نظرية الانحطاط بين التاريخ والأيديولوجيا

رضوان السيد

TT

تحدثت في الأسبوع الماضي في هذه الزاوية عن إشكاليات منهج «الاتباع» وعلائقه بالإبداع والمتغيرات الحضارية. وكنت بذلك أجيب عن سؤال طرح في مؤتمر مؤسسة «الفكر العربي» ببيروت عن «الإبداع العربي» ولماذا تضاءل أو غاب. وهذه الإشكالية أثارها في الأصل الشاعر المعروف أدونيس في الستينات في كتابه: «الثابت والمتحول: دراسة في الاتباع والإبداع عند العرب». وفي كتابه ذاك، ربط بين الاتباع في الشعر (= عمود الشعر)، والاتباع في الدين والفكر؛ بل وفي المذهب السياسي! وبذلك كانت الأكثرية الإسلامية عبر عصور الإسلام كلها اتباعية وجامدة في كل شيء تبعا لجمودها الديني، بينما كانت الأقليات الدينية والطائفية والعددية والأدبية هي الرائدة دائما في تحركات التجديد والنهوض في كل شيء، من الشعر وإلى الفكر والدين والحريات السياسية! وقد كرر الرجل ذلك على مدى الأربعين عاما الماضية دون معارض تقريبا، وقد سمعت له محاضرة قبل شهور توصل فيها إلى أن اجتماع السقيفة كان أساس الاستبداد في الإسلام! وقبل شهرين ونيف نشر جورج طرابيشي مجلدا ضخما بعنوان: «من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث»، ظهر له فيه أن «أهل الحديث» المساكين هم الذين خنقوا الإسلام بنقله من فضاء القرآن الشاسع والمبدع إلى قمقم الحديث الضيق والأسطوري! إن هذا النهج في النظر إلى التاريخ الديني والثقافي العربي والإسلامي ليس جديدا وليس بريئا. فمنذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر، دأبت مجموعات من المستشرقين تكتب في التاريخ الديني والفكري للإسلام، على القول إن أهل السنة من السلفية والأشعرية هم الذين ضربوا بجمودهم واضطهادهم الفلاسفة والمعتزلة من أحرار الفكر والعقلانيين في الدين، وهم الذين شجعوا ودعموا من خلال فقهائهم سلطات الاستبداد والاستعباد بقولهم بالطاعة والجماعة. والطريف أنه لم ينج من هجمات المستشرقين والحداثيين العرب والمسلمين إلا الصوفية، الذين كان السلفيون والإصلاحيون الإسلاميون شديدي السخط عليهم ولا يزالون. بيد أن ما جرى حتى منتصف القرن العشرين من تأملات تصنيفية لتاريخنا الديني والفكري شيء، وما جرى بعد ذلك وحتى اليوم شيء آخر. فقد كانت كتابات المستشرقين، وكتب مثل كتاب أحمد أمين (ضحى الإسلام)، مؤلفات في تاريخ الفكر بالفعل، وإن خالطتها التخطيطات التصنيفية. أما في نصف القرن الأخير؛ فإن هذا الحقل سادته اندفاعات يسارية وتحديثية ذات طابع أيديولوجي بحت (مثل كتابات الجابري وأركون وأدونيس ومروة وتيزيني وطرابيشي)، ولا يمكن اعتبارها منهجا ومقصدا لرؤى ونظرات في تاريخ الفكر الإسلامي. إذ قال هؤلاء جميعا إنهم إنما يريدون من وراء القراءات الجديدة والإبداعية للموروث الديني والفكري تحرير المسلمين منه، لكي يستطيعوا النهوض والتقدم، لأن «الانسداد» الذي أحدثه أهل السنة في الدين والفكر لا يزال حتى اليوم يسد أبواب وإمكانيات التجديد على العرب والمسلمين. وفي العقدين الأخيرين زادوا في الطنبور نغمة عندما «اكتشفوا» – كما اكتشف اليمين الأوروبي والأميركي - أن «الأصوليات» الإسلامية المعاصرة إنما تستقي في انسداداتها أيضا من ذاك الفكر القديم لأهل السنة. وهكذا فما عاد أهل السنة مذنبين في «التقليد» الجامد؛ بل صاروا أيضا مذنبين في الأصوليات المسيطرة! على أن هذا الخلط المنهجي والتاريخي ما انفرد بالإساءة إلى دين الأمة وتاريخها وانتمائها؛ بل وازاه أو تقدم عليه قليلا في الزمان، القول بأن أمتنا عانت من انحطاط فظيع على مدى ألف عام؛ بدءا من القرن الخامس الهجري/ الثاني عشر الميلادي وهذه الفكرة قال بها إرنست رينان وهانوتو وآخرون في سبعينات القرن التاسع عشر، وحاورهم فيها يومها كل من جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين، وأهل ذاك الجيل. لكن ما كان هم الإصلاحيين في ذلك الحين - وهم المشدوهون بالتفوق الأوروبي والسطوة الغربية - مناقشة صوابية الفكرة، بل كانوا يريدون الدفاع عن الإسلام، بالقول إنه ليس سبب انحطاط المسلمين، ولا سبب المظالم الواقعة بالمرأة، ولا سبب سواد التصوف والتواكل؛ بل السبب أن المسلمين انحرفوا عن الدين الحق، وجهلوا التعاليم الإسلامية النهضوية والوضاءة القسمات، التي لا تختلف كثيرا عما كان عليه الأوروبيون في القرن التاسع عشر؛ وخاصة أن أوروبا إنما تدين للإسلام بالكثير من أسباب نهوضها وتقدمها. وعلى مدى القرن العشرين، انعقدت مؤتمرات وندوات لدى المستشرقين، ولدى العرب والمسلمين، لبحث علل الجمود والانحطاط الذي أصاب العرب والمسلمين ولا يزال يحط برحاله في ديارهم. وكان آخر هذه السلسلة المؤتمر الذي انعقد بالجامعة الأميركية في بيروت الأسبوع الماضي ليعود لمضغ تلك المقولة واجترارها. وقد انشغلت بعض المحاضرات ببحث ونقد ما يقال عن مظاهر يقظة في العالم الإسلامي في القرن الثامن عشر، الذي ظهرت فيه حركات دينية سلفية وصوفية ما بين مكة والهند. وفي حين ذكر بعض الباحثين في المؤتمر أن ذلك النهوض ضربته الغزوة النابليونية لصالح حداثة مختلفة، راح آخرون ينفون أن يكون الانحطاط قد انكسرت حدته في ذاك القرن، لأن أكثر تلك الحركات كانت سلفية رجعية! والذي نعرفه اليوم، ويعرفه الذين يقرأون تاريخنا وفكرنا قراءة متمعنة، بعد أن نشرت أصوله نشرات علمية، أنه ما كانت هناك حقب انحطاط طويلة الأمد، وأن نهج الاتباع كان تيارا قويا في حضارتنا وثقافتنا، لكنه كان في الدين لا في الفكر والأدب، وما كان رجعيا ولا سيطر، وأن الذين كتبوا ويكتبون هذا الكلام، متأثرون بالغلبة الغربية ونموذجها علينا منذ قرنين، وأن بعضا منهم تقوده أيديولوجيات تعمي عن الواقع والوقائع، ولا تحبذ وجود الأمة ودينها وانتماءها، والبعض الآخر يريد تبرير سيطرة الأقليات في السياسة والثقافة في الحاضر.

لقد ذهب وليم ماكنيل ومارشال هودجسون وآخرون من مدرسة التاريخ العالمي، إلى أن العالم الإسلامي ظل حتى القرن الثامن عشر متفوقا في الثقافة وفي الانتظام الاجتماعي والسياسي، وكان تقدمه ذا وثيرة عادية؛ بينما قفزت أوروبا قفزات واسعة بسبب ما انصب فيها من ثروات، وما شهدته من جهود جادة للتنظيم والتقدم التقني (العسكري والإداري). وقد عملت على مدى نحو القرنين حتى استطاعت قهر العالم الإسلامي عسكريا، ثم ضربت الانتظام السائد لإلحاق المسلمين بالسوق العالمية، والنموذج الأوروبي الصاعد. وعندما كان الصراع دائرا، كان السلفيون المتهمون بالجمود هم الأكثر مقاومة للغزو الغربي ولا يزالون. وقد أخطأوا ويخطئون كثيرا، لكنهم ما قضوا على المعتزلة ولا على الفلاسفة، ولا حالوا دون الاجتهاد والتجديد، وأولا وأخيرا ما كانوا إلا تيارا واحدا من ضمن عشرات التيارات، وما كانت لهم الغلبة، ولا كانت أفكارهم هي السائدة.

ثم إن هذه الحضارة العظيمة هي حضارة الأمة، وهي في كثرتها العظمى منذ القرن الخامس الهجري من أهل السنة. فمن يكون الذين أنشأوا هذه الحضارة ونشروها غيرهم. والأمة والحضارة مفهومان واسعان وواسعان جدا، فمن الطبيعي ألا تكون الأمة فئة واحدة من النواحي الدينية والثقافية والاجتماعية. فيبقى أن لكل فئة مشاركتها عملا وإسهاما ضمن أهل السنة (الذين صاروا هم معظم الأمة) أو من هم إلى جانبهم من الناحية الاعتقادية، فمن قال عنهم أبو الحسن الأشعري إنهم أهل الصلاة، وإن الإسلام يجمعهم. ثم إن العرب ما أسلموا جميعا، وكذلك الشعوب الأخرى، فبقي بينهم أهل كتاب، وأتباع ديانات أخرى غير كتابية، صاروا جميعا «من أهل دار الإسلام»، كما سماهم الفقهاء. وكان من ضمن إنجازات الحضارة الإسلامية (والإسلام دينها وروحها) إقامة عيش مشترك رحب وودود بين سائر الفئات، وإقبال الجميع على الإسهام في ثقافة الأمة وحضارتها. وذلك رغم الاختلاف البارز في العقائد والأعراف حتى بين المسلمين، وبين أهل السنة أنفسهم. لقد كان بين المسلمين (سنة وشيعة ومحكمة) من يقول بالاجتهاد في الدين والفقه أو في الأصول والفروع. وهناك من لا يقول بالاجتهاد إلا في الفروع. وهناك من لا يقول بالاجتهاد أصلا. وما كانت للتوجهات بين ما هو شرعي أو بدعي علاقة بالتجديد أو الاتباع في الفكر والأدب والثقافة والاجتماع. وإلا فكيف يكون الحلاج حنبليا في الفقه، وكذلك محيي الدين بن عربي (وهما في رأي كثرة من المتدينين والباحثين مبدعان أو مبتدعان)، وكذلك ابن عقيل والطوفي وابن تيمية وابن القيم، وعدد كبير من المفكرين والشعراء الكبار. وكان بين المسلمين من الناحية السياسية الشوريّ المتشدد، والقائل بالسيف على الظلمة، والقائل بالطاعة في كل حين خشية الفتنة. وكان هؤلاء الفقهاء يتجادلون فيما هو مصلحة وما ليس بمصلحة في حالات معينة. ولا يزال الأمر على هذا النحو لدى سائر الأمم وفي سائر الحضارات، ليس في السياسة وشؤون السلطة فقط؛ بل وفي الثقافة والفكر والأدب أيضا.

وإذا تركنا المسألة الثقافية إلى المسألة الحضارية؛ فإننا نرى أن إنجازات علمية كبيرة (مثل الرياضيات والفلك والطب) إنما حدثت فيما صار يعرف بالعصور المتأخرة. ومن الناحية السياسية، كانت لدى المسلمين أربع إمبراطوريات كبرى (المملوكية، والعثمانية، والصفوية - القاجارية، والمغولية في الهند وجوارها)، وبذلك كان الوضع أفضل لهذه الناحية الاستراتيجية المهمة من الأوضاع التي سادت بين القرنين الثالث والسادس للهجرة. وقد حدثت تأزمات كبرى دينية وثقافية وسياسية خلال الغزوات والحروب الطويلة مع الأمم الأخرى مثل الحروب الصليبية، والحروب المغولية والتيمورية، وفيما بعد أحداث الاستعمار الروسي والنمساوي والهولندي والبرتغالي والإسباني والبريطاني والفرنسي والإيطالي. وذلك، ليس لأن المسلمين كانوا ضعفاء أو استولى عليهم الانحطاط؛ بل لخطورة المناطق الاستراتيجية التي سادوا فيها في آسيا وأوروبا وأفريقيا، وخطورة الدور الذي لعبوه في تاريخ العالم وحضاراته وثقافاته، ولأن حضارتهم وثقافاتهم وإمبراطورياتهم كانت تصارع على السيادة في العالم المعمور. ورغم المشكلات الكبرى ما عرف العالم الإسلامي «عصورا وسطى» كالعصور الوسطى التي عرفتها أوروبا، التي ينكر علماء «مدرسة الحوليات» الفرنسية (وهم ماركسيون) أن تكون انحطاطا وظلاما.

لقد آن الأوان لكتابة تاريخ شامل للثقافة الإسلامية، يحل محل الرؤى التي نشرها المستشرقون، والرؤى الأخرى التي نشرها اليساريون، وينشرها اليوم التحديثيون والحداثيون. ولا أحسب على أي حال أن التاريخ الفاهم والدقيق لحضارتنا يسهم في صناعة الواقع أو في تصحيح العلائق بيننا وبين العالم المعاصر؛ بل إنما يسهم في تصحيح الوعي، بحيث ننصرف لمعالجة مشكلاتنا وتأزماتنا الاقتصادية والسياسية والثقافية دون أوهام ولا إلقاء للمسؤولية على كتف الغير أو على أكتاف الإسلام التاريخي.