكان والكنيسة الأنجليكانية إلى مسار الحوار الإيماني والعقلاني والإنساني الذي ظهر وكأنه تعرض لانتكاسة قاسية في أواخر العام المنصرم؟

في 20 نوفمبر (تشرين الثاني) 2009 كان الفاتيكان يعلن عن إنشاء هيئة خاصة لاستقبال الأنجليكان الراغبين في اعتناق المذهب الكاثوليكي فيما سمي بـ«Anglicanorum Coetibus» وهو الدستور الرسولي الذي وقعه البابا واعتبر في الأوساط الدينية والمسكونية المسيحية حدثا تاريخيا؛ ذلك لأنه يفتح الباب أمام عدد كبير من الأنجليكان «أتباع الكنيسة الإنجليزية» المتوقع انضمامهم إلى الكنيسة الكاثوليكية من كل أنحاء العالم، لا سيما من أميركا وأستراليا، وبينهم 20 إلى 30 أسقفا على الأقل، أبدوا رغبتهم في هذا الانضمام، ونحو نصف مليون مؤمن.

هولاء الأنجليكان المنشقون هم أساسا جماعة ما يعرف بالتقليديين أو ما سمي تحديدا الـ«Traditional Anglican Cmmunion» والذين خاب أملهم في كنسيتهم التي ترفع نساء إلى رتبة الكهنوت، أو تبارك زواج المثليين، وهما القضيتان اللتان شغلتا الكنيسة الأنجليكانية منذ أكثر من عشرين عاما، وكانت حصيلتهما خلافات داخلية تسببت بشرخ دائم فيها، ومقاطعة 300 قس لسينودس الأساقفة الأنجليكان عام 2008.

كان هذا الإعلان من جانب الفاتيكان، والذي يكفل للأنجليكان العائدين إلى الكنيسة الكاثوليكية الاحتفاظ بموروثهم الروحي والطقسي المميز، كفيلا بإحياء خلافات 500 عام منذ الشقاق الأكبر بين الفاتيكان والكنيسة الإنجليزية الكاثوليكية في زمن الملك هنري الثامن الذي رفض البابا تطليق زوجته كاترين الأراجونية.

غير أن لقاء جرى لاحقا بين البابا بنديكتوس ورئيس أساقفة كانتربري الدكتور «روان وليامز» أسفر عن إقرار الأول بأنه «لا غارة كاثوليكية على الكنيسة الأنجليكانية في واقع الأمر»، ومن هنا كانت الخطوة الأولى للزيارة الأولى من نوعها أيضا من بابا روما، كرئيس دولة، إلى بريطانيا.ولعل زيارة البابا إلى بريطانيا يمكن قراءتها على أكثر من مستوى، منها المستوى الإيماني الروحي، والحواري العقلاني، والإنساني الوجداني، وجميعها في أغلب الظن لمست كثيرا من أفئدة وعقول الإنجليز وغيرهم من شعوب أوروبا والعالم.

المستوى الأول الذي أنجح، في تقدير كاتب هذه السطور، زيارة البابا، وقرب كثيرا من المسافات المتباعدة، هو أنه لم يذهب إلى بريطانيا ليحصل على أصوات انتخابية، ولم يمض إلى هناك ليروج لمذهبه الكاثوليكي، وإنما عمد بذكاء بالغ، وهو الأستاذ الجامعي والمفكر اللاهوتي الكبير، إلى تقديم الإيمان كرسالة إيجابية تستطيع أن تهب مفتاحا لقراءة الواقع والحياة، ولإيجاد سبيل الحياة الحق، سيما أن المجتمع الإنجليزي مثل غالبية المجتمعات الأوروبية، يعيش في ظل أزمة سطحية وجودية مميتة، يشعر بالعمق، بألم وتمزق، وبنقص في المشاريع الروحية والقيمية في أيامه المقبلة، ويعاني انتقاصا في الأنسنة؛ حيث يكون كل إنسان شخصا حقا وليس مجرد ناخب أو مستهلك أو مستعمل.

في هذا السياق، كان حديث البابا عن الجذور المسيحية الأوروبية والبريطانية منها على نحو خاص، وقد استطاع البابا، في خطابه الذي ألقاه في قصر «هولي رود كروس» لدى لقائه بالملكة إليزابيث والسلطات البريطانية، أن يدفع في طريق القاسم المشترك الروحي إن جاز التعبير، باحثا عما يجمع، لا ما يفرق.. يقول: «إن ملوك إنجلترا وأسكتلندا كانوا مسيحيين منذ عصور غابرة، وهم يضمون قديسين رائعين، وقام الكثير منهم بعيش السلطة على ضوء الإنجيل، بطريقة صاغوا فيها البلاد للخير الأعمق». ويمضي البابا: «إن احترام أسلافكم للحقيقة والعدالة والرحمة والمحبة ينبع من إيمان يبقى حصنا منيعا لأجل خير مملكتكم، ولخير المسيحيين، وغير المسيحيين على حد سواء».

وفي مواجهة هذا الخطاب الإيماني، الذي يحفر عند الجذور، كانت الملكة إليزابيث بدورها وفي ردها تؤكد أن «حضور البابا إلى بريطانيا يذكرنا بتراثنا المسيحي المشترك وبالاهتمام المسيحي في تشجيع السلام في العالم، وفي النمو الاقتصادي والاجتماعي لبلدان العالم الأقل ازدهارا».

وفي كلمتها كذلك وجدناها تعرب عن تقديرها للدور الذي لعبته الكنيسة الكاثوليكية وتلعبه على الساحة الدولية في سبيل بلوغ السلام، وتختتم بقولها: «إنه لا يمكن للأديان أن تصبح أداة للكراهية، ولا يمكن أبدا تبرير العنف باسم الله»، مذكرة بأن حرية العبادة «في صميم مجتمعنا الديمقراطي المتسامح».

في هذا السياق، هل يمكن الجزم بأن الإرسال الفاتيكاني والاستقبال الأنجليكاني قد التقيا على وتيرة روحانية واحدة تمهد لبلورة مرحلة مستقبلية من التفاهمات الأكثر عمقا، والتي سوف تتجلى نتائجها للناظرين ولا شك عما قريب؟

أما المستوى الثاني، الذي أسهم في إكساب زيارة البابا ملمحا وملمسا عقلانيين، فهو اقترابه من القضايا الحياتية التي باتت تشكل حجر عثرة للإنسانية برمتها وليس للمسيحيين فقط، في أوروبا أو بقية أرجاء البسيطة، ما يعني أن الحبر الفاتيكاني الأعظم قد نجح في الخروج من ضيق الآيديولوجيا الدينية والمذهبية الفكرية إلى رحابة الإبستومولوجيا الذهنية الإنسانية.

في كلمة البابا مع الممثلين عن المجتمع البريطاني، في قاعة ويستمنيستر في المدينة التي تحمل القاعة اسمها، كان البابا يمزج الرؤى الثيولوجية بمتطلبات الحياة، وبالقضايا الحساسة التي يكثر من حولها الجدل، كالديمقراطية حول العالم، ولذا نراه يتساءل: «ما المتطلبات التي قد تفرضها الحكومات بطريقة معقولة على المواطنين؟ وما مداها؟ وبمناشدة أية سلطة، تحل المعضلات الأخلاقية؟».

الشاهد أنه يضيق المسطح المتاح للكتابة عن تحليل البعد العقلاني في خطابات البابا المتعددة التي ألقاها في بريطانيا، غير أن أحدها لا يمكننا أن نغفله؛ ذلك لأنه أشار إلى الأزمة الاقتصادية العالمية المالية التي تطحن العالم، بوصفها مظهرا من مظاهر نقص الحب الإنساني في واقع الحال، وهو الشأن الذي تحدث عنه بإسهاب في رسالته الأممية «المحبة في الحقيقة»، Caritas in Veritate، سيما أنه لكل قرار اقتصادي تبعاته الأخلاقية بعيدة المدى التي لا يمكن أن تتجاهلها أية حكومة.

استطاع بنديكتوس السادس عشر الاقتراب من عقول سامعيه عندما جعل من الدين في كلماته طرحا إنسانيا وليس جدلا لاهوتيا غير ذي فائدة، طرحا يتماس مع السياسة والاقتصاد والاجتماع، ولا ينشد في ذلك البحث عن المجتمع اليوتوبي البيوريتاني، وإنما يسعى في طريق بناء هيكل جديد لبشرية حرة غير مقيدة بدوجمائية صماء.

كيف نجد الأساس الأخلاقي للخيارات السياسية؟

هذه علامة استفهام طرحها البابا، أستاذ الفلسفة الأشهر. والجواب عنده أن التقليد الكاثوليكي يؤيد أن تكون المعايير الموضوعية المرشدة لعمل صحيح مدركة من قبل العقل، حتى من دون محتوى الوحي.

ووفقا لهذه المقاربة، فإن دور الدين في النقاش السياسي لا يقوم على تزويد هذه المعايير كما لو أنها لا تعرف من قبل غير المؤمنين، ولا يقوم على اقتراح حلول سياسية ملموسة، مما يعتبر خارج نطاق اختصاص الدين، وإنما على المساعدة في تطهير العقل وتسليط الضوء على استخدامه في اكتشاف المبادئ الأخلاقية الموضوعية. وفيما خص المستوى الثالث من قراءات الزيارة، الإنساني الوجداني، فقد تجلى في كلمة البابا إلى رؤساء الديانات في قاعة الرسم في «والدغرايف» في معهد سانت ماري الجامعي في تويكنهام؛ حيث التقى ممثلين عن مختلف الأديان المسيحية، واليهودية، والإسلامية، والهندوسية، والسيخ.

بسط البابا من كلماته تقديرا كبيرا من قلب الكنيسة الكاثوليكية على ما سماه «الشهادة المهمة التي تقدمونها جميعا كرجال ونساء وروحيين يعيشون في زمن لا تلقى فيه دوما القناعات الدينية، الفهم أو التقدير، غير أن حضور المؤمنين الملتزمين في مختلف الحقول الاجتماعية والاقتصادية يتحدث ببلاغة عن أن البعد الروحي في حياتنا هو جوهري لهويتنا كبشر؛ لأنه، بكلمات أخرى، ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان».وعند بابا روما أنه علينا، كأتباع للتقاليد الدينية العاملة لأجل خير الجماعة الواسعة، أن نكرس أهمية خاصة لبعد التعاون معا «جنبا إلى جنب»؛ لأنه يكمل بعد «الوجه إلى الوجه» في حوارنا المتواصل.

وفي الحق أن حديث تويكنهام لم يكن موجها من حبر الفاتيكان إلى جماعة الأنجليكان، لكنه جاء كتجديد لعهد الحوار الذي انطلق في حاضر الفاتيكان خلال المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني (1961-1965)، وعبر الوثيقة الشهيرة في أوقاتنا الحالية Nostra Aetate ولهذا لامس حديث البابا عن الإيمان الديني الأصيل، من استمعوا إلى ما قاله وتأكيده أن هذا الإيمان، دون حصره في دين بعينه أو مذهب بذاته، يقودنا إلى ما هو أبعد بعيدا من النفعية الآنية، نحو المتسامي، ويذكرنا بإمكانية، بل بواجب الارتداد الأخلاقي، وبواجب العيش بسلام مع جارنا، وبأهمية عيش الحياة بتماسك الأخلاقي، وأنه إذا فهمنا الإيمان كما يجب، فهو يحمل لنا الاستنارة ويطهر قلبنا ويلهمنا أعمالا نبيلة وسخية لخير العائلة البشرية، فالإيمان يحضنا على التقدم في ممارسة الفضيلة، وللتقرب بعضنا من بعض بالمحبة، وبالاحترام الأعظم للتقاليد الدينية المغايرة عن تقاليدنا.

ومما لا شك فيه أن هناك من أراد الاعتراض على زيارة البابا شكلا وموضوعا، وإفساد بهجتها، سيما من قبل الجماعات الساعية إلى الحرية المنفلتة، والغارقين في لجج العولمة الآثمة كثيرا، والرأسمالية المتوحشة غالبا.. هؤلاء المعترضون على المواقف الكاثوليكية الثابتة من رفض الإجهاض والتنديد بالمثلية الجنسية وبقية مثالب الدهريين.

ومهما يكن من أمر الزيارة، فإن روحا جديدا يمكن ملاحظته قد بدأ يدب في شرايين العلاقات الفاتيكانية الأنجليكانية بشكل أعمق، تبدى واضحا وضوح الشمس في ضحاها في الكلمات الوداعية التي ألقيت على مسامع البابا، روحا يتجاوز الفكرة المشار إليها سلفا «الغارة الرومانية الكاثوليكية على كنيسة بريطانيا»، ففي مطار بيرمنغهام وجه رئيس الحكومة البريطانية دافيد كاميرون للبابا كلمة قال فيها، مقرظا خطبه وعظاته أثناء الزيارة: «صاحب القداسة في زيارة الدولة التاريخية الأولى لبريطانيا، تحدثتم إلى أمة تضم 6 ملايين كاثوليكي لكنكم حظيتم بإصغاء أمة تضم أكثر من 60 مليون مواطن وبإصغاء الملايين حول العالم». وأضاف: «إنه تحد لنا جميعا لنتبع ضميرنا فلا نتساءل عن حقوقنا بل عما يمكننا فعله للآخرين».

في زيارة البابا لبريطانيا كان الإقرار كذلك بالضعف البشري وطلب الصفح والغفران من الذين سببت لهم تجاوزات بعض رجال الدين الجنسية مآسي غير منكرة، وكان تنديد البابا واضحا وكلماته وإدراكه للأخطاء على صعيدي الفعل ورد الفعل الكنسي جلية، من دون ضبابية أو مواربة، وبلا التفاف أو مخادعة، وفي شفافية تبعث في النفس دعوة للتأمل في المقدرة الحقيقية على الإقرار بالخطأ دونما تعال أو استكبار.وربما لهذه، وما سبقها من مستويات إدراكية ومعرفية حفلت بها زيارة البابا لبريطانيا، كان النجاح، ولا شك، حليفها بشهادة الصحافة البريطانية قبل الفاتيكانية، والتي رأت في نمط رحلة «الجد المقدس»، في إشارة إلى تقدم البابا في السن، نموذجا مغايرا يجمع بين الروحانية والعقلانية والعاطفية، وهذا ما أكده بنديكتوس السادس عشر في مطار بيرمنغهام بقوله: «لقد وضعت البلد بأكمله أمام تحد حقيقي ليجلس ويفكر، وهذا لا يمكن أن يكون إلا أمرا جيدا».

حتما، وبتعبير رئيس وزراء بريطانيا، ستعتبر هذه الزيارة منطلقا لتنمية التعاون بين بلاده والكرسي البابوي، تعاون يتجاوز القضايا اللاهوتية والدينية إلى المسائل الدولية الأساسية التي «يجمعنا فيها هدف مشترك، والتي تتمثل في كسب النقاش للسيطرة على التغير المناخي، وفي تعزيز حوار الأديان، والعمل من أجل السلام في عالمنا، ومكافحة الفقر والأوبئة».

هل من كلمة أخيرة قبل الانصراف؟

في الحلق غصة، الكاثوليك والأنجليكان يتقاربان بعد عداوات ودماء وحروب علنية وسرية عبر خمسمائة عام، والعالم العربي والإسلامي تبذر فيه الفتنة بذورها الشريرة، بين أتباع الدين الواحد، والأديان المغايرة، وبعد نحو أربعة عشر قرنا من التعايش الواحد ولا نقول المشترك.

أهذه مصادفة قدرية أم موضوعية؟

مأساة في كل الأحوال في حاجة إلى حديث قائم بذاته.

* كاتب مصري