«الكنز الشرقي» يفتح من جديد في سراييفو

أحاديث نبوية وأبيات شعرية عربية وحكم شرقية

TT

في عام 1896 صدر في سراييفو كتاب «الكنز الشرقي» للمفكر والباحث والمترجم البوسني محمد بك قبطانوفيتش ليوبوشاك (1839 - 1902)، ليشكل علامة فارقة في ذلك الوقت بالنسبة لظروف البوسنة والمسلمين آنذاك، وها هو يصدر الآن (2010) في طبعة جديدة ومقدمة جديدة للعالم البوسني المعروف الدكتور فهيم ناميتاك، ليؤدي رسالة جديدة بين الأجيال.

فما هو «الكنز الشرقي»، وماذا تحمل الطبعة الجديدة من قيمة بعد مرور أكثر من مائة سنة على الطبعة الأولى؟

كانت قيمة الطبعة الأولى من «الكنز الشرقي» تنبع من أهمية صاحبها والرسالة التي أراد أن يوصلها من خلال هذا الكتاب. فالمؤلف محمد بك قبطانوفيتش كان من الشخصيات البوسنية المهمة في المرحلة الانتقالية للبوسنة من الحكم العثماني إلى الحكم النمساوي المجري الذي بدأ في 1878، وأراد أن يفصل البوسنة عن الشرق ليجعلها جزءا من الغرب. وقد أحدث الاحتلال النمساوي المجري للبوسنة زلزلة قوية في نفوس المسلمين ووجودهم، لأنه دفع بقسم منهم إلى عدم القبول بالواقع الجديد (الخضوع لحكم دولة غير مسلمة) والهجرة من البوسنة، مما أدى إلى تناقص سريع في عدد المسلمين في البوسنة.

وفي هذه الظروف التي تنذر بالخطر وتحول المسلمين إلى أقلية برز قبطانوفيتش ليحرك مشاعر جديدة عند المسلمين بالاستناد إلى أن البوسنة وطنهم ولا يجوز لهم أن يتركوها لغيرهم، بل عليهم أن يتكيفوا مع الوضع الجديد وأن يثبتوا أنفسهم، وهو ما ركز عليه في كتابه الرائد «بماذا يفكر المسلمون في البوسنة؟»، الذي صدر في 1886. وفي هذا الكتاب ينطلق قبطانوفيتش من أن الحكم العثماني لن يعود ثانية، وأنه على المسلمين أن يتمسكوا بوطنهم (البوسنة) وأن يعملوا على تعزيزه. وفي هذا السياق يركز قبطانوفيتش على ما هو مشترك للمسلمين مع الصرب والكروات (اللغة والثقافة الواحدة) داخل الوطن المشترك (البوسنة).

ولكي يؤكد على هذا المشترك نشر قبطانوفيتش في 1887 كتابه المهم «الكنز الشعبي» الذي ضمّنه التراث الشعبي المشترك للمسلمين والصرب والكروات. ونظرا لأن المسلمين في البوسنة كانت ثقافتهم حتى ذلك الحين ترتبط بشكل وثيق بالإسلام والشرق، فقد سعى قبطانوفيتش بكتابه الجديد «الكنز الشرقي» الذي نشره في مجلدين إلى تعريف الصرب والكروات بهذا الجانب المهم لإخوانهم في البوسنة.

والمهم هنا المجلد الأول، الذي أعيد نشره الآن، الذي يتضمن أكثر من 4500 «من الأمثال الشعبية والحكم» من الشرق، وبالتحديد مما هو معروف لدى العرب والفرس والأتراك. ويشير هذا الكتاب إلى الثقافة الشرقية لقبطانوفيتش ومعرفته باللغات الشرقية ومصادر آدابها، بالإضافة إلى معرفته بالثقافة السلافية والجرمانية. فقد كان قبطانوفيتش سليل أسرة معروفة من القباطنة، أي من القواد العسكريين الذين كانوا مسؤولين عن القلاع في البوسنة العثمانية، ودرس حسب المنهج العثماني الجديد (الابتدائية والرشدية) في مسقط رأسه وفي مدينة موستار، حيث تعلم العثمانية والعربية والفارسية، واشتغل في الإدارة العثمانية إلى أن انتخب نائبا في البرلمان العثماني 1877.

ومع ذلك لا يخفي قبطانوفيتش في مقدمته للكتاب مساعدة بعض علماء البوسنة له ممن اشتهروا في ذلك الوقت بعلمهم ومعرفتهم للغات الشرقية وآدابها، مثل القاضي والعالم باللغات الشرقية وآدابها إبراهيم ريبفاتس (توفي 1900) وقاضي سراييفو سيف الدين لوكشيتش (توفي 1895) وأستاذ اللغة العربية في مدارس سراييفو أحمد ريبيتش (توفي 1907).

وفي مقدمته للكتاب لا يخفي قبطانوفيتش أيضا الدافع الرئيسي له (الكتاب)، ألا وهو توصيل هذا «التراث الشرقي» للعالم السلافي الجنوبي (اليوغوسلافي) المسيحي المحيط بالمسلمين في البوسنة، لأنه يسجل هنا اهتمام الغرب بالتراث الشرقي وترجمته إلى اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية، في الوقت الذي لم يكن فيه للصرب والكروات أي فرصة للتعرف على هذا التراث. ومن الواضح هنا أن قبطانوفيتش كان يريد بهذا الكتاب أن يمد جسورا بين السلاف المسلمين في البوسنة ومواطنيهم الصرب والكروات.

ويلاحظ هنا أن قبطانوفيتش قد ذكر في مقدمته بعض المصادر التي اعتمد عليها في العربية («الأمثال» للميداني و«زبدة الأمثال» و«أطواق الذهب».. إلخ) والعثمانية والفارسية لكي يستخرج الحكم من خلال المواضيع حسب الترتيب الأبجدي للغة البوسنية التي أصبحت تكتب الآن بالحروف اللاتينية. وهكذا يبدأ الكتاب بالحكم حول «الأغا» ثم «العقارب»، إلى أن ينتهي بالحرف الأخير (ج) الذي يورد فيه ثلاثة حكم عن «الضحية». ولا شك أن هذا التقسيم الموضوعي للأمثال الشعبية والحكم الشرقية يقدم مادة جاذبة للقارئ، حيث يمكن أن تجذبه المواضيع الكثيرة في هذا الكتاب (الدين، الحكم، الظلم، العدل، المرأة.. إلخ).

ويلفت النظر هنا أن قبطانوفيتش كان يورد أحيانا الأمثال والحكم في اللغة العربية ويكتبها كما تلفظ بالحروف اللاتينية ثم يترجمها إلى اللغة البوسنية مع بعض المقارنات في بعض الحالات. وتبدو هنا مهارة قبطانوفيتش في الترجمة، إذ إنه يترجم أحيانا بشكل حرفي وأحيانا يقدم ترجمة حرة أكثر، بينما يشير في بعض الأحيان إلى ما يقابل ذلك في التراث الشعبي للبوسنة. ومن ناحية أخرى يمكن القول إن قبطانوفيتش كان رائدا هنا في كتابة الأمثال والحكم العربية بحروف لاتينية لكي يقرأها من لا يعرفون العربية، لأنه بهذا الشكل حفظ لنا كيف كانت تلفظ تلك الكلمات العربية في البوسنة في ذلك الوقت.

أما في ما يتعلق بما هو موجود من «الأمثال الشعبية والحكم» فنجد أن بعضها أحاديث نبوية («العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة» و«إياكم وخضراء الدمن» و«انصر أخاك ظالما أو مظلوما».. إلخ) وأبيات شعرية عربية وأمثال يذكرها من دون إشارة إلى المصدر، وأحيانا مع إشارة لها إلى مصدرها («الأمثال» للميداني). ويلاحظ هنا أن بعض الأحاديث النبوية لا ترد بالصيغة الصحيحة كما هو الأمر مع الحديث المعروف «القضاة ثلاثة: واحد في الجنة واثنان في النار»، بل ترد بالعربية في صيغة غير صحيحة «القاضي في الجنة والقاضيان في النار». ومن ناحية أخرى نجد أن قبطانوفيتش قد اجتهد في ترجمة الحديث المشهور «النساء شقائق الرجال» فجاء عنده «النساء ورود الشعب». ويبدو هذا التقصير أوضح في بعض الأمثال والحكم، كما هو الأمر مع «عز الملوك بالمماليك» إذ اختلط الأمر عليه بين «المماليك» و«الممالك» فجاءت الترجمة تقول «إن عز الملوك من عز الشعوب».

وبالعودة إلى الطبعة الجديدة لـ«التراث الشرقي»، التي صدرت بمناسبة الدورة الـ12 لمؤسسة «البابطين» في سراييفو، والتي عقدت في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) 2010، فقد تميزت بمقدمة تحليلية للعالم البوسني الدكتور فهيم ناميتاك، أعاد فيها الاعتبار لقبطانوفيتش وكتابه. وهكذا يمكن القول إنه إذا كانت الطبعة الأولى تهدف إلى إيصال «الكنز الشرقي» للصرب والكروات في البوسنة وجوارها فإن الطبعة الجديدة تنجح في هدف آخر ألا وهو إيصال هذا «الكنز الشرقي» إلى الأجيال الجديدة من البوسنيين المسلمين الذين انقطعوا عن تراث قبطانوفيتش الذي يعيد د.ناميتاك الاعتبار إليه بكونه من رواد «النهضة» في البوسنة.