القدوة في الحل والترحال!

شون كيلينغ

TT

لاحظت في العديد من المناسبات الاجتماعية العامة ظهور بعض السلوكيات التي لا تنطوي على احترام الآخرين. وأنا هنا اتكلم عن مشكلة عالمية لا تقتصر على مجتمع معين أو دين . وقد يعكس ذلك توجها ثقافيا يتعلق بتدني المعايير العامة، و ان لهذه المسألة للاسف بعدا اضافيا متناقضا في منطقة الشرق الأوسط. هذا البعد يستحق التحليل والتمحيص. لان بعض الناس يعدل من سلوكه بشكل جذري، ليس من حيث المبدأ، ولكن وفقا للموقف أو السياق الاجتماعي. فهو يتحلى داخل الجالية أو الأسرة أو المجموعة الاجتماعية بقيم معينة واضحة ، وسرعان ما تتغير هذه القيم اذا وجد في نطاق اجتماعي اوسع . وهذا غالبا ما يتضح عندما يسافر الشخص الى مكان مختلف تماما ، سواء كان ذلك للاجازة أو العمل. وكأن اظهار القيم والمبادئ لدى هذه الفئة من الناس يعتمد كليا على ما إذا كانت تلاحظ من قبل أشخاص آخرين سواء معروفين لديهم او غير معروفين .

سوف أسوق مثالا بسيطا يؤكد هذه الفكرة. دخلت مرة متجرا كبيرا وكان هناك شخص يصرخ في وجه موظف الصندوق (الكاشير)، متعمدا و بصورة سلبية لفت انتباه المتسوقين الآخرين في المتجر. وكان كل ما سمعته ان «العميل دائما على حق»! والقصة ان الشخص الذي كان يصرخ حاول ان يتخطى دوره في الطابور مما حدا بالموظف الى رفض تقديم الخدمة له نتيجة لهذا التصرف وحاول ببساطة وهدوء حماية حقوق الآخرين. وكانت المكافأة التي تلقاها بسبب قراره هذا سيلا عارما من الشتائم والاهانات. لقد حيرني هذا الامر، وخصوصا عندما سمعت من آخرين أن هذا الشخص عادة ما يكون مثالا لحسن السلوك في محيط بيئته ويظهر اهتماما بالآخرين، ولكن ها هو الآن يكيل أفظع الألفاظ إلى موظف كان من الواضح أنه يقوم بالعمل الصحيح وبطريقة مهذبة. لقد كان المشهد محرجا للغاية. لماذا هذا التناقض؟ يبدو لي أن بعض الناس لا يرون ضيرا في تدني مستوى سلوكهم عندما يكونوا بعيدين عن نطاق الدوائر العائلية والاجتماعية المباشرة ، لاسيما حين يشعرون بأن سمعتهم ستكون في منأى عن الخطر، او انهم سوف لا يتعرضون للمساءلة القانونية. وهذا يطرح سؤالا مثيرا للاهتمام : هل هم غير مخلصين في سلوكهم في المقام الأول؟ أليس هذا دليلا على النفاق المجتمعي و السلوكي؟ بالتأكيد يجب أن تكون مبادئنا وسلوكنا قابلة للتطبيق في جميع الحالات والمواقف، أليست هذه المبادئ راسخة في هويتنا ومعتقداتنا الدينية وتقاليدنا الثقافية وفهمنا العام لدورنا في المجتمع و مسؤليتنا تجاه الآخرين؟ أليس هذا الشعور الضمني بالاخلاق هو الذي يعرفنا بهويتنا وبكيفية الانخراط في المجتمع من حولنا ويحدد تصرفات الاخرين تجاهنا؟ مما لاشك فيه أن احترام الآخرين واحترام حقوقهم الاجتماعية، سواء كانوا أصدقاء أو جيران أو مواطنين ينبغي أن يكون مقياسا هاما لتحديد هويتنا وتصرفاتنا. يبدو ايضا ان للتطور الاجتماعي والحضري تأثيرهما في هذه المسألة. منذ زيارتي الأولى قبل عدة سنوات الى الشرق الأوسط لاحظت وجود تحولات ثقافية جذرية. إذ كان من الشائع أنذاك ان يدعوك احد الغرباء الى منزله عقب الصلاة لاحتساء الشاي او تناول وجبة طعام ، لا سيما في ضواحي المدن. أما الآن فيبدو هذا الامر مرتبطا بالماضي ولم نعد نسمع به تقريبا نظرا لانشغال معظم الناس بأمورهم الحياتية مما افقدهم أهم الشروط الإنسانية ، ألا وهي الاهتمام الصادق بالآخرين وأحوالهم . ثمة اختلاف طبعا بين أهل القرية وسكان المدينة ، وهذه هي القاعدة في معظم المجتمعات. بيد ان سكان المدن لا يعرفون في كثير من الحالات حتى جيرانهم ، بمن فيهم أولئك الذين يقطنون في المنزل المجاور . وفي بعض الحالات يتجنب الجيران الاتصال ببعضهم خوفا من أن يؤدي ذلك إلى تحمل عبء مسؤولية إضافية في وقت اضحى فيه الجميع مشغولين ! وفي أسوأ الحالات ، ثمة اشتباه تلقائي بأن الشخص الذي يسعى في هذا الاتجاه إنما يسعى وراء منفعة ما. وهذا شيء محزن للغاية. لان المجتمعات تبنى على مثل هذه التفاعلات اليومية، والابتسامة على وجه الخصوص في العصر الحالي هي بالتأكيد عمل من الاعمال الخيرة. لقد تمخضت هذه التغيرات عن حدوث انهيار في النظام الاجتماعي وظهور مجتمع مختل من الناحية الوظيفية. قد يكون الناس اكثر ثراء ، ولكن هل هم راضون وسعداء؟ اظنهم ليسوا كذلك. فنحن نسمع الآن عن جرائم فظيعة ترتكب بوحشية بالغة كان حدوثها نادرا ، بل لم نكن نسمع بها من قبل ، في المجتمعات التقليدية. وكأن بعض الناس لا يرون تأثير سلوكهم على الآخرين ، ناهيك عن الاهتمام بذلك اصلا. انهم يفعلون ما يشأؤون بصرف النظر عن العواقب. انظر الى عناوين الأخبار والصحف اليومية ، وتحدث إلى الأقرباء الأكبر سنا ، وستدرك بالتأكيد ان هذا غيض من فيض وان ما خفي كان اعظم. لابد من حدوث تغيير. واذا كانت هناك نقطة تحول فيجب أن تبدأ بنا وبعائلاتنا وفي تصرفاتنا في الأماكن العامة ، وبتفاعلنا مع الآخرين ، والوفاء بمسؤولياتنا الاجتماعية. تماما كما في الحديث الشريف لايؤمن احدكم حتى يحب لاخيه ما يحب لنفسه. إن هذا المبدأ البسيط هو المرشد والموجه نحو بلوغ أسمى المعايير العامة. ورغم انه من السهل ترديده، إلا ان تطبيقه يحتاج الى جهد لكي يصبح منهجا للحياة. والحقيقة المحزنة هي اننا مهما شكونا من هذا الامر ، فاننا جميعا مسؤولون عن هذا التدهور العام. وبالتالي ، فاننا نعتبر جميعا جزءا من الحل. لذا ينبغي أن نسعى الى تطبيق معاييرنا الاخلاقية في أماكن عملنا وفي الحياة الاجتماعية وضمن المجتمع، واثناء القيادة وفي التعاملات المالية. وينبغي أن نعطي مثالا ايجابيا للآخرين وان نبدأ في نشر هذه المبادئ في حياتنا العام. وإذا لم نفعل ذلك ، فسيكون المستقبل أكثر قتامة لاطفالنا.

* مستشار السفارة البريطانية في الرياض