الحوار بوصفه فريضة إسلامية

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

على الرغم من أن التعاليم الإسلامية لا تنفك تؤكد، مرارا وتكرارا، على ضرورة اتباع نهج الحوار والتسامح؛ فإن بعضا من علماء الدين الإسلامي لا يزالون يشككون في المبادرات التي انطلقت مؤخرا تحت مسميات: «حوار الأديان» تارة و«حوار الثقافات والحضارات» تارة أخرى، للاتفاق مع الآخر بشأن ما يجمع ونبذ ما يفرق، والاهتمام بالمشترك الديني الأخلاقي والحضاري الإنساني. وحجتهم في ذلك أن غير المسلمين ممن ينادون بحوار الأديان والحضارات لا يعترفون بالإسلام أصلا ولا يحترمون عقائده، بل ويصمتون إزاء الإساءة تلو الأخرى التي يوجهها البعض منهم إلى أبرز رموز الدين الحنيف وأهم معالمه! ومن ثم؛ فإنهم ينظرون إلى مثل هذه الحوارات باعتبارها مضيعة للوقت والجهد معا، لدرجة أن أحدهم وصفها ذات مرة بأنها «حوار طرشان» لا أكثر ولا أقل من ذلك! وجدير بالذكر أن اللافت للنظر في هذا السياق، أنهم يصرحون بمثل هذا الكلام في الوقت نفسه الذي يؤكدون فيه أن الإسلام دين حوار وتفاهم، ودائما ما يمد يده للآخر - أيا كانت ديانته - بالسلام، لكن هذا الآخر هو الذي يصم آذانه عن الحوار عادة، فضلا عن أنه لا يكترث مطلقا بما يدعوه إليه الإسلام من حوار هادئ يكفل تحقيق المزيد من التعاون والتفاهم! وهؤلاء يدللون على موقفهم هذا بما حدث - ويحدث حاليا - من توجيه إساءات بالغة بحق الإسلام والمسلمين، يشارك فيها قادة دينيون، وسياسيون كبار على مستوى رؤساء دول، كما يشارك فيها أيضا فلاسفة ومفكرون. ولذلك تراهم يتساءلون بحدة بالغة: لماذا نطلب الحوار مع من يرفضه أصلا ولا يستجيب لما يهدف إليه، كما لم يكف عن إشاعة المقولات الظالمة بحق الإسلام وأتباعه؟! وينسى هؤلاء أنهم بذلك يضعون الغرب كله في سلة واحدة، ناهيك عن أنهم يقعون في الخطأ نفسه الذي يعيبونه على الآخر حين يأخذون بعضهم بذنب بعض، مما يتعارض صراحة وقول الله تعالى: «ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور»، وقوله كذلك: «يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى». ومما لا شك فيه أن القرآن أقر مبدأ الحوار وأكده في الكثير من آياته عند تعرضه لمجموعة كبيرة من القضايا المصيرية التي تتعلق بالعقيدة والشريعة، وأن الإسلام وطد لهذا المبدأ المهم، الذي يعد بمثابة ركيزة أساسية لبناء المؤسسات الحياتية، بسلوكياته القائمة على معيار العقل والمنطق، ومبادئ النظرة الكلية للكون، وإقراره قيم النزعة الذاتية التحررية؛ ونتيجة لذلك يخلص المتتبع لآيات الجدال في القرآن إلى تقرير أنه لا ضرر مطلقا في اعتماد الحوار وسيلة في أكثر الأمور الفكرية تعقيدا، لأن الإسلام أراد أن يفتح الطريق بذلك أمام العقول الواعية، لتقرر الأدلة على المعرفة الجازمة التي تنفي كل تقليد يؤدي إلى التبعية العمياء للآبائية من جهة، أو الاستلاب المطلق للأنظمة الشمولية من جهة أخرى، خاصة تلك التي جعلت نفسها واسطة فيما بين الإنسان وخالقه.

ويترتب على ما سبق، أن الإيمان بالحوار في أقدس مبادئه يعني - بالدرجة الأولى - انتفاء أسباب الصراع أولا، وعدم وجود مغذيات للنزاع ثانيا. على أن الحوار لا ينتج سلوكا مستقيما في الفرد والجماعة معا ما دام المحاور لا يستشعر في قرارة ذاته أن الآخرين إخوة له في الإنسانية، يتعايش معهم وفق أساس متين قائم على التوحد في المشتركات الأساسية للحياة، ويتوافق معهم فيما يضمن المصلحة الكبرى للبلاد والعباد. وإلا، كانت الدعوة إليه وسيلة لدغدغة المشاعر، وتليين الأجواء، وتبليد الأحاسيس النافرة.

إن الحوار بين الأديان والحضارات ينبغي أن يكون مبنيا على أساس من الاحترام المتبادل، هادفا إلى إزالة سوء الفهم بالآخر، تحقيقا لقوله تعالى: «قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون»، وقوله سبحانه: «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين».

وكذلك في توجيهه للحوار مع أهل الكتاب بقوله: «ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، إلا الذين ظلموا منهم، وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون»، وقوله كذلك: «فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا، وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد».

فالإسلام يأمرنا أن نأخذ بالمسالمة العامة مع كل الفئات المسالمة، من كل الناس الذين يختلفون معنا في المعتقد، وذلك عن طريق الأخذ بأسباب العدل في معاملتهم، وبالإحسان إليهم عملا بقوله تعالى: «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين»، أما الذين يمارسون البغي والعدوان بالقتل والتشريد، فلهم وضع آخر، يكشف عنه قوله تعالى: «إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون».

لذلك يكتسب الحوار في عالمنا المعاصر أهمية قصوى، خاصة بعد أن أصبح العنف عابرا للقارات لا يكرس التسامح السلمي في الحياة؛ وإنما الإرهاب الدموي الذي لا يتدين بدين ولا يرغب في إقرار السلام بهذا العالم. أضف إلى ذلك أيضا؛ أن الصراع المحتدم بين الإسلام والغرب يمثل جزءا من تاريخ بائس يرخي بظلاله القاتمة على أفئدة كثير من صاغة الفكر والسياسة لا سيما لدى أصحاب الاتجاهات اليمينية المتطرفة ممن يودون إطالة ذيل هذا التحارب إلى أمد لا يعرف مداه إلا من يريده هنا وهناك مستمرا على حاله؛ لكي يكون وسيلة للقهر والذل والاستلاب والاستعباد، ومنطلقا لتوسيع الفجوات بين شعوب الأرض التواقة إلى عالم يسوده الأمن والاستقرار.

وكما لاحظ البعض بحق؛ فقد كتب على أمة الإسلام أن تخوض غمار هذا التصارع، فكانت أراضيها مسرحا للأحداث المفزعة التي مرت تحت مرأى ومسمع من العالم، وكان سكانها مسرحا لتجريب أنواع كثيرة من أسلحة الدمار الشامل. والواقع، أن وضعا كهذا - بمأساويته البالغة - يدل في حد ذاته على فساد القلوب والضمائر، وينذر بشؤم يؤلم شجاه كل فضيل، مما يستوجب التساؤل: هل سيمتد الصراع بين أتباع الأديان والحضارات والثقافات مع قيام الحجة عقلا ودينا وواقعا على وجوب تجاوزه؟ أم لا بد من مواصلة النداء للتحاور والتشارك والتفاعل بين الإنسان وأخيه الإنسان، بغض النظر عن اعتبارات اللون والعرق والجنس والعقائد؟

لا شك أن المبادرات النبيلة التي انطلقت في هذا الإطار قد أنشئت أساسا للخروج من هذا المأزق الحاد، وكان أبرزها دعوة خادم الحرمين الشريفين لحوار الأديان من أجل الوقوف يدا بيد في مواجهة هذا الزحف الأسود والإعصار العقيم، الذي يهدد الوجود البشري في الصميم، مطالبة بالتصدي لخطر العنف والإرهاب الذي يعصف بكيان المجتمعات الإنسانية كافة. وقد صادفت تلك الدعوة صدى طيبا لدى الأرواح الإنسانية المعذبة التي لا تنفك تبحث عن خلاص للمجتمعات المعاصرة والخروج من أتون الصراعات السياسية والعرقية والدينية والمذهبية، وصولا بموكب الإنسانية الحائر إلى مرفأ الأمن والسعادة والسلام، فهل ثمة رجاء أن نرى ثمار تلك الجهود الخلاقة في القريب العاجل؟.. نأمل ذلك!

* كاتب مصري