سينودس مسيحيي المشرق ومسائل الحق والنزاع والسلام

رضوان السيد

TT

انتهت الجلسات المفتوحة لسينودس (= مجمع) مسيحيي المشرق الكاثوليك، الذي انعقد بالفاتيكان بعد إعدادات استمرت لأكثر من ستة أشهر. وبالإضافة إلى التقارير والمحاضرات التي قدمها أو ألقاها ممثلو الجهات والكنائس المختلفة، وبعض المراقبين من المسلمين والروم الأرثوذكس والأقباط، نوقشت على مدى خمسة أيام «ورقة العمل» التي أعدتها اللجنة التحضيرية للسينودس، وكان البابا قد أعلن عنها من قبرص في شهر أغسطس (آب) الماضي. وسوف يجري بعد انتهاء الاجتماعات المفتوحة، جمع حصيلة النقاشات، وصياغتها في «إرشاد رسولي» يعلن عنه البابا، وهو يتضمن إلى جانب الديباجة الرؤيوية، التدابير التي اتخذها الفاتيكان لدعم الوجود الكاثوليكي والمسيحي العام أو المشرق والشرق الأوسط. ومن أجل إثارة اهتمام إعلامي ممتد بقدر الإمكان؛ فإن مواد التقرير الختامي وخلاصاته، الذي سيتحول إلى «إرشاد رسولي» تعلن بالتدريج عبر وسائل الإعلام العالمية، وعلى مدى أسابيع. والتقرير الختامي - كما صار مفهوما - تقع ديباجته في خمس فقرات، تتضمن كل فقرة تحليلا لناحية من نواحي الموقف الذي يجد المسيحيون (الكاثوليك) أنفسهم فيه في الشرق الأوسط المعاصر. ومضيا مع الخطة الإعلامية السالفة الذكر توخيا للتأثير، فقد أعلن يوم السبت 23/10 عن خلاصات الفقرة الأولى من أجزاء التقرير، وهي تتعلق بالنزاع الشرق أوسطي أو النزاع العربي - الإسرائيلي، وهي فقرة شديدة الطرافة والدلالة، وتستحق تحليلا واستنتاجات.

أعلن عن الفقرة الأولى تلك المطران سليم بسترس، وهو من أصل لبناني، وكان مطرانا للكاثوليك ببيروت، وهو الآن راع للكاثوليك المشارقة في ناحية بالولايات المتحدة. ولا أدري لماذا كان هو المتحدث، وليس أحد الكاثوليك الفلسطينيين، لكن ربما كان ذلك لأنه رئيس اللجنة المختصة بكتابة هذه الفقرة في التقرير والإرشاد، أو لأنهم يريدون إعطاء المسيحية اللبنانية موقعا خاصا ومميزا في هذا الأمر بالذات، لأنها هي الجماعة المسيحية الوحيدة بالمشرق العربي، التي لا يزال لها دور سياسي بارز ينبغي دعمه والدفاع عنه. وتنقسم الفقرة أو الخلاصة إلى ثلاثة أقسام واضحة؛ الأول ديني، ويتعلق بالجدال مع اليهود بشأن الوعد الإلهي وأرض الميعاد، والثاني قومي ومدني، ويتعلق بنقطتين: إزالة الاحتلال الإسرائيلي استنادا للقرارات الدولية، والإشكاليات المتصلة بيهودية الدولة الإسرائيلية وحقوق الفلسطينيين، والثالث يعالج مسألة الأماكن الدينية المقدسة (اليهودية والمسيحية والإسلامية) بالقدس.

في الأمر الأول، يرى التقرير أن الوعد الإلهي لليهود، الوارد بالعهد القديم، لاغ أو منسوخ منذ ظهور المسيح، إذ صار الظهور وعدا للبشرية كلها بالخلاص، والبشر جميعا يتساوون فيه باعتبارهم مخلوقات له عز وجل، وعبادا يتساوون في الحقوق والواجبات والاستخلاف ومقتضيات الإيمان بالإله الواحد. وعلى ذلك فإن تأسيس الدولة الإسرائيلية عام 1948، ما تم من جانب المجتمع الدولي إصغاء لمقتضيات الحق الإلهي المدعى، بل هو كيان قومي أو وطني لمجموعة بشرية تعرضت للاضطهاد، وارتأى المجتمع الدولي آنذاك إنصافها بهذه الطريقة. والمعروف أن تأسيس الكيان أثر سلبا على حقوق السكان الأصليين لفلسطين، وهذه هي العلة الرئيسية للنزاع المستمر منذ الأربعينات وحتى اليوم، وقد ترك ذلك تأثيرات فاجعة على الفلسطينيين مسلمين ومسيحيين، بحيث فقد ملايين منهم أرضهم ووطنهم؛ فضلا عن حالة عدم الاستقرار التي نشرها قيام الكيان والسياسات الدولية في المنطقة كلها منذ ذاك الحين. وفي السنوات الأخيرة لاحت للمرة الثالثة أو الرابعة إمكانيات لحل النزاعين: القومي أو الوطني، والديني؛ فينبغي السير فيها من أجل السلام والعدالة. أما النزاع الوطني والقومي فيزال بجلاء جنود الاحتلال عن الأراضي العربية بحسب القرارات الدولية، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة. وأما النزاع الديني فيزال أو يزول بإعطاء وضع خاص ومميز للأماكن الدينية بالقدس (يديرها أبناؤها بإشراف دولي). وهكذا فلا مجال أو أن الكاثوليك لا يوافقون على أمرين: أن تكون القدس عاصمة أبدية لإسرائيل، وأن تكون هناك هوية يهودية للدولة الإسرائيلية. ذلك أن المساحات المدنية والسكانية بالقدس الشرقية هي من حق الفلسطينيين مسيحيين ومسلمين؛ وأما هوية الدولة فلا يمكن أن تكون يهودية، لأنه ليس هناك حق ديني للإسرائيليين في فلسطين، ولأن الفلسطينيين المقيمين والمهجرين لهم حقوق المواطنة، وحق العودة، وهي تتنافى وقيام كيان ديني أو قومي حصري لليهود.

منذ عام 1994، وهو العام الذي تبادل فيه الفاتيكان الاعتراف مع الدولة الإسرائيلية، ما كان هناك موقف كاثوليكي واضح إلا في نقطتين: أن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية يجب أن يزول، وأن الأماكن الدينية بالقدس ينبغي أن تخضع لإشراف دولي. وفي ظل التجاذبات التي أثيرت في عهد البابا الحالي مع اليهود (بسبب ما قيل عن ماضيه في شبيبة هتلر، وإعادته لأساقفة ينكرون المحرقة)، لن يكون سهلا على اليهود المحافظين السكوت على هذا البيان، الذي سيتخذ بعد قليل طابعا قدسيا عندما يتحول إلى «إرشاد رسولي» كما سبق القول. ويستطيع الصهاينة إضافة للحملة السياسية على الفاتيكان، أن يستصرحوا كنائس بروتستانتية صهيونية تقول - استنادا لاستمرار سريان نصوص العهد القديم - بالوعد الإلهي بالأرض المقدسة لليهود. ولأن البابا بعد اصطداماته بين عامي 2005 و2008 بشتى الجهات الدينية والسياسية، صار شديد الحذر؛ فلا شك أن هذا الموقف الذي وافق عليه رغم حذره، إنما جاء بضغوط بين الأساقفة الكاثوليك العرب والمتعربين، الذي يجدون أنفسهم في موقف صعب أو محاصرين من شتى الجوانب: إسرائيل والأنظمة السياسية، والتشدد الإسلامي، والهجرة الكبيرة في صفوفهم بسبب الافتقار إلى فرص العمل، وتراجع الأدوار الاقتصادية والسياسية والثقافية. وهكذا فقد ضغطوا - كما قال لي بعضهم - باتجاه عقد سينودس لبحث هذه المشكلات، والنظر في كيفية العلاج؛ خاصة بعد أحداث الاضطهاد والقتل والتهجير ضد المسيحيين (المنضمين للكنيسة الكاثوليكية) بالعراق بعد عام 2005، والتهدد باختفاء المسيحيين من القدس بالذات خلال عقدين أو ثلاثة. وما استجاب البابا لتلك النداءات الملحاحة إلا في مطلع عام 2010، حيث تشكلت مجموعة صغيرة لكتابة التقارير التحضيرية في شتى نواحي المشكلة. ولكن لأن الوقت قصير، إذ إن البابا حدد شهر أكتوبر (تشرين الأول) عام 2010 لانعقاد السينودس، ما أمكن التشاور كما يجب مع المسيحيين الآخرين خاصة الأقباط والأرثوذكس، وهم الأكثر عددا، والأكثر تعرضا للتوتر والأخطار. وتردد المحضرون أيضا في الاتصال بالمسلمين حتى اللحظة الأخيرة. فوقعت المسؤولية شبه الكاملة في إعداد التقارير على كاهل الكاثوليك اللبنانيين والفلسطينيين، لأنهم الأكثر قدرة وخبرة، والأقل تعرضا للضغوط من المسيحيين الآخرين في سورية والعراق ومصر. ومن جهة أخرى احتاج الأمر إلى تحد للذات بعض الشيء. إذ إنه إذا كنت ستعبر عن موقف ضاغط على السلطات والإسلاميين فيما يتعلق بحرية العبادة والعقيدة، وطبيعة الدولة، وحرية الحراك الاقتصادي والسياسي؛ فينبغي أن تكون لديك اهتمامات بهموم العرب الآخرين من المسلمين في الاحتلال الإسرائيلي، والسياسات الأميركية، والإسلاموفوبيا (= موجة العداء للإسلام) المشتعلة بالغرب. وهذه في تقديري هي العوامل التي أحاطت بانعقاد السينودس، وتحيط بالوثيقة التي سوف تصدر عنه، التي استعرضنا خلاصات القسم الأول منها.

يسعى الفاتيكان إذن عبر السينودس إلى بلورة سياسات تجاه المجريات بالشرق الأوسط، خاصة ما تعلق منها بشكل مباشر أو غير مباشر بالمسيحيين. وهو يطلب من المسلمين وسلطاتهم «الشراكة» استنادا إلى الرؤية التي يقدمها في بيانه أو وثيقته. والذي أراه أنه مضى خطوة واسعة باتجاههم، ولا بد من إجابة أو إجابات.