سينودس مسيحيي المشرق وعلاقات المسيحيين بالمسلمين

رضوان السيد

TT

ينعقد بالفاتيكان هذه الأيام «المجمع» الذي دعا إليه البابا والفاتيكان قبل نحو عام، لبحث المشكلات التي يعانيها المسيحيون المشرقيون - كما سماهم - وهم في الغالبية العظمى عرب أو متعربون. والمشكلات التي يقصدها الفاتيكان، والتي استدعت عقد السينودس تتمثل بشكل رئيسي في ثلاثة أمور: الاضطهاد الذي يعانونه، والهجرة التي تتفاقم في صفوفهم، والعلاقات المضطربة بالمجتمعات والدول. وقبل الحديث عن تلك المشكلات نلاحظ أن البابا خص الكاثوليك من بين المسيحيين بالاهتمام، باعتباره زعيمهم، ويملك لهم وعليهم حق الرعاية والاهتمام؛ فذكر تقرير الفاتيكان الأول أن عدد المسيحيين بالمشرق 17 مليونا، الكاثوليك من بينهم عددهم خمسة ملايين. أما البقية الباقية فهم في الأغلب الأعم من الأرثوذكس، وهناك أقل من مليون من أتباع الكنائس البروتستانتية. والكاثوليك طائفة حديثة نسبيا بالمشرق العربي والإسلامي، لها عدة خلفيات؛ فالعدد الأكبر من الملايين الخمسة (على فرض صحة الإحصاء) ناجم عن الانشقاق الذي حدث في مطلع القرن الثامن عشر الميلادي في صف كنيسة الروم الأرثوذكس، فأدى إلى ظهور «الروم الكاثوليك». ثم هناك الطوائف السريانية القديمة بالمشرق منذ ما قبل الإسلام، والتي انضمت غالبيتها بالتدريج إلى الفاتيكان والتبعية لروما، وأهمها الكنيسة المارونية بلبنان. ثم هناك «الكاثوليك اللاتين»، أي ذوو الأصول الأوروبية ممن جاءوا مع التجارة والاستعمار واستقروا في البلاد العربية أو خلفوا تأثيرات مباشرة، فأنشأوا كنائس أو رعايا لاتينية رومانية (في العقائد ولغة القداس). وقد خص البابا الكاثوليك بالاهتمام، متشاورا مع الأقباط (10 ملايين) ومع الأرثوذكس (3 ملايين)، بيد أن النصوص التمهيدية كتبها كاثوليك مشارقة في الغالب، في حين مر البابا في اليونان وقبرص بالأرثوذكس وتحدث إليهم، ولا أدري إن كان قد شارك الأقباط مباشرة. وإنما، كما سبق القول، سيكون هناك ممثلون لهم في السينودس كما للأرثوذكس. ولست أدري لماذا سلك البابا هذا المسلك، ولم يسع الفاتيكان لحشد الإمكانات المسيحية كلها، ما دام الأمر أمر المصير، وهو يهمهم جميعا، فضلا عن أن المشكلات واحدة.

على أي حال، هناك بالفعل وضع خطير للمسيحيين بالعراق وفلسطين؛ إذ عانوا ويعانون الملاحقة والتتبع، أما في فلسطين، فمنذ قيام الكيان الصهيوني، وأما في العراق فبعد سقوط النظام العراقي السابق. في فلسطين يمكن الحديث عن تتبع منظم أو «قانوني»، وهو يشمل الطوائف المسيحية كلها (باستثناء الطوائف الإنجيلية الصغيرة الداعمة لإسرائيل). والهدف، كما هو مع المسلمين، التقليل من أعدادهم، لتظل الكثرة الساحقة يهودية، والحصول على أملاك الكنائس بالقدس؛ لأنها أوقاف قديمة وتتعلق بالرموز والمشاهد اليهودية والمسيحية المشتركة. وكانت الكنيسة الكاثوليكية، وبعد اعتذارات كثيرة عن الاضطهاد السابق، قد عقدت «معاهدة» مع الدولة الإسرائيلية عام 1994 حول شتى المسائل المتعلقة بالكنائس والأوقاف والحقوق الدينية، والتي تمس مباشرة، أو بشكل غير مباشر، المواطنين الكاثوليك بالدولة العبرية. بيد أن الظروف لم تتحسن كثيرا. والشكوى المحسوسة لدى لكاثوليك، كما لدى الأرثوذكس، هي الافتقار إلى فرص العمل والتأثير والقدرة على المشاركة في المجتمعات المحلية وفي الحياة العامة؛ لذا فإن الهجرة تتفاقم في صفوفهم.

أما في العراق، فيمكن الحديث عن اضطهاد مباشر في السنوات الخمس الأخيرة بعد سقوط النظام العراقي تحت وطأة الغزو الأميركي. والطريف أنه في ذيل الغزو جاءت إلى المناطق المسيحية «كتائب» من المبشرين الإنجيليين، وتمركزت في مناطق التجمعات المسيحية بحجة العناية والرعاية. ومنذ عام 2005 بدأت حوادث غامضة المصدر ضد الكنائس المسيحية في بغداد ونواحي الموصل، وأحيانا ضد رجال الدين والأفراد. وقد دفعت تلك الحوادث المسيحيين إلى هجرتين: هجرة داخلية من منطقة إلى منطقة بداخل العراق، وهجرة خارجية باتجاه سورية والأردن، تمهيدا للاستمرار باتجاه الأميركتين وأستراليا. والمسيحيون بالعراق من الطوائف الكلدانية والآشورية (وهي التي تسمى سريانية في منطقة سورية الكبرى) القديمة، والكنائس هناك مثل الكنائس في سورية من أقدم الكنائس في العالم. وقد انضم المسيحيون العراقيون إلى الفاتيكان في القرن الماضي وهذا القرن، في حين بدأت علاقات الكنيسة المارونية السريانية (لبنان) بالفاتيكان منذ القرن الخامس عشر الميلادي فيما يقال. ويحتفظ المسيحيون السريان ببعض الاستقلالية في شعائرهم، ويحظون بالعناية في التعليم، وفي الانفتاح على العالم.

وعندما يتحدث المسيحيون العرب أو المشارقة اليوم عن مشكلاتهم، ويعللون هجرتهم أو اضطرارهم للهجرة، يذكر الموضوعيون والهادئون منهم سوء الظروف بشكل عام؛ وهي ظروف سيئة بالطبع على المسلمين أيضا؛ لكن الأقليات تتأثر بها أكثر. ثم يذكرون حوادث العنف التي تجري ضدهم، فلا يخلو كلامهم من انتقاد للحكومات والجهات الأمنية التي لا تقدم حماية كافية. وقد يتجاوز المسيسون منهم ذلك إلى الحديث عن الحقوق السياسية المهضومة، لكنهم مضطرون هنا أيضا للقول إن المسلمين ليسوا أحسن حالا بكثير في هذه الأمور. ثم ما يلبثون أن يعترفوا للحكومات بأنها أفضل حالا معهم من الجماعات الأصولية الإسلامية، ومن المجتمعات المسلمة بشكل عام. فهناك أصوليون متشددون لا يرغبون في رؤية المسيحيين في مجتمعاتهم بحجج مختلفة مثل المسائل الأخلاقية، وأن عندهم امتيازات، وأنهم متغربون أو يتعاملون مع الغرباء، وأنهم أخيرا يخالفون وضع الذمية، الذي وضعهم فيه الإسلام! إنما باستثناء العراق في السنوات الأخيرة، وبعض الحوادث في مصر، ليس هناك عنف محسوس. إنما المحسوس ذلك الجفاء وتلك العزلة والانفصال بداخل المجتمعات، فالمسلمون بشكل عام، وخاصة المتدينين، صاروا يتجنبونهم أو أنهم لا يعتبرونهم «شركاء»، كما كان عليه الأمر سابقا. وبسبب «الاغتراب» المتزايد بين الطرفين، تكتسب الحوادث القليلة أبعادا تضخمية؛ لأن المتشددين من الطرفين يطفون على السطح، ويصبحون هم المتحدثين والصارخين في وسائل الإعلام. وفي هذه الظروف تصبح الحكومات هي الموئل، وقادة الجماعات المسيحية بالفعل على علاقة حسنة بالمسؤولين في أكثر الأحيان؛ فتصبح «العلة» كما يقال، في المجتمعات، وليس في الحكومات. وهذه علة أخطر؛ لأن إصلاحها صعب أو متعسر. وفي الواقع، يتعذر الحكم لتعذر المقاييس المضبوطة، في اختبار حركة الناس واختلاطهم وتغير نظرتهم بعضهم إلى بعض.. ففي لبنان مثلا، ورغم الحروب الداخلية المتكاثرة، يتردد الناس في الحديث عن إيثارهم للعزلة والانفراد أو إيثارهم للمجتمع الموحد مسيحيا أو إسلاميا. والذي حدث بمصر في الأسابيع الماضية نادر المثال، أو أنه لا يحدث في العادة بهذه العلنية. فقد خرجت تصريحات لرجل دين مسيحي بارز تتهم المسلمين باضطهاد المسيحيين، وتقول إن المسلمين غرباء بمصر وضيوف، وعليهم أن يراعوا واجبات الضيافة... إلخ. وأجابهم مسلمون بالعنف نفسه وفي وسائل الإعلام المصرية والفضائيات الأخرى. وهكذا، فالذي يبدو أن الطرفين تغيرا، وما تغير المسلمون فقط.

كيف يعالج الفاتيكان ومجمعه هذه الظواهر؟ وما الفائدة؟ السينودس مهم ومفيد، وإن اقتصر على الكاثوليك؛ لأن المشكلات واحدة. ولو لم يكن هناك غير التشاور والتفكير في الحلول، لكان ذلك أمرا حسنا؛ فكيف والفاتيكان يملك إمكانات أكبر للتأثير والتدبير؟ ولا بد، قبل ذلك وبعده، أن ينتهي هذا الانكماش اللاهوتي والعملي، والعودة إلى نصوص وروح المجمع الفاتيكاني الثاني (1962 - 1965) والذي انطلقت بعده حركة حوارية كبرى مع المسلمين ومع المسيحيين الآخرين ومع اليهود. ثم لا بد أن يعود المسيحيون العرب إلى الحركة، بإحياء المؤسسات الحوارية المشتركة وتقويتها. ولا بد من شراكات أوسع بين المسلمين والمسيحيين في الحياة العامة والأعمال وجمعيات المجتمع المدني.

ولست أرى شواهد واضحة على ميول إسلامية أو مسيحية للانعزال والانكماش. فهناك عشرات الألوف من المسيحيين العاملين بأقطار الخليج، وهم عندما خرجوا من لبنان أو سورية أو مصر أو الأردن، فليس لأنهم مضطهدون أو معزولون، وإلا لما قصدوا أقطارا إسلامية مشابهة. وإنما خرجوا مؤقتا من أجل فرص العمل الأفضل. إنما ينبغي أن يقال إن المسيحيين في العقود الأخيرة بذلوا جهودا أكثر من المسلمين من أجل التحاور والتشارك، وذلك يعود لأمرين اثنين: الحاجة والوعي. فينبغي أن يتنامى الشيء نفسه لدى المسلمين، وبخاصة أولئك الذين يتشاركون معهم في مواطن التعليم والعمل. أيا ما يكن الرأي في دقة الوثائق التمهيدية للسينودس، وأيا ما تكن دقة التحليلات والنتائج المتفرعة عليها؛ يبقى أن هناك مشكلة في العيش المسيحي بالمشرق، وأن لدى المسلمين مسؤولية عنها أيضا؛ لذا فإن مؤتمر الفاتيكان، أو مجمعه، يستحق المتابعة والاهتمام، توصلا للمشاركة والتضامن في صنع العيش الوطني والإنساني.