المسيحيون العرب في الحضارة العربية والإسلامية

إميل أمين

TT

طرحت الأحداث الأليمة التي ألمت بمسيحيي العراق في الأسابيع الأخيرة الماضية، عطفا على التهديدات بمصائر مشابهة لأقباط مصر، تساؤلات زادت من حدة تضاعيف الآلام المتلاطمة للمسيحيين العرب، الأمر الذي دعا أصوات كثيرة عاقلة ومحبة، إسلامية قبل المسيحية، للدفاع عن هذا الفصيل من نسيج الأمة، ومعينا أسهم بدور في صنع الحضارة العربية والإسلامية. ولعل السؤال من أين وإلى أين يمضي المسيحيون العرب، وهل بات «مستقبل المسيحيين في الدول ذات الغالبية المسلمة بيد القدر»، كما صرح مؤخرا رئيس المجلس البابوي لراعوية المهاجرين في الفاتيكان المونسنيور أنطونيو ماريا فيليو؟

يضيق المسطح المتاح للكتابة عن السعي لتأصيل الحضور العربي المسيحي في العالم العربي حتى قبل أن يأخذ شكله الحالي وعبر مصادر تاريخية متباينة نجد أن حضورا مسيحيا عربيا قد وجد على سبيل المثال في بلاد الشام في دمشق وتدمر وحمص وحماة وحلب والوادي حتى نهر الفرات بين السكان العرب النبطيين وقبائل بادية الشام وأغلبهم تحدروا من اليمن ومنهم قضاعة وسليم وغسان وطي وبهراء وتنوخ ولخم وكندة وإياد وتغلب.

كما وجدوا في الكثير من الأقطار العربية من بادية الشام إلى الغور والسلط والكرك، مرورا باليمن في الجنوب الشرقي من جزيرة العرب وصولا إلى كافة دول الخليج العربي وقتها، ثم العراق ومصر والخمس مدن الغربية على ساحل البحر المتوسط. وعلى الباحث المدقق والمحقق الرجوع في هذا الشأن إلى كتابات اثنين من أساطين الفكر العربي الحديث الأول هو العلامة اللبناني الأب لويس شيخو اليسوعي والثاني هو الأب الدكتور جورج شحاتة قنواتي ومؤلفه الأشهر عن الحضور المسيحي العربي عبر التاريخ.

هو إذن حضور أصيل متجذر في التربة العربية وليس أدل على حديثنا هذا من الإشارة إلى ثلاثة من فحول الشعر العربي لا مجال للشك في نصرانيتهم: الأول قس بن ساعدة الإيادي أسقف نجران وأخطب خطباء العرب قبل الإسلام وأكبر شعرائهم والثاني عدي بن زيد وزير النعمان ملك المناذرة الأخير في العراق وزوج ابنته هند والثالث هو عثمان بن الحويرث بن أسد من قريش. غير أن الدور الأكبر الذي برز فيه العرب المسيحيون في تلك المرحلة التاريخية إنما جاء يتعلق باللغة العربية والخط العربي.. ماذا عن ذلك؟

في كتابه القيم «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام» يحدثنا الكاتب والباحث الدكتور جواد علي عن كيف أن المسيحيين العرب قاموا بدور بارز في تطوير الخط العربي، كما أنه لم يستبعد احتمال عثور المنقبين في المستقبل على كتابات مطمورة بالقلم النبطي في رمال الجزيرة العربية ويذهب الراهب الدومينكي الذي حقق عبر عشرين عاما في حياة ابن رشد الأب جورج قنواتي إلى أن مسيحيي الحيرة هم أول العرب الذين استخدموا الخط العربي وأدخلوا على العربية تراكيب وألفاظا جديدة، فقد أدخل المسيحيون على اللغة العربية ألفاظا وتراكيب لم يكن يعرفها العرب وقتها فكان أول من قال في كلامه «أما بعد» هو قس بن ساعدة، كما أنه كان أول من قال «البينة على من ادعى واليمين على من أنكر» بجانب أنه أول من كتب «من فلان إلى فلان»، أما أول من أشاع افتتاحية المراسلات والمكاتبات بعبارة «باسمك اللهم» فهو أمية بن أبي الصلت. ويرى جمهور الباحثين أن القلم العربي قد أخذ من قلم بني إرم وذلك لأن السريان «مسيحيي العراق وسورية وما نحوهما»، الذين هم من بني إرم كانوا قد طوروا القلم الإرمي وكتبوا بقلمين، قلم قديم كتبت به الأناجيل والكتب المقدسة وهو القلم المربع ذو الحروف المستقيمة ذات الزوايا المربعة، وقلم ثان سهل ذو حروف مستديرة أي على شكل أقواس وهو قلم النسخ.

ومع ظهور الدعوة وقيام الدولة الإسلامية في شبه الجزيرة العربية ثم الفتوحات التي جرت لاحقا كان ولا بد أن يبحث المسيحيون العرب عن حاضرهم بعد أن باتت الغلبة الفكرية والعددية في غير صالحهم، غير أن واقع الحال يخبرنا بأن فلسفة إنسانية عميقة قد بسطت أجنحتها على هؤلاء أينما وجدوا وحيثما حلوا.

في هذا الصدد، يكتب الباحث اللبناني الشهير الدكتور إدمون رباط في محاضرة له في بيروت عام 1981 يقول: «من الممكن ودون مبالغة القول إن الفكرة التي أدت إلى إنتاج هذه السياسة الإنسانية الليبرالية إذا جاز استعمال هذا الاصطلاح العصري إنما كانت ابتكارا عبقريا، وذلك لأنه للمرة الأولى في التاريخ انطلقت دولة هي دينية في مبدئها ودينية في سبب وجودها ودينية في هدفها ألا وهو نشر الإسلام إلى الإقرار في الوقت ذاته بأن من حق الشعوب الخاضعة لسلطانهم أن تحافظ على معتقداتها وتقاليدها وتراث حياتها، وذلك في زمن كان يقضي المبدأ السائد فيه بإكراه الرعايا على اعتناق دين ملوكهم».

ولا شك في أن المسيحيين المخضرمين الذين عاصروا الفتح الإسلامي هم أكثر من لمس الأمر بوضوح إذا انتقلوا فجأة من سلطان دولة كانت تضطهدهم اضطهادا وصفه بعض المؤرخين العصريين في أوروبا بأنه لا يشبه حتى بأعمال البهائم «وهي الدولة البيزنطية» إلى سلطان دولة حافظت لهم على أديرتهم وبيعهم بعد طول تعرضها للهدم والحرق والمصادرة، كما خيرتهم بين اعتناق الإسلام والبقاء على دينهم بشرط الدخول في ذمة المسلمين، أي بشرط الانضمام إلى دولة الإسلام ورفض المقاتلة مع أعدائها.

ومن ضمن المرويات التاريخية نقرأ كيف أن إكليروس «رجال دين» الكنيسة المصرية القبطية كله أو جله كان متخفيا في الصحارى هربا من المذابح البيزنطية، فلما جاء الفتح العربي عادت الكنيسة المصرية إلى حريتها الكاملة علنا، بل إن عمرو بن العاص عندما فتح الإسكندرية للمرة الثانية وزع من بيت المال على الأقباط أموالا طائلة لتعويضهم من العقوبات التي أنزلتها بهم الحكومة البيزنطية لمعاونتهم العرب في فتح مصر والعهدة هنا على الراوي «الفريد بتلر» في كتابه فتح العرب لمصر.

هل كانت العلاقات الإسلامية - المسيحية طوال تاريخها سخاء رخاء صفاء زلالا؟

يجافي الحقيقة العلمية والموضوعية من يقول بذلك، لا سيما أن الكنائس المحلية العربية كانت تعاني التوتر خلال القرون الأولى، لأن آخرين كبيرين كانا يتجاذبانها، وهما البيزنطي والفارسي، وأتى القرن السابع جالبا معه ممثلا ثالثا أمسى منذئذ الآخر الوحيد وهو العربي المسلم هذا الآخر انتهى أمر تعرفه إلى المجموعات المسيحية من خلال أوصاف ثلاثة: فمن الناحية الدينية النصارى هم أهل كتاب، ولكنهم مؤمنون مشكوك بهم ومنحرفون عن الصراط المستقيم وفي صعيد القانون إنهم ذميون وتحت الحماية يرحب بهم كضيوف، لكنهم يوضعون في هامش الحياة وأخيرا سياسيا إنهم ينقسمون إلى ملل محايدة، لكنها تثير المخاوف لأنها قد تتحالف مع الغريب وتتواصل أمواج السراب.. والسؤال الأهم هل يا ترى يعرف أحد بالمسيحيين من أجل كونهم مسيحيين؟

يرى العلامة الفرنسي الأصل الأب جان كوربون أن ها هنا وجها آخر للغيرية ليس أكثر موضوعية مما رأينا للكنائس تعترف بالجماعة الإسلامية أنها مؤمنة بالله الحي الأحد، لكن وصفها اللاهوتي وصلتها بجماعة المؤمنين المسيحيين بقى قضية مطروحة دون جواب.

وفي كل الأحوال فإن هذا الجدل العقائدي تارة والأيديولوجي تارات أخرى لم يدم طويلا، ومع إرهاصات النهضة العربية والتفكير المشترك في الخلاص من ربقة الاحتلال العثماني كان المسيحيون العرب في أوائل الصفوف الداعية للتحرر الفكري والجغرافي، وقد كان اتصال قسم بالغ منهم وبخاصة الشوام العرب بالغرب وفرنسا تحديدا عاملا مهما للغاية، حيث سادت هناك الأفكار القومية والتحررية.

وفي هذا السياق ظهر الأدباء والشعراء في البلاد والمهجر على حد سواء من أمثال جبران خليل جبران، وإيليا أبي ماضي، وميخائيل نعيمة، أما الدعوة للقومية العربية بمنظورها الحضاري وليس العنصري، والدعوة للإصلاح السياسي والاجتماعي والتوجه الليبرالي فقد حمل لواءها الأدباء إسحاق وسليم سركيس وشبلي شميل ونجيب عازوري وغيرهم.

وإذا كانت المطبعة هي أم الكتاب وحاملة شعلة التنوير الأولى فربما يجدر بنا أن نذكر بأن أول مطبعة باللغة العربية تدخل العالم العربي كانت في بدايات النصف الثاني من القرن التاسع عشر على يد الآباء الدومينكيين الفرنسيين في الموصل بالعراق، وكانت بذلك عاملا مهما ممن عوامل إحياء اللغة العربية.

والمطبعة والكتاب يستتبعهما ولا شك نهضة فكرية رائدة سار في مقدمتها مفكرون بارزون من المسيحيين العرب من عينة قسطنطين زريق، وسلامة موسى وفرح أنطون، ونقولا زيادة وإدوارد سعيد وأنيس الصايغ وتطول القائمة وتتعدد الأسماء.

وفي مجال العلوم الاجتماعية والاقتصادية والفلسفية لا بد من الإشارة إلى ثلاثة من كبار المثقفين المصريين من هذا الفصيل وهم لويس عوض، وأنور عبد الملك، وسمير أمين.

وقد أنجبت مصر الأمين العام الوحيد العربي في تاريخ الأمم المتحدة الدكتور بطرس بطرس غالي، رجل موقعة قانا، الذي كلفه موقفه من إسرائيل ومجزرتها في قانا عدم التجديد له لولاية ثانية على غير العرف المتبع. وفي عالم السياسة يذكر المرء عائلات بأكملها مثل عائلة مكرم عبيد في مصر، آل الجميل في لبنان ومن قبلهم آل الخوري.

وذكر هؤلاء في واقع الأمر ليس من قبيل التقابل أو التمايز، إنما لتبيان مدى تلاحمهم مع أوطانهم في كافة مناحي الحياة، هذا الدور الريادي المبكر لحركة النهوض العربي لدى العرب المسيحيين يسمح لنا بالقول دون مغالاة إنه إذا كان العرب المسلمون قد قادوا الثورة العربية والنهضة العربية عسكريا، فإن العرب المسيحيين كانوا رواد هذه النهضة فكريا وثقافيا.. هل يصب في صالح الحضور العربي والإسلامي على صعيد التفاعل الحضاري العالمي اختفاء المسيحيين العرب في هذا التوقيت الذي تتلاعب فيه بالعقول أساطير صراع الحضارات ونهايات التاريخ؟ وإذا كان الجواب بالنفي فما الذي يمكن أن يسارع الجميع إليه حتى لا يضحوا خلال عقود قليلة أثرا بعد عين؟

* كاتب مصري