جدل الأصالة والمعاصرة في «التراث والتجديد»

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

مع نهاية السبعينات بدا وكأن ملامح العالم الذي عشناه من قبل، في الخمسينات والستينات، تلاشت أو تكاد، لتأخذ مكانها - وفي مقدمة المشهد - ملامح عالم آخر ليس غريبا فحسب عن العالم السابق؛ بل ولربما لاح خصما ونقيضا له في آن معا. ففي تلك الحقبة التاريخية بالذات راحت تتصدر المشهد الثقافي العام شعارات الإسلام السياسي الذي استهوى أجيالا من الشباب وجدت فيه الملجأ الأخير من تناقضات اجتماعية وحضارية حادة اعتصرتها وسحقت - بضراوة بالغة - مطامحها وآمالها في عالم أكثر عدالة وإنسانية! فقد توارت إلى الخلف - أو كادت - شعارات الحقبة الناصرية (بمفرداتها القومية) بعد أن أهدرت هزيمة السابع والستين الحلم العربي! وعادت الملايين المحبطة أدراجها تبحث عن ملاذ آمن ومضمون، وفي هذه المرة، كان الإسلام هناك.

كان الإسلام هناك تردد أصداؤه «مدافع آيات الله» التي لطالما استهوت تجربتها الثورية حسن حنفي فرأى فيها إمكانية لتثوير العقيدة كحصن أخير للدفاع عن الأمة وكيانها المهدور؛ خاصة بعد أن تهاوت مشاريع الإصلاح والتجديد مخلفة وراءها ركاما من المشكلات الجديدة، وانتهت مشاريع النهضة والتحديث إلى نقطة الصفر من جديد! أو بلغة حنفي نفسه: «انتهى فجر النهضة العربية الحديثة، ولم نر ضحاها أو ظهرها، وحل ليلها بسرعة، وسادت روح المحافظة الدينية، وكأن الصاروخ قد هبط إلى الأرض بمجرد أن ارتفع، فظهرت الأصولية الإسلامية على أنها الرصيد التاريخي الوحيد الباقي على مر العصور، حامي حمى الإسلام ضد الغرب (الحاقد، المتآمر، الامبريالي..)»! رافق حنفي في نشأته إذن إخفاقات الثورة الوطنية، وانحسارات الموجة التقدمية، وبروز الإسلام السياسي كقوة أكثر حشدا وتعبئة وفاعلية، بحيث بدا لكثيرين من رفاقه ومعلميه أن لا مستقبل لثورة أو نهضة مأمولة من خارج الإسلام وتراثه الذي يشكل بحق مخيال الأمة ومخزونها النفسي والذي لا يمكن لأحد - ولا لمؤسسة بما في ذلك السلطة السياسية - القفز فوقه بحال من الأحوال! ومن هنا، برزت لديه ضرورة السعي إلى صياغة الإسلام كأيديولوجية ثورية للشعوب الإسلامية تجعلها قادرة على مواجهة التحديات الرئيسة للعصر، مما يعني أن تبلور مشروع «من العقيدة إلى الثورة» كان لازما، من أجل إحداث ثورة تستعصي - إذ تجد ما يؤسسها في العقيدة - على أي انكسار وتناه، على نحو ما حدث للتجربة الاشتراكية في صورتها الناصرية! على أن التساؤل الذي يطرح نفسه - وبقوة هنا - يتعلق في الأساس بمسيرة حنفي العلمية من جهة، وقراءته لمسارات الإصلاح والتجديد حتى عصره من جهة أخرى. والذي يجعل تساؤلا كهذا مشروعا أمران رئيسيان: أولهما أن حنفي يقدم نفسه باعتباره امتدادا لحركة التجديد التي قام بها كل من الأفغاني ومحمد عبده وتلامذتهما. وبحسبه؛ فإن «حركة الإصلاح الديني تتسلسل من الأفغاني إلى محمد عبده إلى رشيد رضا، إلى حسن البنا، إلى سيد قطب، ثم إلى..»!! ثانيهما: حجم الاختلاف الدائر حاليا بشأن دائرة الانتماء الحقيقية لحنفي ومشروعه، وما إذا كان ينتمي بالفعل إلى ما أطلق عليه البعض «الإطار السلفي الحديث الذي يأخذ على عاتقه مهمة تجديد التراث، وهذه السلفية هي ما آلت إليه تاريخيا السلفية الليبرالية إجمالا»؟!، أم إلى «التجديدية المباشرة واعتبار الثقافة مجرد انعكاس للصراع الاجتماعي الطبقي، (بحيث) تفضي هذه النزعة البراجماتية التي تندمج فيها التأويلية السبينوزية (نسبة إلى سبينوزا) بنظريات الاغتراب الفيورباخية (نسبة إلى فويرباخ) - الماركسية إلى القفز على تاريخية المعارف والمفاهيم والتضحية بالدقة العلمية من أجل النجاعة النضالية»؟! وبصيغة أسهل: هل قراءة حنفي للتراث قراءة من الداخل (وجهة النظر الأولى)، أم من الخارج (وجهة النظر الثانية)؟! والواقع؛ أن مصدر هذه الإشكالية يرجع إلى أنه في الوقت الذي اعتبر فيه البعض أن المدخل الصحيح لدراسة الفلسفة العربية المعاصرة هو ما أنجزه الفكر الغربي النقدي في أحدث اتجاهاته من مناهج ابستمولوجية (معرفية)، بنيوية، أركيولوجية (حفرية) وتفكيكية، كما لدى كل من: محمد أركون، ومطاع صفدي، وعلي حرب؛ ظل عدد كبير من رواد الفكر العربي المعاصر يتابعون دراستهم التحليلية النقدية من خلال رؤاهم الاجتماعية ومناهجهم التاريخية الجدلية، كما هو ملاحظ لدى العروي، وطيب تزيني، وصادق العظم، وحسين مروة، ومهدي عامل، ومحمود أمين العالم وغيرهم، بينما نجد لدى فريق ثالث سعيا حثيثا إلى تقديم رؤية من الداخل للفكر العربي عبر استحداث أدوات منهجية للتعامل مع معطيات الفكر العربي المعاصر وفي مقدمتهم: حسن حنفي، وطه عبد الرحمن وغيرهما.

وحتى نتمكن من وضع نتيجة أولية لهذه الإشكالية، سنعرض أولا لمنحى حياة حسن حنفي العلمية، قبل أن نعرض للبنايات المعرفية لمشروعه الفكري، وصولا إلى الحكم على مقارباته وما إذا كانت تتم من داخل النسق التراثي، أم تظل - كغيرها من الخطابات المنتشرة في فضاءاتنا المعرفية - أسيرة لمقولات ومناهج ورؤى وطروحات غربية؟! ولد حسن حنفي عام 1935، أي بعد ثلاثة عقود من وفاة الأستاذ الإمام محمد عبده (توفي 1905). وفي عام 1956 حصل على الليسانس ثم سافر إلى فرنسا من أجل الحصول على الدكتوراه من «السوربون» وحصل عليها بالفعل في عام 1966 ثم عاد للعمل في كلية الآداب بجامعة القاهرة ولا يزال يعمل أستاذا متفرغا بها حتى الآن.

ومن أبرز الإسهامات العملية للدكتور حنفي أنه أستطاع أن يعيد بعث «الجمعية الفلسفية المصرية» من مرقدها، لتكون المظلة التي يجتمع تحتها أغلب المشتغلين بالفلسفة في مصر والعالم العربي، كما أنه زاوج في كتاباته ما بين التراث العربي الإسلامي من جهة، والتراث الغربي الفلسفي من جهة أخرى.

ينتمي حنفي إلى تيار «اليسار الإسلامي» الذي تحدد أهدافه في العمل على: «مقاومة الاستعمار والتخلف، والدعوة إلى الحرية والعدالة الاجتماعية، وتوحيد المسلمين في الجامعة الإسلامية، أو الجامعة الشرقية». ومما سبق يتضح أن أزمة التنوير والنهضة وتهاوي مشاريع الإصلاح والتجديد هي التي دفعت بحنفي لتقديم مشروعه من جهة، ولوسمه بـ«اليسار الإسلامي» من جهة أخرى. بمعنى أن وقوفه على أزمة النهضة - كما انتهت إليه وبالدرجة الأولى - وقراءته الشخصية للقراءات السابقة عليه، هي التي دفعت به دفعا لانتهاج الطريق الثالث، ومحاولة تقديم قراءته الجديدة لإشكاليات الأصالة والمعاصرة.

وفي كل الأحوال يمكن القول: إنه على الرغم من أن الوعي بموضوع «التراث والتجديد» ليس جديدا؛ فإن سعيا لقراءة التراث بهذا القدر من الشمول والكلية لم يتبلور - في تاريخ الفكر العربي - قبل حنفي. إذ ظل التراث من قبل مجرد ساحة للتفتيت والانتقاء كما ارتبط تفتيته بخضوعه لتوجيه ضروب من الأيديولوجيا تسقط عليه من خارجه؛ بحيث وجدت الأيديولوجيات المتعارضة إلى حد التصادم، فيه ما يبرر وجودها ويبدعه! وفي حدود هذا الدور المطلوب من التراث أداءه، فإن أحدا لم يجد أي ضرورة لإنجاز فهم شامل للتراث في شموله وكليته، واكتفى الجميع بالانتقاء النفعي من التراث، كل حسب موقفه الأيديولوجي! وبحسب حنفي؛ فقد غلب على التحليلات السابقة عليه كونها: إما جزئية لا تشمل الكل، أو أنها تكتفي بمجرد التعبير عن الأماني والنيات الحسنة في تجديد التراث، أو أنها مجرد تعبيرات خطابية وأساليب بيانية تلهب حماس الناس وتعلن عن الكاتب أكثر مما تكشف، أو أنها بقيت أسيرة التراث الغربي بحيث تجدد من خلاله، فهو تجديد من خارج التراث وليس من داخله! على نحو ما سنفصل لاحقا.

*كاتب مصري