مبحث التزكية وضرورة استعادته في حياتنا المعاصرة

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

في كتابه «العودة إلى الإيمان» ينقل هنري لنك، أحد فرسان ميدان علم النفس التجريبي في القرن العشرين، حادثة طريفة، مفادها أن أحد طلاب جامعة برنستون الأميركية، ممن شاهدوا اللافتة الموجودة في مدخل الجامعة، التي تحمل حكمة سقراط الخالدة «اعرف نفسك»، بادر بشطبها مستبدلا بها الجملة التالية: «هذب نفسك»! وفي تعقيبه على تلك الحادثة يؤكد لنك أن الجملة الأخيرة تلخص كل مكتشفات علم النفس الحديث، التي تخلص إلى تقرير أنه لن يتسنى لنا الحصول على الشخصية الناجعة، أو الخلق القويم، عن طريق التأمل الباطني، وإنما عن طريق تدريب النفس، أي تهذيبها والسيطرة على شهواتها.

ومما يدعو للأسف الشديد أن مسلمي اليوم يمتلكون تراثا إسلاميا هائلا في هذا المجال (تزكية النفس)، ومع ذلك يقومون بتجاهله كليا لصالح الاشتغال «بما عمت به البلوى» على حد تعبير حجة الإسلام أبو حامد الغزالي. فالذي يتابع ما تنضح به فضائياتنا الدينية من فتاوى متعددة بشأن سفاسف الأمور لا يملك سوى التحسر على ضياع جوهر الإسلام الحقيقي! خاصة أن القصد من الدين – فيما يؤكد الأستاذ الأكبر الشيخ محمود شلتوت في كتابه: «من توجيهات الإسلام» - «ليس إلا تزكية النفس، وتطهير القلب، وظهور روح الامتثال والطاعة، واستشعار عظمة الله، وإقرار الخير والصلاح في الأرض على أساس قوي متين من ربط الإنسان بخالقه». ومما يثير الدهشة في نفس المرء أن بعضا من أهم مسائل مبحث التزكية (التصوف) لم تنل من العناية قدرا كافيا، على الرغم من أنه يمثل جانبا مهما من جوانب الفلسفة الإسلامية من جهة، ويعد تجسيدا لمقام «الإحسان» في الإسلام وللعقيدة الجامعة بين العقل والروح من جهة ثانية، فضلا عن تزايد عدد المنتمين لتياره تحت اسم «الطرق الصوفية» - تلك التي أخذت في الظهور التدريجي ابتداء من القرن الثالث الهجري، ثم اتسعت دائرتها لتشمل عددا من الطرق في القرنين الخامس والسادس الهجريين، التي استطاع شيوخها المؤسسون جذب الآلاف من المسلمين لأصولها العملية - من جهة ثالثة.

ويكفي للتذكير بخطورة هذا الأمر، أن في مصر وحدها قرابة اثني عشر مليونا يتبعون اثنين وسبعين طريقة صوفية، ناهيك عن غير المنتمين بصورة رسمية والمتعاطفين مع الصوفية والدارسين لها المهتمين بمبادئها وأخلاقياتها العملية والعلمية، إذ تشكل الطرق الصوفية جماعات عريضة من المسلمين شرقا وغربا، بحيث أصبح من غير المعقول التغاضي عن حجم هذه الجماعات وسلطتها وفاعليتها وتأثيرها - سلبا أو إيجابا - في مختلف نشاطات الحياة الإنسانية.

وإذا غضضنا الطرف عن تلك العموميات التي شكلت أهمية للباحثين في نطاق دراسة التصوف الإسلامي - كطبيعة نشأته، واشتقاق لفظته، وتحديد مصدره، ومدى مسؤوليته عما لحق بالأمة من انتكاسات.. إلخ - وجدنا أن الوقوف عند بعض مسائله المحورية يمثل أهمية كبرى لجهة محاولة استعادة مبحث التزكية في حياتنا المعاصرة من ناحية، ولتجاوز القصور المسجل في تلك الدراسات التقليدية المنزع في مستوى تعاملها مع هذا التراث الفكري الأصيل من ناحية أخرى، إذ لم تتجاوز أغلب تلك الدراسات إعادة إنتاج الآراء والمواقف القديمة، وتبني «المؤتلف» الذي ضمن له الانتشار والاستمرار واكتسب الشرعية من خلال التكرار! ونتيجة لذلك، أسهمت الدراسات التقليدية المنزع في تكريس الكثير من المسلمات المتعلقة بحقل التصوف، كما أسهمت في توضيح حدود الفصل بين الممكن النظر فيه ومن زوايا محددة، وغير الممكن مراجعته وإخضاعه للبحث من جديد، مخلفة وراءها ضربا من الحجب المزدوج لجملة من الحقائق الفكرية والمعطيات الواقعية: حجب أول مجاله المواضيع التي استهلكت بحثا ودراسة وتفريعا فتكلست فيها المنطلقات والنتائج، وحجب ثان مجاله مواضيع ظلت أبوابها موصدة، بحكم العجز المعرفي عن تناولها، أو بحكم تهميشها بسبب المنع السلطوي.

ويكفي للتدليل على هذا الأمر ما يسود المناخ الديني العام من أحكام خاطئة بشأن التصوف الإسلامي، وما يتبع ذلك من اتهام أتباعه بالابتداع والشرك. ومن ثم يعد التصوف من أكثر الحركات مأساوية في التاريخ الإسلامي، بحيث لا يمكننا أن نفهم مطلقا ذلك الوجد العارم الذي غلب على أطروحات المتصوفة إلا باعتباره إحساسا هائلا بالتناقضات العميقة التي اجتاحت الدولة الإسلامية الناشئة، ومعبرا عن المثل الديني الأعلى، مخالفا بذلك جموع القراء، والفقهاء، والمتكلمين، والمتفلسفين، متعرضا لعداواتهم واضطهاداتهم، من دون أن تخرجه تلك العداوات عن حدود التسامح والحب! هذا ويلخص الإمام عبد الحليم محمود مآخذ المنكرين على التصوف في أربعة مواضع: فأغلب الفقهاء يرونه دخيلا على الإسلام وأن الأدلة على وجود الله ووحدانيته موجودة في القرآن ولا داعي لالتماسها في متاهات التصوف، وأنه ليس في متناول الجميع فهو أرستقراطية فكرية أو دينية لا يتمشى مع ديمقراطية الإسلام، ولأنه ليس في متناول الجميع فهو تكليف بما لا يطاق، وأخيرا أن التصوف فيه ضعف والإسلام قوة! والعقليون ينتقدونه لاحتقاره العقل الذي هو هبة الله والوسيلة الوحيدة لليقين في المجال الديني.

ويرد الإمام على ما سبق بتأكيده أن طريق الصوفية هو البصيرة القلبية، وأن المعرفة الصوفية معرفة إلهامية، ودليل صحته – فيما يقول الإمام محمد عبده - ظهور الأثر الصالح من الصوفية، وسلامة أعمالهم مما يخالف الشريعة، وطهارة فطرتهم مما ينكره العقل الصحيح. كما أن البصيرة سبيلها «تزكية النفس» وهي لا تتوفر إلا للصفوة المختارة، ومن هنا كان اعتراض الخصوم على التصوف بأنه أرستقراطي النزعة، على الرغم من كونه – حتى في طابعه الأرستقراطي - ينسجم مع طبيعة الأمور (الإقرار بوجود الاختلاف والتفاوت) وإذا كانت الديمقراطية تعني التساوي في كل الأشياء فهي أسطورة من الأساطير! ولاشك أننا في أمسّ حاجة إلى استعادة دور التصوف في حياتنا العامة، خاصة مع تأكيد البعض أنه سيأخذ الشكل المستقبلي للإسلام، وأنه، نظرا لما يتضمن من نزعة إنسانية عامة، مرشح بالفعل لتمثيل دور مهم في المستقبل المنظور على المستوى العالمي. ومما يؤكد هذا الاحتمال أن البشرية باتت تشعر بالتهديد في كيانها المادي والروحي بسبب الضغط الذي يمارسه التقدم التقني على النفوس، وبسبب الفجوة التي أحدثها هذا التقدم في التوازنات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفي الصحة النفسية للأفراد والجماعات! ومما يزيد من أهمية استعادة هذا الدور أن القيادات الداعية للإصلاح والنهضة (خلال النصف الثاني من القرن العشرين) قد غفلت عن الاهتمام به، مقارنة مع رواد الإصلاح والتجديد كمحمد عبده وجمال الدين الأفغاني، مكثفة جهودها على الجوانب العقلية والسياسية والتكنولوجية، ظنا منها أن التمكن من تلك الأمور، وامتلاك ناصيتها، كفيل بتحقيق النهضة المنشودة! وهو أمر أقل ما يقال عنه إن الوقائع التاريخية كذبته، ولعل أكبر دليل على ذلك أن الغرب الذي يقود العالم كله في تلك النواحي يعاني أزمة روحية عميقة، وخواء نفسيا كبيرا، وهو ما ينعكس في اهتمامه المتزايد بأشعار جلال الدين الرومي، ومذاهب الروحية الحديثة، والظواهر الباراسيكولوجية (الخارقة للعادة كالتواصل عن بعد).. إلخ. أضف إلى ذلك أيضا أن بعض مجتمعاتنا العربية قد حازت بالفعل أعلى التقنيات الحديثة، ولديها الكثير من الإمكانات المادية الهائلة، والثروات الطبيعية المتراكمة، إلا أنها لا تزال بعيدة كل البعد عن «النهضة» بمعناها الشامل: نهضة العقل والروح معا.

* كاتب مصري