مسؤولية العقل واللامسؤولية لدى بعض المفكرين المعاصرين

كاريتش: الكثير ممن يسمون بالمسلمين المتطرفين يقرأون هنتنغتون كما يريد هو أن يقرأ

غلاف كتاب «مقالات بوسنية»
TT

يعرض الدكتور أنس كاريتش في كتابه النفيس «مقالات بوسنية» جملة من الأفكار حول «الحوار الفلسفي بين الأديان عوضا عن صراع الحضارات» و«مسؤولية العقل واللامسؤولية لدى بعض المفكرين المعاصرين» وغيرها من المواضيع الفكرية المهمة بعمق كبير، مرتكزا على توافقات معالمية في دنيا الفكر الإنساني، وهو بالتالي لا يغرد خارج السرب، وإنما اختار السرب الذي يغرد فيه أو من خلاله بعد تعدد الأسراب، على الرغم من محاولات الهنتنغتونية المدججة بالأدلجة المسلحة أو الأسلحة المأدلجة. يبدأ الدكتور كاريتش بعرض أفكاره في كتابه الجديد (333 صفحة من القطع المتوسط) بثقة متناهية، معترفا بإنجازات العلم وقيمتها، إلا أن ذلك لم يمنعه من توجيه النقد في الجوانب التي يراها قد طغت على المعقول، فهو يشير إلى أننا «نعيش في عصر طبع العالم فيه باختراعات العقل البشري ومنتجاته بشكل لم يشهده من قبل، لذلك يسمى عصرنا الشامل (العصر الحديث) و(ما بعد الحديث) و(المدنية التقنية) و(عصر نهاية التاريخ)... إلخ. وعلى كل حال فإن أقل قاسم مشترك لكل تلك التعابير هو حكم وسيادة العقل العلمي للإنسان على الأرض». ويرى الدكتور كاريتش أن أشكالا معينة من العقل تجاوزت المعقول والقدر المناسب من الجرعات، وفق حالة العالم الذي شبهه بالإنسان «لم يغتصب هذا الشكل العقلي أشكالا أخرى للعقل البشري فحسب، بل اغتصب أيضا جميع الأشكال الأخرى للوجود الإنساني. أصبح العقل التقني قاضيا على كل الأشكال الأخرى للعقل البشري، وكل الأشكال الأخرى لكينونة الإنسان ووجوده». ويهدف الدكتور كاريتش في مناقشته لهذه القضية إلى لمس صفة واحدة بتعبيره من الصفات الكثيرة للعقل العلمي، ألا وهي «استهتاره العالمي».

من جهة أخرى، يجد الدكتور أنس كاريتش أن «تطبيقات الفيزياء والكيمياء وعلوم الأحياء... في الحروب أشد إرعابا، فقد عشنا في القرن العشرين وحده حربين عالميتين وقنبلتين ذريتين، بينما فاق عدد التجارب السلمية لهذا السلاح أكثر من ذلك بكثير». ويرى أن العقل لم يتوجه لإمعان النظر في الأخطار والبحث عن حلول «وعلى كل حال لسنا في حاجة هنا إلى إجراء توصيف لهذه الإشكاليات، والعجيب هنا، حقيقة هو أن هذه المشكلات معروفة لكن الحلول مجهولة، وهي غير معروفة للقسم الأعظم من البشرية وعلى الأقل لا يجرى البحث عن الحلول بمسؤولية، إضافة إلى عدم توجه العقل المسؤول للبحث عن ذلك». ولا يقتصر ما يسميه بالاستهتار على التقنية، بل العلوم الإنسانية أيضا «نحن ننطلق هنا من افتراض أن الاستهتار العقلي للعلوم الحديثة شامل، في العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية، على حد سواء، وأصبح هذا الاستهتار قدر الإنسان اليوم وأكثر، ليتجاوز حدود العالمية». والمأخذ الآخر الذي يسجله على التقدم العلمي هو أن «التقدم العلمي واضح في كل مكان، لكن دون أن يصاحبه تقدم أخلاقي»، أو كما قال تيودور آدورونو من صناعة القوس والسهام إلى صناعة القنبلة الذرية تم في الحقيقة إحراز «تقدم» لأنه بهذه القنبلة يمكن قتل أعداد كبيرة من البشر، أي أن المشكلة تكمن في «غياب التقدم الأخلاقي للبشرية». ويضرب أمثلة أخرى على استهتار العقل العلمي لعصرنا الحاضر الذي من المقدور متابعته بوضوح في العلوم الاجتماعية «إن نظرية صاموئيل هنتنغتون عن «صراع الحضارات». تعمل مراكز قوى كثيرة على الترويج لها اليوم بشكل هجومي في وسائل الإعلام العالمية. «إن ترويجها يشابه اللامسؤولية ذاتها في ترويج النظريتين الفاشية والشيوعية في القرن العشرين». وقال «تعتبر نظرية (صراع الحضارات) لا مسؤولة تجاه جميع مرافق الحياة الإنسانية. وهي هجومية بشكل مشابه للنظرية الفاشلة عن (صراع الطبقات)، والأكثر من ذلك أن نظرية هنتنغتون تمثل صدى بعيدا للحزن على الأزمنة المتصفة بثنائية العالم السياسية والاقتصادية والعقائدية... التي نشأت على أنموذج التقسيمات القديمة للعالم، (إلى الإغريق والبرابرة) و(المتمدنين والمتوحشين) إلخ».

وقال «يتبع هنتنغتون مدرسة العلماء الذين يتأملون تاريخ العالم ويقرأونه من خلال (عدسة الصراع) البائسة الضيقة، لذلك فإن المروجين له اليوم في أميركا ليسوا سوى أناس ختمت عقولهم بمنطق (الحروب الباردة)، وفي الجهة الأخرى يرحب به الشيوعيون السابقون ويستقبلونه كزوج محترم، لأنه يؤكد مجددا على أن العالم مؤلف في الحقيقة من صديق عالمي واحد وعدو عالمي واحد، وقد قام أنصار هنتنغتون على منح الإسلام دور العدو العالمي على أي حال». إلا أن هنتنغتون، كما يشير الدكتور كاريتش «له في ذلك أسلاف، فمنذ نحو ثلاثين عاما ظهرت في الغرب، لا سيما أميركا مجموعة من العلماء من ذوي النفوذ في العلوم الإنسانية وغالبيتهم من المؤرخين وفلاسفة التأريخ، وضعوا هدفا أساسيا لأنفسهم هو (الكهانة) و(التنبؤ) بالتطورات المستقبلية (للتأريخ العالمي)، إلا أن هؤلاء ليسوا بأولئك (المستقبليين) أو(علماء المستقبل) المشهورين من قبل، الذين كان منهم الكثيرون في أميركا ومناطق أخرى، بل هم علماء يحتلون مناصب رفيعة في مؤسسات التخطيط والدراسات الاستراتيجية». ويشرح ذلك بالقول: «تابعت هذه المجموعة من العلماء بدقة وانتباه (إضافة إلى التخطيط والتشجيع) انهيار الإمبراطوريات الشيوعية الكبيرة أو الصغيرة وظهرت خلال عشرين سنة مجموعة ضخمة من المؤلفات التي وجهت مسارات تحرك أميركا والعالم». ويتساءل «فهل نشأ عالم أحادي القوة؟ إذا كان الجواب نعم، فكيف يمكن التحرك في عالم أحادي القوة، في عالم بلا قطبين للانحياز إلى أحدهما؟ وهل من الممكن قيام عالم القوة الواحدة؟ وكيف يمكن منع العالم من التحول إلى عالم أحادي العنف؟». هذه بعض الأسئلة التي عمل عليها الكثيرون حتى قبل هنتنغتون مثل فرانسيس فوكوياما في كتابه «نهاية العالم والرجل الأخير»، حيث أطلق فيه نقاشا عن «نهاية التاريخ»، فاشتهر بذلك شهرة واسعة في أميركا، ولأن هذا الكتاب منح بين سطوره دورا قياديا لأميركا، قائلا إن أميركا هي القوة التي «تنهي تأريخ العالم» ولكنها أيضا القوة التي «تعبد طريق ما بعد التاريخ» ذلك «العالم الجديد». ومنح أميركا دور القائد الجديد لاجتياح العالم في المستقبل.

وعن ذلك يقول «إن فرضيات فوكوياما متفائلة ومتشائمة في آن واحد وأصبح مشهورا، لأن الأميركيين (وغيرهم كذلك) يفضلون قراءة الرسائل المتفائلة في كتاب. لكنه مثل هنتنغتون وكثير غيره يطرح أسئلة كثيرة، ولم يقدم إجابات موفقة لكثير من الأسئلة، أو بالأحرى لم يقدم إجابات أصلا». وتابع «إن الصفة العامة لفرضية (صراع الحضارات) هي في الحقيقة إعطاؤها صفة البديهية والطبيعية تماما، كما كانت نظرية (صراع الطبقات) بديهية، فهي ابتداء وبشكل بديهي صحيحة، وتم تسويق فرضية (صراع الحضارات) على أنها الحل الوحيد الممكن للعصر في القرن الواحد والعشرين وما بعده».

لماذا ينظر صناع فرضية «صراع الحضارات» إليها بهذا الشكل؟ يجيب الدكتور كاريتش «لأنهم مدعومون بوسائل الإعلام، ولأنهم يروجون بلا مسؤولية (لصراع الحضارات) ليس على أنها الروئ للكثير من روئ المستقبل، بل مروية لقدر لا يتغير! وكأنه يقال لنا إن (صراع الحضارات) مقبل لا محالة، وإنه المصير الذي يصيبنا جميعا، لذلك فلا خيار ولا مخرج لنا، وعلينا التصرف كما تعاملنا أيام الاشتراكية والشيوعية، فإما نحن متقدمون أو أننا متخلفون، إما نحن برجوازيون أو أننا طبقة عمالية كادحة، إما أننا سندخل إلى الجنة الشيوعية أو أننا لن نكون... لا يوجد خيار ثالث، ولا يوجد خيار رابع، بكل بساطة لا خيارات».

ومن مآخذ الدكتور كاريتش على هنتنغتون الازدواجية التي يراها تفقد المفكر الشرف العلمي وشرف التفكير العقلاني ومنها «الاحتفال بانتهاء ثنائية القطبية وإحدى الحروب الباردة، وتسويق واحد من القطبين الثنائيين وحرب باردة أخرى من جهة ثانية! يقوم هنتنغتون نفسه بهذا وينادي في كثير من الأماكن في كتاباته بحرب (الغرب ضد الآخرين)».