الإفتاء بين التنظيم والتحرير

الصحبي بن مسعود

TT

إثر ما قرأته من جدل ومناقشات ساخنة في الدورة الثالثة عشرة لمجمع البحوث الإسلامية في الأزهر، وما حصل من خلافات فقهية حول نقل الأعضاء من المحكوم عليهم بالإعدام في قضايا القتل العمد بعد تنفيذ الحكم وإمكانية نقلها منهم لينتفع بها مرضى آخرون، ولكن من دون إذنهم أو إذن وليهم، أو ما تعلق بتعريف الموت بتوقف القلب أم بموت الدماغ، أو الفتوى المتعلقة بفك شفرات القنوات الفضائية، وإرضاع المرأة للكبير لتجويز الخلوة المحرمة، وغيرها كثير.. أردت تناول أمر الفتوى وما آل إليه وضع الإفتاء بصفة عامة، فقد بدأت الفتوى تثير الجدل بين الفقهاء والناس عامة، وقد برز كثير من الفتاوى الغريبة وكثر الاختلاف بين أنظار الفقهاء وتراوحت الفتاوى أحيانا بين الخروج عن الاختصاص والافتقار إلى المعرفة، وبين التوظيف والتلاعب، ما يدفع إلى الحيرة لدى المتدينين التائقين إلى إفتاء يصدر عن علم والتزام أخلاقي وفهم لقضايا الواقع فيطمئن القلب والعقل ولا يوهن من الإسلام أمام القوانين العالمية بموقف لا يستند إلى النصوص القطعية والثوابت العقلية ولا يثير السخرية والتهكم لدى الحاقدين على كل ما يمت للدين بصلة فيحدث التباس بين شريعة الإسلام والآراء والتقاليد الخاصة بزمن معين أو بيئة أخرى.

يقول الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي: «لا يمكن أن تظل الاجتهادات القديمة تتحكم فينا، ولا بد أن ننظر في الأمر نظرة واقعية لتحقيق مقاصد الشريعة». فكثيرا ما يقع البعض في تحريف النصوص عن مواضعها أو جهل بمعانيها ومقاصدها أو اختطاف لحكم من حديث عابر والإعراض عن نصوص وآثار أخرى من دون علم بالعلل القادحة في صحة الأحاديث، ومن دون علم بمقاماتها ومناسبات ورودها، ما يوقع في أغلاط فقهية كثيرة وفي حمل أدلة من السنة على غير وجهها ومن دون معرفة بأساليب اللغة العربية وألفاظها الخاصة وأساليب معانيها «وما فطرت عليه العرب من لسانها تخاطب بالعام يراد به ظاهره وبالعام يراد به العام في وجه والخاص في وجه وبالعام يراد به الخاص، والظاهر يراد به غير الظاهر، وكل ذلك يعرف من أول الكلام أو وسطه أو آخره وتتكلم بالكلام ينبئ أوله عن آخره وتتكلم بالشيء يعرف بالمعنى كما يعرف بالإشارة وتسمي الشيء الواحد بأسماء كثيرة والأشياء الكثيرة باسم واحد، وكل هذا معروف عندها لا يرتاب في شيء منه» (الشاطبي).. كما يفعل كثير من الشباب السلفي اليوم من دون رجوع للمذاهب الفقهية ومن دون اعتماد للفقهاء عامة. وقد أشار الإمام القرافي في كتابه «أنواء البروق في الفروق» إلى أهمية التمييز بين الصفات التي عنها صدر قول أو فعل عن النبي (صلى الله عليه وسلم) وأكملها الإمام محمد الطاهر بن عاشور في كتابه «مقاصد الشريعة الإسلامية» فأزال كثيرا من الحيرة وسوء الفهم. يقول الدكتور عبد الله دراز: «فالاختلاف منشؤه أحد أمرين: ضعف في اللغة العربية واستعمالاتها، أو جهل بمقاصد الشريعة، أو هما معا».

والفتوى بما أنها إخبار بحكم الشرع في كل المسائل الاجتهادية التي يكون للفقهاء النظر فيها في إطار الأدلة الشرعية، تتميز بمنهجيتها في تحليل الوقائع والمشكلات من الزاويتين: الزاوية الواقعية، من حيث التعريف بالواقعة الحادثة في عصر ما، تعريفا سليما يستند إلى فهم حقيقي، والزاوية المنهجية، من حيث الاستدلال وتقرير الحكم الشرعي وتنزيله في الواقع ومراعاة تغير الزمان والمكان وعدم مخالفة النصوص القطعية من حيث الثبوت والدلالة.

إن الإفتاء لم يكن مؤسسة مهيكلة في تاريخ الإسلام السني، بل كان عملا حرا ولا يشترط فيه غير العلم والعدالة (الالتزام الأخلاقي) فلا وجود لرجال الدين «فالإسلام لا يعرف نظاما من الكهنوت ولا يملك سدنة من رجال الدين.. فهذا مصطلح غريب عن روح الإسلام» (والتعبير للشيخ محمد عبده) بل علماء وفقهاء برزوا بعلمهم وأخلاقهم واستقلالية رأيهم، إلا أن مؤسسة الإفتاء بعد تقنينها أصبحت ملحقة بالسلطة السياسية واختزل دورها في بعض البلدان العربية في الإعلان عن دخول شهر رمضان أو شوال أو ذي الحجة، وانتهى تنظيمها إلى تهميش المؤسسة الإفتائية ولم يعد لها الحرية في التعبير، وأصبحت تضم «علماء» كثيرا ما يزج بهم في معارك سياسية أو يتم دفعهم إلى ساحات خاطئة. إن مؤسسة الإفتاء اليوم ليس لها استقلال اقتصادي، ما يجعل أصحابها في كثير من الأحيان - شأنهم شأن كل الأطر المسجدية - أسرى لقمة العيش أو ما تمن به عليهم السلطة من دون حفظ كرامتهم أحيانا.

إن حرية الإفتاء تعني حق تأويل النصوص الشرعية وحرية الاختلاف في الفهم والتنزيل. والتاريخ الإسلامي يشهد بتعدد الأفهام للخطاب منذ أن قال عليه الصلاة والسلام بعد غزوة الخندق: «لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة» (الجامع الصحيح 3/119)، فمنهم من صلاها لوقتها في الطريق، ومنهم من صلاها قضاء بعد دخول حي بني قريظة. وتواصل الاختلاف بين الصحابة في مسائل كثيرة حتى قال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه): «ثلاث لأن يكون رسول الله بينهن أحب إلي من الدنيا: الكلالة والربا والخلافة». أليست هذه المسائل رموزا لقضايا المسلمين الكبرى اليوم: الميراث والربا (وقد تشعبت أشكاله اليوم) والسلطة السياسية في الإسلام؟ وقد شغلت هذه القضايا عقل ذلك المحدث الملهم وما زال المسلمون اليوم في حيرة واختلاف في هذه القضايا.

إن تأهيل الفكر الإسلامي للإجابة عن قضايا المسلمين، وإقامة واقعهم على هدي من الشريعة الإسلامية، يتطلبان إيجاد منهج أصولي وإفتائي يملك من السعة والمرونة والقدرة على مجابهة التحديات المعاصرة والوفاء بحاجات النهضة. وإن من لوازم التجديد في مختلف حلقات الثقافة الإسلامية أن يأخذ الاجتهاد والإفتاء وجهات جديدة تفي بحاجات الواقع وتستوعب التطور الحاصل في الحياة المعاصرة. وهذا الاجتهاد لا يحصل إلا بالاعتماد على وسائل أقدر على فهم حقائق الكون وقوانين الاجتماع البشري والنفس الإنسانية وتوظيفها في فهم النصوص في إطار تحقيق المقاصد والغايات الشرعية وإيجاد صور وأشكال لتحقيق القيم والأحكام الإسلامية. وقد يحتاج هذا الأمر إلى هيئة علمية تضم كبار العلماء حتى تحترم الفتوى ولا تبتذل ويكون لها مصداقية واحترام في النفوس والعقول. وإن وجود هذه الهيئة لا يتناقض مع مدنية الدولة والتعاقد على أساس المواطنة على الأرضية الثقافية للمجتمع.

ولقد نشأت قطاعات كبيرة من حياة المسلمين من خارج دائرة الوعي الإسلامي بعد أن شهد الفكر الإسلامي انحسارا وجمودا قابلهما تفوق أوروبي امتد بتأثيره داخل الأمة الإسلامية فأحدث اضطرابا واختلالا في منهج تعاملها مع الوحي، فشهد الفكر الإسلامي فراغات كبيرة، خاصة في الشؤون المتعلقة بإدارة الحكم والسلطة السياسية عامة، والثروة والملكية والمرأة وحقوق الإنسان، إضافة إلى ما ورثناه من تراثنا من تضخم لمسائل العبادات والأحوال الشخصية من زواج وطلاق ورضاع وطهارة، على الرغم مما اشتملت عليه من الضبط والتحديد التشريعي.. فهذا التضخم يشهد على الانحطاط والانحراف اللذين مسا الحياة السياسية والاجتماعية للمسلمين. إن هذا الإهمال أثر على أدوات الاستنباط وقواعد الاجتهاد والإفتاء والانقطاع التي حصلت لاجتهادات عمر (رضي الله عنه)، كما أن لإبعاد الفقهاء والعلماء عن مواقع القرار والسلطة والإشراف دورا في تعطيل بعض أبعاد الإسلام ومقاصده.

* كاتب وباحث من تونس