العدد الـ 29 من مجلة «التسامح»: الهوية والانتماء والعلاقات بين الأديان والأمم

رضوان السيد

TT

اعتادت مجلة «التسامح» التي تصدر بعُمان أن تخصّص في كل عددٍ من أعدادها محورا يكون التركيز الرئيسي في العدد كُلِّه عليه. وهي اختارت في عددها رقم 29 موضوع الهوية والانتماء وتأثيراته على العلاقات بين الأديان والأُمم، موضوعا لمحورها هذه المرة. والمفهوم من موضوع المحور والمعالجة أنّ المقصود بالهوية المسألة الدينية، وبالانتماء المسائل الوطنية والقومية. وبين الأمرين تداخُلٌ وافتراقٌ يبدو على خير نحوٍ في الدول قياما ونظاما، لكنه يؤثّر أيضا في العلائق بين الديانات والأُمم بشكلٍ عام.

وقد أُثير الموضوع في الأساس مع قيام الدولة الوطنية القومية أو الأمة/ الدولة في أوروبا، إذ بدا لأول وهلةٍ أنّ الدول القومية لا تستقيم نظاما واستقرارا إلاّ إذا انفصلت عن الديني. وكان ذلك ناجما لدى الأوروبيين من السيطرة المطلقة التي مارستْها الكنيسة الكاثوليكيةُ باسم الدين، ثم من الحروب الطاحنة التي نشبت بين الكاثوليك والبروتستانت في القرنين السادس عشر والسابع عشر. ومع ذلك فإنّ الانفصال بين الدين والدولة في الأنظمة المدنية الأوروبية والأميركية مختلفٌ ومتفاوت. ففي حين يبدو عنيفا وعدوانيا في النظام الفرنسي الناشئ بعد ثورة عام 1789، يظهر معتدلا وهادئا في النظام البريطاني (حيث الملكة هي رئيسة الكنيسة)، وودودا في النظام الأميركي (حيث تلعب الكنائس أدوارا اجتماعيةً كثيرةً، وصارت مؤثّرةً في المسائل السياسية أيضا). أمّا في الأجواء الإسلامية فيعود النقاشُ الأولُ فيها إلى الجدال بين الشيخ محمد عبده وفرح أنطون عامي 1902 و1903. ففي ذلك الحين لخَّص فرح أنطون (اللبناني الأصل، الذي أصدر مجلاّتٍ بمصر) كتاب إرنست رينان: ابن رشد والرشدية (اللاتينية في العصور الوسطى الأوروبية)، وعلّق على ذلك بأنّ ابن رشد تسبّب في كتابه «فصل المقال» بإثارة موضوع فصل الدين عن الدولة، أو أنّ الأوروبيين المعارضين لسطوة الكنيسة استخدموا ترجماته لإثارة الموضوع. ويرى أنطون أنّ الدولة الحديثة القائمة على المواطنة تقتضي الانفصال كما فعل الأوروبيون فتقدموا علميا وسياسيا. وردَّ عليه محمد عبده بأنّ ذلك كان ضروريا في أوروبا لأنّ الكنيسة اضطهدت العلم والعلماء، وسيطرت على الشأن العامّ، ولا داعي لذلك في ديار الإسلام لأنّ الدين الإسلامي ما تعارض مع العلم، ولا ادّعى سيطرة للكهنوت على الدولة؛ بل إنه ليس في الإسلام رجال دين بالمفهوم المسيحي. وأجاب أنطون بأنّ المواطنة تقتضي المساواة بين المواطنين في كل شيء، وتطبيق الشريعة يقتضي التمييز. وازدادت النقاشاتُ حِدّةً حول المسألة في بلاد الشام ومصر عندما ظهرت الأفكار العلمانية، كما ظهرت جماعات الإسلام السياسي المعادية للتغريب، والقائلة بالدولة الإسلامية. وفي التسعينات من القرن الماضي طرح صمويل هنتنغتون في كتابه «صدام الحضارات» المسألة من وجهٍ آخر.

فقد اعتبر الدينَ محور الحضارة، واعتبر أنّ التقاليد اليهودية - المسيحية هي محور الحضارة الغربية، والإسلام محور الحضارة الإسلامية. وذهب إلى أنّ الحضارة الغربية المسيطرة ستُواجه تحدّي الإسلام الصاعد، مما يحوِّل العلاقات بين الطرفين أو الحضارتين إلى علاقاتٍ صراعيةٍ ذات خلفية دينية.

في أُولى مقالات المحور بمجلة «التسامح» كتب وجيه كوثراني في «الهوية والمواطنة والدولة»، ورأى أنّ الإشكالات البادية هي إشكالاتٌ في الوعي وليس في بنية الثقافة. فليس صحيحا أنّ المسيحية واليهودية هما أصل الحضارة الغربية التي صارت حضارة العالم، كما أنه ليس صحيحا أنّ صراعا سينشبُ حكما بين الإسلام والدولة الحديثة، إن لم يكن هناك انفصالٌ بينهما في نظام الدولة. فالأمر ينبغي أن ينصبَّ على نقد الوعي لدى الإسلاميين ولدى الأصوليين الغربيين، أو أنّ الأمر في الحقيقة إنما هو صراع بين أُصوليات، وليس صراعا بين الإسلام ونظام الدولة الحديثة أو بين الإسلام والغرب. ورأى رضوان السيد في مقالته: «الأمة والانتماء والمشروع» أن مشروع الأمة مرتبطٌ بالدين، ولذلك فهو أوسَعُ من أي دولة، فلا انحصار ولا انحشار لهذه الناحية، بل يمكن - كما هو الواقع - أن تقوم عدةُ دولٍ إسلاميةٍ، لأنّ الهوية تتحدد بالأكثرية السكانية. بيد أنّ دولة الخلافة والسلطنات اعتبرت نفسها مسؤولةً عن الدين، وشرعنت الحرب والفتح باسم المصلحتين: مصلحة الدولة ومصلحة الدين. وعلى كلّ حال، في حين انحسرت الإمبراطورية الإسلامية استمرّ الدين الإسلامي في التوسع والانتشار، ولذا فكما كان الأمر في بداية الدعوة: هناك الأمة، وهناك هذا الكيان أو ذاك الذي يُنشأُ لرعاية المصالح العامة لهذه الجماعة أو تلك من المسلمين وغيرهم، ويمكن أن تحكمه الشروط التي تحكم المواطنة في الدول الحديثة. أمّا محمد جمال باروت فقد جاءت مقالته بعنوان: «الدولة القومية.. الأمة والهويات في تحولات النظام الدولي»، ورأى أنّ النظام الدولي قائمٌ على الوحدات القومية، وهو لا يعترف بالتمايزات الأخرى. لكنّ تلك التمايُزات الإثنية والأقلوية والدينية بدأت تفرضُ نفسها عليه في العقود الأخيرة. ومع ذلك؛ فإنّ إحصائياتٍ قام بها أساتذةٌ للعلوم السياسية في الولايات المتحدة، أظهرت أنّ النزاعات ذات الطابع الإثني والقومي لا تزال الأكثر بما لا يقاس، ولذلك يشكّون في أن يكونَ القرن الحادي والعشرون هو قرن الصعود الديني. لكنْ رغم ذلك وكما سبق القول؛ فإنّ النظام الدولي عليه أن يُظهر مرونةً تجاه الظواهر الجديدة. وقرأ مهنَّد مبيضين من الجامعة الأردنية مسألة «تداوُل الأُمم» من وجهة نظر المؤرّخين المسلمين، ذاكرا الانتقال من المماليك إلى العثمانيين. أمّا محمد الحدّاد فقد عاد في مقالته: «الأمة والدولة في الفكر الإسلامي» لقراءة المسائل في المجال الإسلامي الحديث. وقد ذكر أسبابا للثوران الإسلامي على التماهي بين الأمة والدولة بالمعنى القومي، وتابع أنّ هذه المسألة مسألة وعي، وينبغي التصدّي لها بالنقد باعتبارها كذلك، والتجربة الإسلامية الوسيطة أكثر رحابةً وهدوءًا وأقلّ انحشارا. وركّز محمد الشيخ في «مفكرو الأنوار ونشأة الأمم» على التناقُض الذي ظهر بين الفريقين: التنويري والقومي في أوروبا. فالأنواريون عالميون وعقلانيون ولا يريدون الخصوصية، بينما يركّز الآخرون عليها بل لا يرون غيرها. وفي نفس المنحى، لكنْ في السياق العربي، انطلق عبد الإله بلقزيز لنقد الخطاب القومي لدى ساطع الحصري، من حيث إهماله للجانب الديني في تكون الأمة، ومن حيث ربط المفهوم بنظام سياسي معين، وإلزام الكيان السياسي بالعلمانية. وحاول مصدّق الجليدي أن يدرس دور القيادة في نشر الوعي بالأمة أو مقولتها. أمّا مسعود ضاهر فقد أخرجنا من المجالين العربي والأوروبي إلى المجال الآسيوي ليدرس فكرة الهوية والانتماء لدى اليابانيين، وكيف كان ظهورها تاريخيا وتطوريا ولا يمكن نسبته إلى عنصر أو عامل معين. واهتمّ محمود حداد الأستاذ بجامعة البلمند بتعددية التجربة أو التجارب القومية في أوروبا. فهناك القومية الفرنسية الاندماجية، وهناك «روح الأمة» لدى الألمان، وهي تقدِّم العوامل الثقافية. وهناك الإيطاليون الذين تأخر لديهم الوعي بالانتماء القومي الواحد ولا تزال التمايزات موجودةً حتى اليوم. وعُدتُ في مقالةٍ بعنوان: «الإسلام ومشكلات الدولة الحديثة» لتأمُّل المسألة في أصولها. قلت إنّ الدولة المدنية الأوروبية قامت على أربعة أُصول فكرية: شمولية العقل ومرجعيته، والحق الطبيعي، والعقد الاجتماعي، والحقوق الفردية. وبعد أن شرحت ماذا يعنيه كلُّ أصلٍ في سياقاته الأوروبية، أوضحت تحققاته من الناحية السياسية. ثم انتقلتُ إلى المجال الإسلامي، فأوضحتُ أن هذه الأصول لا تتناقض مع الإسلام ولا تتعارض، وإنما جاءت المشكلات من ظروف العرب والمسلمين في ظل السيطرة الأوروبية في القرن العشرين، بحيث أنكر المتشددون كل شيء حتى ما كان بديهيا. فلا بُدَّ من العودة لنقد الوعي ونقد التطرف والخروج من ردود الفعل.

وفي مجلة «التسامح» أبوابٌ أُخرى غير باب المحور. ففي «الدراسات» هناك مقالةٌ ممتازةٌ لأنجيليكي زياكا عن الإسلام في كتابات العصر البيزنطي. وفي باب «وجهات نظر» دراسةٌ متميزةٌ لديفيد فورد الأستاذ بجامعة كمبردج عن الجامعات ونشوئها وأدوارها. وفي «آفاق» كتب ريتشارد بوليت الأستاذ بجامعة كولومبيا عن أبي مسلم الخراساني وشارلمان. وفي «مدن وثقافات» مقالةٌ مترجمةٌ عن الطائف قبل عام 1900، وأُخرى عن جزيرة جربة. أمّا في باب «الإسلام والعالم» فهناك مقالتان مترجمتان؛ واحدة عن أولوية القرآن عند الشاطبي لوائل حلاّق، وأُخرى عن صعود الإسلام السياسي في الغرب.