«تذييل المعيار» للتاجوري يكمل الفراغ ويوفر المزيد من النوازل للتاريخ الاقتصادي الاجتماعي

محمد الأرناؤوط

TT

يتميز الغرب الإسلامي بالاهتمام المبكر للعلماء بالنوازل أو الفتاوى التي تستجيب للقضايا الاقتصادية والاجتماعية الجديدة التي كان يسأل عنها المسلمون علماءهم. وقد جمعت منذ القرون الأولى للهجرة مجموعات مختلفة من النوازل تقتصر على عالم بمفرده، كما هو الأمر مع نوازل ابن رشد (توفي 520هـ)، ونوازل القاضي عياض وولده محمد المسماة «مذاهب الحكام من نوازل الأحكام» وغيرها، أو تقتصر على منطقة محددة مثل «الدرة المكنونة في نوازل مازونة» للمغيلي (توفي 883هـ)، و«الجواهر المختارة مما وقفت عليه من النوازل بجبال غمارة» للغماري (توفي 1055هـ)، وغيرها.

ولكن الأهم هنا هي تلك المجموعات من النوازل التي تشمل الغرب الإسلامي من الأندلس إلى طرابلس الغرب، والتي ظهرت تباعا. أما أولها فهو «جامع مسائل الأحكام لما نزل من القضايا بالمفتين والحكام» للبرزلي (توفي 841هـ)، ثم «المعيار المعرب عن فتاوى أهل أفريقية والأندلس والمغرب» للونشريسي (توفي 917هـ)، ثم «تذييل المعيار» للتاجوري الذي سنتحدث عنه هنا، ثم «المعيار الجديد» للوزاني (توفي 1342هـ).

وقد تنبه الباحثون المغاربيون في شمال أفريقيا منذ منتصف القرن العشرين إلى أهمية النوازل في التاريخ الاقتصادي الاجتماعي، وبالتحديد مع الجيل الجديد من المؤرخين، مثل محمد الطالبي وسعد غراب ومحمد حسين الذين أطلقوا مقولة «لا وجود لنص فقهي لا يعكس الواقع بطريقة أو بأخرى». ومع عبد الله العروي لدينا إسهامه في هذا المجال مع كتابه «تاريخ المغرب» (1970) الذي أكد فيه على أن «فقه النوازل هو الكفيل الذي يقربنا أكثر من واقع الأوضاع السياسية والاجتماعية». وفي هذا السياق لا بد أن نذكر مبادرة الجمعية المغربية للبحث التاريخي إلى عقد ندوة «التاريخ وأدب النوازل» بالرباط عام 1989، التي صدرت أوراقها في 1995.

وبالمقارنة مع بلاد المغرب يلاحظ أنه في المشرق لا يزال الاهتمام ضعيفا بالنوازل إلى حد أن أحد المؤرخين المشرقيين المعروفين الذي كان يقدم ورقتي «من القيروان إلى تونس والعالم الإسلامي: نوازل البرزلي مصدرا للتاريخ الحضاري» في ندوة «القيروان عاصمة الثقافة الإسلامية» (2009)، سألني في حضور المؤرخ المغربي المعروف عبد الهادي التازي عن معنى «النوازل» قبل أن أبدأ في قراءة ورقتي.

وفيما يتعلق بالمجموعات المذكورة للنوازل التي تتناول شمال أفريقيا، فقد كان البرزلي الأول الذي جمع ما سبقه من النوازل لعدة قرون، ثم جاء الونشريسي في «المعيار» ليضم الأندلس ويمتد بالنوازل إلى عصره، بينما امتاز «تذييل المعيار» بكونه قد توسع زمنيا إلى الثلث الأول للقرن الثاني عشر، ومكانيا بضم نوازل فقهاء المالكية في طرابلس الغرب ومصر.

وعلى حين أن كتاب «جامع مسائل الأحكام» للبرزلي و«المعيار المعرب» قد طبعا واستفاد منهما الباحثون في بلاد المغرب، فإن «تذييل المعيار» بقي ينتظر من يهتم به ويحققه، وهو ما تم مؤخرا على يد الباحث الليبي المعروف الدكتور جمعة الزريقي (الطبعة الأولى 2008 والطبعة الثانية 2010).

لقد عنى الدكتور الزريقي عناية واضحة بتحقيق هذا المخطوط الذي جاء في ستة مجلدات، خصص السادس منها فقط للفهارس. وقد توسع المحقق في مقدمة التحقيق في التعريف بالمؤلف الشيخ عبد السلام العالم التاجوري (1058-1139هـ/ 1648-1727م) الذي وصفه بأنه «على درجة كبيرة من العلم، كما كان يتمتع بمكانة عالية في مجال التصوف». ومع ذلك يمكن القول بالاستناد إلى ما ورد في مقدمة التحقيق إن كتابه «تذييل المعيار» أهم عمل له، لأن مؤلفاته الأخرى في السيرة والفقه والتاريخ محدودة القيمة.

وتبدو أهمية هذا العمل في أنه يستعرض لنا الكثير من الخصوصيات البيئية هناك والمستجدات في الحياة الاقتصادية والاجتماعية في القرون المختلفة. فالسؤال الموجه إلى المفتي عما يستجد أو ينزل من أمور كان يعكس في حد ذاته قيمة خاصة، ثم يأتي الجواب عن المسألة الجديدة أو النازلة ليوضح مدى انفتاح المستفتى على العصر وقضاياه.

ومن هذا، على سبيل المثال، لدينا نوازل تتعلق بالعلاقة مع أهل الذمة وتبادل الهدايا معهم، حيث ينقل التاجوري الفتوى القائلة: «لا بأس بالمهاداة بين المسلم والذمي ما لم تبلغ ذلك إلى حد موالاته ومحبته» (ج1، ص122). ومن ذلك أكل الضفادع التي كان يتمتع بها الأوروبيون النازلون في تلك الأماكن، حيث ينقل التاجوري رأيه: «ميتة الضفادع البرية نجسة لا تؤكل، ومذهب المدونة أكل البحرية دون ذكاة» (ج1، ص162).

ومن ناحية أخرى يبدو أن البيئة الصحراوية كانت تفرض خصوصيتها على مسألة اللباس. فالتاجوري ينقل سؤالا طريفا للشيخ محمد بن ناصر الدري «عن طلبة البوادي المنتصبين للإمامة يستخدمون نساءهم يخرجن منتصبات متبرجات يمينا وشمالا، عاريات الوجه والرقبة إلى حد القلادة من الصدر واليدين إلى المرفقين والرجلين متزينات بحلي وغيره، هل تجوز إمامة أزواجهن؟ وإذا قلتم بعدم الجواز، فقد هلك أهل البوادي كلهم لعدم وجود من يحجب محارمه!». ويلاحظ في الجواب أن المفتي هنا يسلم بجواز إظهار الوجه والكفين لزوجة الإمام: «لا تجوز الصلاة خلف من تخرج زوجته متبرجة إن سامح زوجته في إظهار ما عدا الوجه والكفين، ولا ينهض عذرا اتفاقهم على ذلك» (ج، ص337-338).

ومن الأمور التي تلفت النظر في النوازل ما له علاقة مع اليهود والمسيحيين، خاصة في أكل الذبائح بسبب وجود هؤلاء بين المسلمين وبسبب سفر المسلمين المتزايد إلى البلاد الأوروبية. فالتاجوري ينقل فتوى عن الشيخ علي الأجهوري تقول إنه «يجوز أكل ذبيحة النصارى وإن لم يوجهوها للقبلة ولم يسموا الله تعالى»، كما أنه ينقل فتوى الشيخ الدري عن طعام اليهود والنصارى بكونه «يجوز أكله مطلقا» (ج2، ص119).

وفيما يتعلق بالطعام والشراب يلاحظ هنا أن بعض النوازل تتناول المستجدات التي ظهرت في المجتمع بعد الونشريسي، ولذلك لم تكن حاضرة في نوازله. ومن ذلك شرب الدخان والقهوة وحكم ما يتم صيده بالبنادق النارية الجديدة.. إلخ.

ففيما يتعلق بالدخان، أو «عشبة التبغ» كما ترد في النوازل، يلاحظ التشدد حين سئل الشيخ محمد ناصر الدري: «أيحل الكراء لحاملها أم لا؟»، حيث إن جوابه كان بالنفي القاطع (ج2، ص125). ومن ناحية أخرى، فقد كانت القهوة قد انتشرت أولا في الحجاز وبلاد الشام قبل أن تصل إلى شمال أفريقيا في عصر التاجوري، ولذلك يلاحظ هنا أن التاجوري أورد فتوى الفقيه الدمشقي المعروف ابن عراق (توفي 963هـ) التي أجاز فيها شرب القهوة في المشرق، ثم يعلق على ذلك بالقول: «جواب ابن عراق هو الحق، وإلى مثل هذا تميل أجوبة كثير من الأئمة» (ج2، ص133-134). وفيما يتعلق بجواز أكل اللحوم من الحيوانات التي يتم صيدها بالسلاح الناري الجديد (البنادق) أورد التاجوري فتوى للشيخ عبد القادر الفاسي بجواز ذلك وقولا لابنه عبد الرحمن أن «أهل المغرب الأقصى قد أجمعوا على حلية الصيد ببندقية الرصاص منذ صدرت هذه الفتوى» (ج2، ص103-116).

ومن المواضيع التي تتناولها أيضا نوازل التاجوري، الأوقاف التي كانت لها خصوصيتها في شمال أفريقيا، حيث كان قد شاع في المشرق الأوقاف التي يتم فيها حرمان الإناث من الدخل كنوع من الالتفاف على حقهن في الوراثة، ويلاحظ هنا أن هذا النوع قد استمر أيضا في ليبيا حتى وقتنا، بدليل أن مفتي ليبيا الطاهر الزاوي (توفي 1986) قد أفتى بتحريم هذا النوع من الأوقاف، مستندا إلى قول الإمام مالك بأنه «عرف جاهلي» (ج4، ص206).

ومن ناحية أخرى، تجدر الإشارة إلى غنى النوازل بالقضايا الجديدة في مجال الاقتصاد التي غطت الجزأين الثالث والرابع، حيث إنها شملت السلم والإقراض والرهن والفلس والصلح والمزارعة والمساقاة والإجارة وكراء الأرض وكراء الدواب.. إلخ.

ومن هنا فإن صدور هذا الكتاب يأتي بعد طول انتظار ليمد الباحثين في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي بمادة غنية للدراسة تساعدهم على استجلاء جوانب مختلفة من تاريخ المنطقة حتى عصر التاجوري، ولتؤكد مرة أخرى على مدى أهمية النوازل كمصدر من مصادر التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للمجتمعات المسلمة.

* أستاذ التاريخ الحديث في جامعة آل البيت - الأردن