القدس بين الضياع أو الانفجار.. إلى أين؟

إميل أمين

TT

على هامش المؤتمر الصحافي، الذي عقده وزير الأوقاف المصري الدكتور محمود حمدي زقزوق الأيام القليلة الماضية والخاص بتفاصيل المؤتمر الدولي للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، الذي سيعقد في فبراير (شباط) المقبل، تحت عنوان «القدس ومكانتها في التاريخ»، شدد الوزير المصري على أن «القدس أوشكت على الضياع، وسيأتي يوم نصحو فيه على ضياع المدينة بالكامل، وكفانا جعجعة».

وقبل فترة ليست بعيدة، أصدرت مجموعة الأزمات الدولية في بروكسل تحت عنوان «هل بات برميل البارود قريبا من الانفجار؟»، وهو التساؤل الذي طرح ميدانيا بصيغة الحديث عن الانتفاضة الثالثة، وهل اقترب بالفعل موعدها بعد أن باتت القدس موقعها وموضعها؟

يقول التقرير في مقدمته: بينما يركز العالم اهتمامه على غزة فإن مستقبل العلاقات الإسرائيلية - الفلسطينية في الحقيقة يعتمد على مكان آخر بعيد عن الأضواء هو القدس. وتحاول إسرائيل بإجراءاتها الأخيرة أن تشدد من قبضتها على منطقة شاسعة في وحول المدينة لتخلق مدينة قدس أكبر بكثير.

وما بين تصريحات وزير الأوقاف المصري وتقرير مجموعة الأزمات الدولية يبقى التساؤل ما المطلوب حتى لا تضيع القدس؟ وهل بات الانفجار وشيكا فعلا لا قولا؟ لا سيما في ضوء تصرفات الجماعات اليمينية اليهودية المتطرفة، وقد كانت آخرها تلك التي حاولت اقتحام الأقصى بمناسبة العيد اليهودي «الحانوكا» (عيد الأنوار)، الذي يسميه البعض عند اليهود عيد تطهير الهيكل، مع ما وراء ذلك من فكر جهنمي يتماس والتخطيط لبناء الهيكل الثالث على أنقاض المسجد الأقصى؟

يسجل الجنرال الإسرائيلي عوزي ناركيس، قائد المنطقة الوسطى الإسرائيلية في حرب عام 1967، في مذكراته ما نصه «إنني وقفت بجوار الحاخامات وهم يتلون بعض الأدعية بصوت عال وسط تزاحم ضباط وجنود من الوحدات، جاءوا لمشاهدة الحائط وملامسته تبركا».. كان ذلك بعد نصف الساعة تقريبا من وقوف موشيه ديان، وإسحق رابين، وعوزي ناركيس، جنرالات إسرائيل الكبار وقتها، «صباح السابع من يونيو (حزيران) 1967 أمام حائط البراق، (حائط المبكى كما يسمونه)».. «في تلك اللحظات، يقول ناركيس، هرع إلى الموقع كبير حاخامات الجيش الإسرائيلي الجنرال شلومو جوربين، وأخذني من يدي جانبا، وقال لي هامسا: عوزي أليست هذه هي اللحظة المناسبة لوضع مائة كيلوغرام من المفرقعات في مسجدي عمر وقبة الصخرة، حتى تتوقف دعاوى المسلمين بوجود حق ديني أو تاريخي لهم في القدس؟».

ويضيف ناركيس: قلت لكبير الحاخامات «أرجوك ذلك أمر لا داعي له، وسوف يثير علينا الدنيا كلها، وسألني أي دنيا سوف يثيرها؟»، وقلت له: «المجتمع الدولي وعلى رأسه أميركا، التي لها صداقات كثيرة تحرص عليها في المنطقة، ونحن أيضا لنا أصدقاء في العالم الإسلامي: تركيا، إيران، إندونيسيا، باكستان، وغيرها كثير».. ولكن كبير الحاخامات أصر على مواصلة دعوته قائلا لي: «عوزي هذه فرصتك لدخول التاريخ وأنت تضيعها»، ورددت مضطرا عليه «بأنني سجلت اسمي في كتب التاريخ بدخول القدس وانتهى الأمر، وأدار كبير الحاخامات ظهره لي ومشي بعيدا».. وتبقى علامة الاستفهام في هذا المقام: هل توقفت محاولات هدم الأقصى بعد ذلك أم مضت على قدم وساق من أجل بناء الهيكل الجديد؟

واقع الحال يشير إلى أن المحاولات مستمرة والنيات العدوانية مستقرة منذ عام 1967، مرورا بعام 1969، أي وقت الحريق الكبير الذي اشتعل في الأقصى، وصولا إلى الأيام الأخيرة التي شهدت حفر أنفاق وإحداث هزات أرضية صناعية، ناهيك عن تزوير تاريخ المنطقة برمتها.

وحسب الادعاءات اليهودية التي تجد كثيرا من دعم أصوليين دينيين غربيين، خاصة في الولايات المتحدة الأميركية فإن المسجد الأقصى بني فوق أساسات الهيكل الثاني. وفي هذا السياق، كان طبيعيا أن تنشأ مؤسسات مثل «مؤسسة هيكل أورشليم» بغرض محدد هو مساعدة أولئك الذين ينوون تدمير المسجد الأقصى وبناء الهيكل مكانه».

ويبقى بديهيا أن يخطط البعض، مثل الضابط الإسرائيلي مناحم ليفني عام 1985، لنسف المسجد عبر خطة عسكرية، فالرجل كان أحد أعضاء كتلة المؤمنين وقائد كتيبة مهندسين في جيش الاحتلال، وفي الوقت ذاته كان قائد وحدة من وحدات الحركة الزيلوتية (حماة العقيدة) الإرهابية لمنظمة غوش إيمونيم. يدعي «ليفني» أنه تمكن من الحصول على صور استطلاع جوي التقطت للموقع كله، ثم جند أحد الطيارين العسكريين واتفق معه على قصف المسجد والموقع كله من الجو، لكن السلطات العسكرية أوقفت التنفيذ لأن اشتراك أحد الطيارين العسكريين كان حريا بأن يكشف عن اشتراك حكومي في العملية.

هل الأحقاد اليهودية في فلسطين ستتوقف عند المقدسات الإسلامية، وفي مقدمتها الأقصى أم ستمتد إلى المقدسات المسيحية، بدءا من كنيسة القيامة، مرورا بالمهد وهلم جرا؟

يمكننا أن نجزم بالقول إن الأحقاد اليهودية تجاه المسيحية ومقدساتها قائمة هناك منذ عام 33 ميلادية، وأنه إذا كان اليوم هو موعد الأقصى، فغدا يحل الدور ولا شك على كنيسة القيامة، والدليل على ذلك أنه قد تراءى أمام أعين الناظرين من خلال المهانة والامتهان الكبيرين اللذين شهدتهما كنيسة المهد في حصارها المشهور عام 2002.

وحتى لا تكون الكلمات ضربا من ضروب الرجم بالغيب، فإننا نذكر دعاة اليمين المسيحي الأصولي المخترق بالتقرير الصادر عن بطريركية اللاتين الكاثوليك في القدس، الذي قام عليه المونسنيور فيرجاني في أعقاب حرب عام 1967، وفيه تظهر فظائع أعمالهم بما صنعوه بدير الآباء الفرنسيسكان في طبرية، حيث دنسوا مصلى الكنيسة وقلبوا المذبح وكسروا تماثيل العذراء والقديس أنطونيوس، وهناك أنزلوا تمثال السيد المسيح من على الصليب وألقوا بقنبلة يدوية على باب الكنيسة، ولم يكتفوا بذلك، بل مزقوا الأردية الكهنوتية المقدسة، وألقوا بها على الأرض وفتحوا أوعية خبز القربان بالقوة وسرقوا كؤوس القربان وكسروا الصلبان.

وما حدث في ذلك الدير ليس إلا نموذج مصغر مما جرى للكثير من الكنائس هناك، التي جاء على ذكرها المحامي المقدسي القدير الأستاذ عيسى نخلة، الذي شغل منصب ممثل الهيئة العربية العليا لفلسطين بنيويورك في كتابه «اليهود يعملون على محو المسيحية من فلسطين المقدسة».

والمقطوع به أن تسلسل الأحداث ووضوح النيات الإسرائيلية هو ما دعا مجموعة الأزمات الدولية للقول في تقريرها إنه إذا كان المجتمع الدولي، وعلى وجه الخصوص الولايات المتحدة، جادين في الحفاظ على، والعمل من أجل التوصل لحل قابل للحياة للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي مبني على إقامة دولتين، فعليهم أن يتحدثوا بوضوح أكثر وبإصرار لوقف الأعمال التي تعرض ذلك الهدف للخطر بشكل مباشر وفوري، وإذا كان لذلك الحل أن يرى النور يوما ما، فعليهم جميعا أن يكونوا واضحين فيما يتعلق بإلغاء التغييرات التي حدثت منذ جلس الإسرائيليون والفلسطينيون آخر مرة على مائدة المفاوضات عامي 2000 - 2001.

على أن السؤال الذي يطرح نفسه: هل تجد هذه التوصية آذانا صاغية من إسرائيل؟ وهل يعير المجتمع الدولي انتباها ما لمثل هذه التوصيات؟

واقع الأمر أن إسرائيل كقوة احتلال تعمد صباح مساء كل يوم إلى تغيير التركيبة الديموغرافية لسكان القدس، وقد اتسم موقف إسرائيل التقليدي، باعتبار أن القدس ستبقى عاصمتها الموحدة الأبدية، التي تخطط لبناء الهيكل الثالث على أرضها. وقبل كامب ديفيد في يوليو (تموز) من عام 2000، نفى مسؤولون إسرائيليون بشدة وجود أي نية للتنازل عن أجزاء من القدس الشرقية المحتلة لصالح السيادة الفلسطينية، مما يعني تقسيم المدينة.

وعلى أحسن تقدير تحدث المسؤولون الإسرائيليون عن تحويل المناطق السكنية المجاورة، مثل أبو ديس إلى عاصمة فلسطينية. ومن ناحية الفلسطينيين أنفسهم، فقد طالبوا باستعادة القدس الشرقية، كما كانت قبل عام 1967، وفي الظاهر تبدو الهوة كبيرة جدا بين هذه المواقف والمطالبة بالحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني، وبين ما هو حادث الآن، وكأن إسرائيل ماضية قدما في طريق ما قاله بن غوريون من قبل «لا فائدة لإسرائيل من دون القدس ولا معنى للقدس من دون إقامة الهيكل». والشاهد أنه منذ انهيار محادثات السلام واندلاع الانتفاضة الثانية التي عرفت بانتفاضة الأقصى عام 2000، وإسرائيل ماضية في تغيير شكل القدس ومحاولة القضاء على أي وجود عربي أو فلسطيني بها، فأغلقت المؤسسات الفلسطينية في القدس الشرقية، بما فيها بيت الشرق والمجلس الأعلى للسياحة وغرفة التجارة الفلسطينية، وأكثر من ذلك استمرت في سياسة توسيع المستوطنات داخل وخارج المدينة، وهذه السياسة التي اتبعها أرييل شارون في حد ذاتها لم تبتعد عن سياسة من سبقوه في الحكم، الذين سعوا إلى توسيع الوجود اليهودي في المدينة، ولكن أسلوب شارون كان يبدو أكثر تركيزا وتتابعا، مما يعكس وجود «خطة كبرى» تتكون من عدة عناصر تشمل، وفي المقدمة، بناء الجدار الفاصل حول القدس، ومما لا شك فيه أن القدس تتعرض اليوم إلى واحدة من أبشع عمليات الابتزاز الإسرائيلي. من هنا تبدو خطورة المرحلة الحاسمة والعصيبة التي تجتازها المدينة المقدسة، وفي تقديرنا أن مسألة القدس لن تحل بمفاوضات قصيرة وسريعة وضاغطة، لأن المدينة المقدسة من وجهة النظر العربية ليست أرضا قابلة للتنازل أو المقايضة أو التعويض أو الإيجار أو الهبة أو المساومة، ومن هنا يتضح مغزى وضعها في صدارة أولويات قضايا مفاوضات الوضع النهائي.

ومعروف أن حكومات إسرائيل منذ مجيء نتنياهو وحتى الآن قد قلبت مائدة التفاوض رأسا على عقب، ويحاول مخطط تلك الحكومات، أيا كان الحزب الحاكم، خلط أوراق مفاوضات المرحلة الانتقالية بمفاوضات الوضع النهائي لتجعل القدس محل مساومة.

وعندما فشل المفاوض الإسرائيلي في فرض الأمر الواقع والمساومة بشأن القدس لجأت إسرائيل، حكومة ومعارضة، إلى أسلوب قلب مائدة المفاوضات رأسا على عقب، إبان اقتحام شارون، زعيم الليكود، ساحة الحرم القدسي الشريف في 28 سبتمبر (أيلول) 2000 في حراسة ثلاثة آلاف جندي إسرائيلي يشهرون السلاح في وجه المقدسيين الآمنين، ومن هنا اندلعت انتفاضة الأقصى ذودا عن المقدسات ودفاعا عن الأرض والإنسان، وعبرت الانتفاضة عن إرادة الأمة العربية والإسلامية في التصدي لآثار القدم الهمجية وأبرزت الانتفاضة أهمية الدعوة لصياغة وثيقة للدفاع عن القدس، تحسبا لاستئناف المفاوضات بشأنها، لتحريك القضية في المحافل الدولية أو لترحيلها للتحكيم الدولي.

وإعداد وثيقة للدفاع عن حقنا الثابت في القدس، يتطلب تعبئة كل قوى الأمة وشحذ الفكر المهني بمختلف تخصصاته الحقوقية والقانونية والسياسية الدبلوماسية والتاريخية والإعلامية والاجتماعية والمعمارية، لصياغة وثيقة للدفاع عن القدس كلها، سمائها وأرضها وصخرتها المشرفة ومقدساتها، مساجدها وكنائسها، هويتها وشخصيتها، أناسها وسكانها، شوارعها وحواريها وأزقتها، جبالها وأنغامها، سورها وأبوابها التسعة.

والأمر الأخير الذي نود أن نلفت إليه هو أن التجربة قد دلت على أنه عندما تعبر الولايات المتحدة بإصرار ووضوح عن رأيها، كما فعلت من قبل بالنسبة لمشاريع الاستيطان، شريطة أن يكون ذلك بجدية تامة، فإنها تستطيع أن تحدث التغيير المنشود.

لكن يبدو أن إدارة أوباما – وهذا واقع حال فعلي - مغلولة اليد بين الأزمات الداخلية الأميركية، وتهدئة مخاوف إسرائيل من إشكالية إيران النووية ومحاولة كبح جماحها عن الذهاب منفردة في طريق المواجهة العسكرية، وبين هذه وتلك لا تجد حكومة نتنياهو من يردعها عن غيها السادرة فيه، وتبقى المدينة المقدسة في حاجة إلى من ينقذها من خطر الضياع الداهم قبل أن ينفجر بالفعل برميل البارود.

* كاتب مصري