منهج الاتباع.. وإشكاليات التغير الحضاري

رضوان السيد

TT

لا يمكن بالطبع أن نحدد تاريخا دقيقا لظهور مصطلح الاتباع في مواجهة الابتداع. لكننا نعرف أن الاتباع هو اتباع السنة أو تطبيقها، وأن السنة بحد ذاتها وبمعناها الاصطلاحي كما استقرت أو تطورت لدى الإمام الشافعي (204هـ/819م) في الرسالة (في أصول الفقه)، كان المقصود بها أن تواجه مصطلح البدعة. وقد كانت السنة (ومعناها في اللغة الطريقة والنهج) مستعملة لدى المحدثين والفقهاء قبل الشافعي، ومنذ مطلع القرن الثاني الهجري إن لم يكن قبل ذلك. وكانت تعني لدى هؤلاء ما توارثه المسلمون في الجيلين الثاني والثالث من أقوال وأفعال وتصرفات عن الرسول، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، وتلقاها الناس بالقبول، وصارت عادة أو طريقة أو نهجا لهم يتبعونه أو أن فئات من الناس كانت تذهب إلى ذلك. ونستطيع أن نتبين هذا الأمر، أي أمر اتباع السنة أو السنن، من إقبال فقهاء ومحدثين في القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي على تدوين تلك الموروثات المروية أو المعمول بها في أجزاء وكتب سموها: كتب السنن. وعندما نتأمل أبواب تلك الكتب نجد أنها تنصرف إلى ذكر مرويات عن النبي، صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابه تتصل في الغالب بتصرفات في الحياة اليومية، وعادات وآداب ومعاملات اجتماعية. ونادرا ما ترد في تلك المرويات أمور عقدية أو تاريخية. ومع أن الصيغ التي تذكر فيها هذه «الآداب» أو حتى الأحكام، لا تجزم بالتحريم أو الإحلال؛ فالمفهوم أن الناس كانوا مدعوين لاتباعها باعتبارها من أعراف «السلف الصالح». والسلف مصطلح مشكل آخر، لأن اتباعهم في تصرفاتهم لا بد أن يكون له تعليل غير تقدمهم في الزمان. وهكذا فقد كان هناك من قال: إن اتباعهم محمود لصحبتهم للنبي حتى لو لم ينسبوا هذا التصرف أو ذاك إليه، إلى أن جزم الإمام مالك بن أنس(179هـ/795م) بأن اتباع السلف من أهل المدينة مأمور به، لأنهم لا بد أن يكونوا قد سمعوا هذا القول أو ذاك من النبي، أو أنهم فعلوا هذا الأمر أو ذاك لأنهم رأوا النبي يفعله؛ وهذا هو مستنده في «حجية عمل أهل المدينة».

إن هذا كله يعني أن «السنة» إلى نحو أواسط القرن الثاني الهجري كانت تعني التوجهات الموروثة عن الجيلين الأول والثاني من أهل الإسلام الأول. وما كان هناك اتفاق على حجيتها أو إلزامها بين الفقهاء، كما أن تلك المرويات والموروثات تحت اسم السنة، كانت تختلف من مصر إلى مصر، فيأخذ الفقيه بأعراف مصره، ويدع ما لم يكن منها. ولذلك اختلف مالك بن أنس (179هـ/795م) فقيه المدينة مع الليث بن سعد (175هـ/791م) فقيه مصر، لأن الأخير ما اعتبر عمل أهل المدينة أو سنتهم حجة عليه. وكذلك الأمر مع أبي حنيفة (150هـ/767م) بالكوفة، والذي ما كان يعتبر سنن الأمصار الأخرى ملزمة له. وهو صاحب القول المشهور عن «التابعين» أو الجيل الثاني بعد الصحابة، عندما سئل عن اتباعهم في آرائهم: هم رجال ونحن رجال! إنما هناك أمر آخر، وهو أن المدنيين والشاميين والمصريين من التابعين وتابعيهم كانوا ينبزون أبا حنيفة وأصحابه العراقيين بأنهم من أهل الرأي، أي الهوى في الدين، وأنهم يضعون آراءهم الشخصية في مواجهة «السنة» الواجبة الاتباع. فلماذا اتهم مالك وأصحابه (والمحدثون فيما بعد) أبا حنيفة وأتباعه بأنهم من أهل الرأي المذموم من وجهة نظرهم، ولم يتهموا بذلك الليث بن سعد المصري الذي رفض حجية عمل أهل المدينة؟ ومالك نفسه يقول في «الموطأ»: أرى كذا أو لا أرى كذا أو أكره كذا، ومع ذلك ما اعتبر نفسه من أهل الرأي، بينما اعتبر أبا حنيفة كذلك. الراجح أن ذلك كان لأن أبا حنيفة كان لا يعتبر «السنن» ممتلكة لأي حجية حتى لو كان رواتها من العراقيين. وربما كان هو أول من قال إن السنة هي ما روي عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه قاله أو عمله.

حقق منهج الاتباع الذي تبلور في النصف الأول من القرن الثالث الهجري وسط صراعات عنيفة تقدما عبر القرون، تجلى في أمرين أساسيين: الإسهام البارز في نشوء مذهب أهل السنة والجماعة، والذي صار أكثرية بين المسلمين بعد القرن السادس الهجري. والأمر الآخر: النجاح في إقامة تيار مستقل ضمن أهل السنة، سمي أولا تيار أهل الحديث أو السلفية، وظل قويا ضمن المذهب الحنبلي لكنه لم يقتصر عليه. وتطور تركيزه من المجال الفقهي إلى المجال العقدي، لكنه ما استطاع السيطرة على المناهج في المذاهب الفقهية السنية، كما لم يستطع السيطرة في المجال العقدي والكلامي. فالمعروف أن الأشعرية ثم الماتريدية، هم الذين سيطروا ضمن أهل السنة في المجال العقدي. وقد ظهر بين الأشاعرة والماتريدية متكلمون كبار نافسوا المعتزلة على مدى ثلاثة قرون، وتبادلوا معهم الأسلحة والأطروحات بعد أن أخذوا عنهم المنهج نفسه. ولذا يكون القول إن الاتباعيين من أهل الحديث قضوا على المناهج العقلية والفلسفية والكلامية في التجربة الإسلامية الكلاسيكية، لا أثر له من الصحة. وينبغي البحث عن أسباب أخرى لتراجع الفلاسفة والمعتزلة غير التأثير السلفي أو الحديثي أو الاتباعي.

ومنذ أكثر من قرن يتحدث مستشرقون، ومؤرخون ومفكرون عرب ومسلمون عن ألف عام من الانحطاط في المجال العربي الإسلامي. وهم يرجعون ذلك إلى ضرب التيارات العقلية والإبداعية في الحضارة الإسلامية، وإحلال منهجيات اتباعية وتقليدية في التفكير والتصرف في الدين والدنيا والثقافة والأدب. وهم يعتبرون أهل السنة أو الأرثوذكسية أو أهل الاتباع والتقليد، مسؤولين عن ذلك الجمود الناجم عن معاداة العقل والمنطق والمواريث الكلاسيكية، والانغلاق على الذات.

ويضيف بعض الكتّاب إلى ذلك الآن أن هؤلاء الأرثوذكس أو المعادين للعقل والتجديد، لا يزالون مسيطرين حتى اليوم، وهم سبب تعملق الأصوليات المتشددة والعنيفة، لأن هؤلاء يسترجعون أطروحاتهم القديمة ويحملونها في مواجهة العالم، ويحولون دون تقدم المسلمين.

إن المجال لا يتسع للرد على هاتين الأطروحتين: أطروحة الانحطاط القديم وأسبابه، وأطروحة الأصوليات الجديدة وأصولها. لكنني أود أن أورد في هذا السياق بعض الملاحظات:

أولا: لقد ظهر وتبلور ما بين منتصف القرن الثاني الهجري، ومنتصف القرن الثالث نهج اتباعي في فهم أصول الدين وفروعه. وهذا النهج أو التيار يعتبر أن المشروعية الدينية لا تتحقق إلا بالعودة الدائمة إلى الأصول.

ثانيا: أسهم النهج الاتباعي في تكون أهل السنة، لكنه ما استطاع السيطرة في أوساطهم لا في الفقه ولا في علم الكلام، ولا حتى في الثقافة والأدب والتعامل مع الموروثات الكلاسيكية.

ثالثا: لا علاقة للاتباع في الدين، بالاتباع في الشعر والأدب والثقافة؛ لأن الصورة والوظيفة والمفهوم مختلفة.

رابعا: ما تسبب الاتباعيون أو السلفيون في ضياع المنجزات النهضوية في الحضارة الإسلامية، لأنهم ظلوا تيارا صغيرا غير مسيطر، ثم لأنه ما كان هناك انحطاط ديني أو ثقافي تسببوا به هم أو غيرهم، ولأن كثيرين منهم أيضا شاركوا في ذلك النهوض بشكل بارز.

خامسا: لا علاقة للأصوليات الحديثة والمعاصرة في أوساط المسلمين بالاتباع الحديثي أو السلفي أو الأشعري القديم. فهي حركات حديثة نشأت في ظروف الحداثة، وإنما تستخدم مصطلحات ورموزا إسلامية قديمة، لتكسب نفسها المشروعية، أو لتغطي على أهدافها وهويتها الحقيقية.

سادسا: لا أرى أن إشكالية التجديد والإبداع في الحضارة العربية القديمة يمكن مقاربتها بدراسة مفهوم الاتباع وهو مفهوم ديني بحت، وما ساد في الفقه والعقائد. بل لا بد من اعتبار واستعمال ظروف ومفاهيم إضافية تنضم إلى «الاتباع» و«السنة» في السياق التاريخي لظهور المصطلحين، ثم يجري تأمل المسألة كلها في نسق واحد.