عبد العزيز الدوري ودراسات التاريخ الإسلامي

رضوان السيد

TT

بوفاة الدكتور عبد العزيز الدوري، المؤرخ العراقي، والمقيم بعمان منذ مطلع السبعينات أستاذا بقسم التاريخ بالجامعة الأردنية، ينتهي الجيل الثالث، من أجيال المؤرخين العرب أو يكاد، وهو الجيل الذي كان هو وزميله الدكتور صالح أحمد العلي (المتوفى عام 2003 ببغداد) أبرز شخصياته.

حصل الأستاذ الدوري على الدكتوراه من جامعة لندن أواخر الأربعينات من القرن الماضي، حيث تتلمذ على برنارد لويس وهاملتون غب، ثم عاد للتدريس بجامعة بغداد، وعرفت عنه في دراساته المبكرة اهتماماته بالتاريخ الاقتصادي للأعصر العباسية. وبالإضافة لذلك نشر الدوري كتابا مدرسيا في النظم الإسلامية. وفي مطلع الستينات تولى عمادة كلية الآداب بجامعة بغداد، ثم صار رئيسا للجامعة. ولأنه كان قوميا غير بعثي، واعتبر قريبا من نظام العارفيين قبل عام 1968، فقد جرى التضييق عليه، فغادر العراق إلى الجامعة الأميركية ببيروت، ثم انتهى به المطاف في عمان، التي قضى في جامعتها قرابة الأربعة عقود، تتلمذ عليه خلالها عشرات الطلاب الذين صاروا أساتذة في سائر الجامعات العربية. ولذا فإن الدوري أسهم في تنشئة جيلين من الدارسين للتاريخ الإسلامي: الجيل الذي درس على يديه ببغداد، والجيل الآخر الذي تعلم عنده بعمان.

انصب عمل الأستاذ الدوري في التاريخ الإسلامي على ثلاثة مجالات: حقبة صدر الإسلام والعصر الأموي، وحقبة الثورة والدولة العباسية. والمجال الثالث التاريخ الاقتصادي والإسلامي منذ صدر الإسلام أيضا، وحتى العصور العباسية المتأخرة. ومن حسن الحظ أن مركز دراسات الوحدة العربية عمد في السنوات الأخيرة إلى إصدار مقالات الدوري في ثلاثة مجلدات، كما أصدر كتبه في سلسلة من بضعة عشر جزءا، صارت متوافرة في الأسواق. وبالإضافة إلى عمله في المجالات المذكورة، خاض محاولات في كتابة التاريخ العربي أو إعادة كتابة التاريخ العربي من منظور قومي. كما أنه ظل يتفاعل ويناقش التيارات الجديدة في كتابة التاريخ الإسلامي في الغربين الأميركي والأوروبي. وقد ترجم عدد من كتبه؛ وبخاصة في التاريخ الاقتصادي العربي إلى الإنجليزية والألمانية. وترجم مركز دراسات الوحدة كتابه عن تكون الأمة العربية إلى الإنجليزية أيضا.

اهتم الأستاذ الدوري بالتكوينين السياسي والاقتصادي للأمة والدولة في صدر الإسلام، والعصر الأموي. ويعود إليه الفضل في التفرقة التي صارت واضحة بين الجزية والخراج، وأن الدولة إنما اعتمدت في اقتصادياتها على خراج الأرض، ثم على عشور التجارة. وقد اكتشف الدوري أن نظام الخراج استقر منذ أواسط العهد الأموي (خلافة عمر بن عبد العزيز)، وهو الذي لا تفرقة فيه بين المسلم وغير المسلم؛ بل هو ضريبة على الأرض التي ظل فلاحوها بالعراق والشام ومصر مستقرين فيها، ثم بدأ الفاتحون العرب يتملكون خارج الجزيرة ويؤدون النسبة نفسها من الضريبة. وقد وجه الأستاذ الدوري عددا من تلامذته للعمل على تكون النظام الاقتصادي الإسلامي، منهم الدكتور فالح حسين، الذي كتب أطروحة عن ذلك بالألمانية، بعد عمل جيد عن الحياة الزراعية في بلاد الشام. كما أنه أصدر مؤخرا كتابا توثيقيا عن نشأة الإدارة والدولة في صدر الإسلام ومطالع العصر الأموي. ويحضرني في هذا المجال أيضا عمل الدكتورة غيداء خزنة كاتبي بإشراف الدوري على مسألة الخراج، وقد ترجم عملها الدقيق عن ذلك إلى الإنجليزية.

وكان الدكتور الدوري، والسيدة آن لامبتون؛ بين أوائل من تنبه إلى متغيرات التحول من النظام الخراجي إلى النظام الإقطاعي. ولا شك أنهما أفادا في ذلك من عمل كلود كاهن على مسألة الإقطاع في مجلة الحوليات الفرنسية، والتفرقة التي أوضحها بين النظامين الإقطاعيين الإسلامي والأوروبي. فالإقطاع الإسلامي يركز الأرض والثروة بيد الدولة؛ بينما يفكك الإقطاع الأوروبي الوسيط الدولة الكلاسيكية لصالح لا مركزية واسعة. وكنت قد بدأت عام 1988 بإصدار مجلة «الاجتهاد» بالاشتراك مع الأستاذ الفضل شلق بعدد عن الخراج والإقطاع والدولة، فرأيت من المناسب أن أورد نماذج عن الكتابات التي فكرت في المسألة، فما وجدت بالفعل مقالات عن مرحلة التحول تستحق الذكر إلا لهؤلاء الثلاثة: كاهن ولامبتون والدوري. وما عاد الأمر على هذا النحو الآن بالطبع، لكن الدوري يظل رائدا في مجال كتابات التاريخ الاقتصادي العربي والإسلامي.

وكما كتب الدوري في النظم الإسلامية في الخمسينات؛ فإنه كتب مقدمة في تاريخ صدر الإسلام. وقد ركز في المقدمة على مسائل العصبية والعبور إلى الدولة من طريق الأمة والدين والفتوح. لكن لأن عقله كان عقل مؤسسات، فقد اعتبر الخلافة مؤسسة منذ البداية، تكمن جدتها في تأثرها بالمفهوم القرآني للاستخلاف، والعادات والأعراف العربية. وقد اهتم الدوري في مقدمته، كما في كتابه عن التكوين التاريخي للأمة العربية بجسم الدولة إذا صح التعبير، من طريق دراسة الانتشار العربي خارج الجزيرة خلال الفتوحات وفيما بعد. وهذا الأمر هو الذي هداه لإعادة اكتشاف عروبة الثورة والدولة العباسية. وكان برنارد لويس - والحق يقال - قد وجه عددا من تلامذته لدراسة المسألة أو مراجعتها خروجا على المسلمة القائلة إن الدولة العباسية «كانت أعجمية». وكما وجه الدوري تلامذته لدراسة مسألة الخراج والتاريخ الاقتصادي؛ فقد وجه آخرين لدراسة العباسيين الأوائل بعد قيام الدولة.

وبخلاف زملائه من كبار المؤرخين؛ فإن الدوري اتجه أيضا لتحقيق النصوص القديمة. فحقق مع عبد الجبار ناجي «أخبار العباس وولده»، وهي رسالة لمجهول، تقص تاريخ الدعوة السرية العباسية. ثم انصرف في التسعينات إلى العمل - بتكليف من المعهد الألماني ببيروت - على جزأين من «أنساب الأشراف للبلاذري»، أحدهما عن الدعوة والدولة العباسية، والآخر عن خلافة عبد الملك بن مروان. وقد كان قربه من النصوص التاريخية أحد أسباب ريادته وتقدمه في إعادة التأسيس لتخصص التاريخ الإسلامي.

بيد أن الأستاذ الدوري إنما اشتهر بكتابين أساسيين: «نشأة علم التاريخ عند العرب»، في الستينات، و«التكوين التاريخي للأمة العربية» في التسعينات من القرن الماضي. والواقع أن الكتاب الأول لا يتضمن نظرية في فلسفة التاريخ العربي ومفهومه؛ بل يتضمن تحقيبا من جهة، وترتيبا تقديريا للكتابة التاريخية العربية. ومن وجهة نظره فقد كانت هناك في البداية الأنساب التي اكتست بالأخبار وأيام العرب، ثم أخبار الفتوح، فظهور طبقة الإخباريين؛ ومن جهة ثانية القصص القرآني وقصص الأنبياء فالسيرة النبوية، فكتابات التاريخ العالمي. وبقيت هناك فجوات في عمليات الانتقال من الأخبار إلى التاريخ، ومن قصص الأنبياء إلى السيرة والتاريخ العالمي. ورغم وجوه الغموض التي خالطت هذه الخطاطة؛ فإن عشرات المؤلفات بعد روزنتال والدوري عن الكتابة التاريخية العربية، ما أمكن لها أن تحل محلهما. وما كان، رحمه الله، يميل للتنظير الكثير؛ ولذا فقد كان يبتسم عندما أشرح له نظريتي في «لاهوت» التاريخ أو فلسفته عند العرب والمسلمين؛ وهي تقوم على أن الانتقال من الأخبار إلى التاريخ العالمي أو الرؤية الشاملة للعالم من جانب الطبري والدينوري واليعقوبي والمسعودي، إنما يعود أو تعود إلى الطابع المهدوي أو الرؤية الجديدة للعالم التي نشرها القرآن من خلال آيات الوعد والإظهار والغلبة والتمكين والاستخلاف. وقد تحقق ذلك من خلال تقسيم السيرة النبوية إلى مبتدأ ومبعث ومغازٍ. والمبتدأ يبدأ بآدم وقصص الأنبياء والملوك، بحيث يلتقي خطا النبوة والملك في محمد، صلوات الله وسلامه عليه، وفي أمته. وكما سبق القول؛ فإن كتاب «نشأة التاريخ» للأستاذ الدوري ما حل محله غيره منذ قرابة الخمسة عقود.

أما الكتاب الآخر: «التكوين التاريخي للأمة العربية»، فينطوي على سردية بدأها الأستاذ الدوري في مطلع الستينات برسائله في القومية والشعوبية وجغرافية الانتشار العربي. وما اهتم الأستاذ بالتنظير لمفهوم الأمة، لكنه اهتم بالتعرب والتعريب، وردود العروبيين على الشعوبيين، وكيف تحولت العروبة في هذا السياق إلى ثقافة تاريخية تحتضن الإسلام ولا تحتكره أو يحتكرها. وما عني كثيرا بالمراحل المتأخرة وبالعصر العثماني؛ بل أكد على أهمية الدخول الأوروبي القومي في الوعي والواقع منذ مطلع القرن التاسع عشر. وفي هذا السياق يلعب التقابل التركي - العربي دورا في إنضاج الفكرة القومية، ثم يبلغ الأمر مرحلة النظرية مع قيام الدولة الوطنية (القُطرية)، وظهور مشاريع التحرير والوحدة.

وهناك ناحية رابعة أو خامسة في فكر الدوري وعمله لا يجوز إنكارها. فقد ظل الأستاذ الدوري الكبير (وزميله ببغداد صالح العلي) على تواصل وثيق بالباحثين والجامعيين من المستشرقين والمعنيين بدراسات الإسلام والعروبة والشرق الأوسط. لقد تحررا من دراسات المستشرقين ومناهجهم، لكنهما لم يقطعا مع الكشوفات والجديد من الأفكار والمناهج. ولطالما قصدهما دارسون أوروبيون وأميركيون ليفيدوا من هذا المجال الشاسع، وهذا التخصص الرحب الذي أراداه وطوراه.

عندما توفي أستاذنا صالح العلي ببغداد كان الغزاة الأميركيون يدخلونها مدمرين. وها هو الدوري يموت خارج العراق، في ملاذ العرب بالأردن. وعندما حصل الدوري على جائزة الملك فيصل للدراسات الإسلامية قيل عنه إنه رائد دراسات التاريخ الاقتصادي، وتخصص التاريخ الإسلامي الحديث. فرحم الله عبد العزيز الدوري، الأكاديمي الكبير، ومؤرخ الأمة العربية، في زمن المتشبث فيه بمقولتها كالقابض على الجمر!