إلى متى الحملة على المسيحيين؟ ولماذا؟

رضوان السيد

TT

قام انتحاري باستهداف كنيسة بالإسكندرية ليلة قداس رأس السنة، وكانت النتيجة مقتل واحد وعشرين من المصلين، وجرح العشرات. وقال المصريون إن العملية هي من صنع أيد خارجية، لكنهم أكدوا التصميم على الكشف عن المخططين والفاعلين. بيد أنهم ما استطاعوا قول الشيء نفسه عندما استهدف المصلون بكنيسة في المحلة الكبرى يوم عيد الفصح الماضي، لأن العملية جرت بإطلاق النار من جانب مسلحين مصريين. والطريف أن الذين قاموا بقتل أكثر من خمسين من المسيحيين في كنيسة ببغداد أواخر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أعلنوا أنهم قاموا بهذا العمل للانتقام من الكنيسة القبطية المصرية التي احتجزت امرأة أو امرأتين قيل إنهما أسلمتا، لإرغامهما على العودة للمسيحية! إنما لما كرروا الأمر نفسه في قداس عيد الميلاد قبل أسبوع ما ذكروا سببا ظاهرا لذلك. والواقع أن أحداث الاضطراب ضد المسيحيين برزت في السنوات الأخيرة في كل من العراق ومصر. أما في العراق، فإن المسلحين يهاجمون المسيحيين ويقتلونهم دونما ذكر سبب معين في الغالب، بل وفي الغالب أيضا يبقى الفاعلون مجهولين، حتى لو أعلنت إحدى الجهات (مثل «القاعدة») مسؤوليتها. ويحرص المسؤولون الأمنيون بالعراق على اتهام «القاعدة» دائما بهذه المقاتل، دون أن نعرف شيئا عن مصائر المعتقلين واعترافاتهم. والوضع بمصر في مواجهة المسيحيين مختلف بعض الشيء، فالاضطراب قد يكون ناجما عن مهاجمة المسيحيين في الكنائس أو المنازل أو القرى. كما قد يحدث الاضطراب من جانب المسيحيين أنفسهم عندما يثورون لمنعهم من بناء كنيسة أو تجديدها، أو لأن السلطات لا تقدم لهم الحماية الكافية في كنائسهم وأحيائهم وقراهم. وبخلاف العراق، فإن الأسباب غالبا معروفة، وتحصل محاكمات للفاعلين أو المتهمين، لكن الطرفين (الجاني والمجني عليه) يظلان غير راضيين.

فالواضح من الحالة العراقية أن المسيحيين مستهدفون بقصد تهجيرهم ظاهرا. وقد هاجر نصفهم منذ عام 2003، عام احتلال العراق من جانب الأميركيين. والهجرة هجرتان، هجرة إلى الخارج المجاور في سورية والأردن ولبنان، وهجرة داخلية - وهي الأقل - إلى مناطق أكثر أمنا بالمنطقة الكردية وجوارها. وفي حين يستقر المهاجرون إلى لبنان غالبا، يتقدم المهاجرون إلى سورية والأردن بطلبات لجوء وهجرة إلى الولايات المتحدة وكندا وأستراليا، أو إحدى الدول الأوروبية (مثل السويد). وهكذا فقد كان عدد المسيحيين بالعراق عام 2003 فيما يقال نحو المليون، ولا يزيد عددهم اليوم - فيما يقال أيضا - على نصف المليون. والوضع بمصر مختلف لهذه الناحية أيضا، وإن تكن الظاهرة واحدة، فهناك حالة خوف واستياء وثوران لدى المسيحيين المصريين، الذين يبلغ عددهم نحو العشرة الملايين، غالبيتهم العظمى من الأقباط. وليست هناك إحصاءات عن هجرة المسيحيين المصريين، لكن يقال إن الأعداد مرتفعة، وتبلغ نحو الخمسين ألفا في العام. وبذلك يمكن القول إن الاحتلال الأميركي للعراق، وما أدى إليه من انعدام للأمن، يقع في أصل ظاهرة اضطهاد المسيحيين هناك وهجرتهم، إذ هناك جماعات تعمل بشكل منهجي على القتل والتهجير. أما في مصر - وبسبب ضخامة الأعداد - فإن المسيحيين يغلب عليهم التحدي، إذ هم يتظلمون من النقص في الحقوق الدينية، كما يتظلمون من تغير جيرانهم المسلمين تجاههم، ويتظلمون مؤخرا من إهمال السلطات في حمايتهم أو تقصيرها في ذلك.

ولا شك أن المسيحيين تغيروا بمصر، كما تغير المسلمون، إذ المعروف أن المسيحيين لا يشكلون غالبية في أي ناحية من نواحي البلاد، التي يفوق عدد سكانها أو مواطنيها اليوم الثمانين مليونا. وبذلك فإن المتشددين من المسلمين، هم الذين يبادرون في الغالب إلى مهاجمة المسيحيين. أما التغيير لدى المسيحيين فيبدو في عدم تسليمهم مؤخرا بالتقاليد - إذا صح التعبير - إذ المعروف تقليديا أن المسيحيين لا يستطيعون بناء كنائس جديدة أو ترميم القديمة إلا بإذن من رئاسة الجمهورية عبر التدرج الإداري والسلطوي، ثم إن الطلاق مستحيل، أو شبه مستحيل، لدى الأقباط والكاثوليك هناك. ولذا تلجأ نسوة كثيرات إلى الإسلام للحصول على الطلاق بواسطة المحاكم المدنية، فتحتج الكنيسة على ذلك، ويحتج الجمهور. وهذه كلها أسباب للاضطراب يختلط فيها الرسمي بالشعبوي. لكن ظاهرة مهاجمة المسيحيين في كنائسهم جديدة في مصر كما في العراق.

إن المقصود من هذه الشروح والتفصيلات، إلقاء الضوء على الخلفيات والأصول للأحداث الفاجعة، لكي تبدو «الظاهرة» معقولة، لكنها تبقى غير معقولة على الإطلاق. ولديّ من الأسباب الخفية والظاهرة التي تدفع لهذا الاستنتاج، فقد انعقد سينودس مسيحيي المشرق بالفاتيكان بين 10 و24 أكتوبر من عام 2010. ولأول مرة قيل في السينودس خلال الحديث عن أوضاع المسيحيين في فلسطين المحتلة، وأنهم يهاجرون بكثافة، إن قيام دولة إسرائيل هو بين أسباب ازدياد الضغوط على المسيحيين من جانب الإسرائيليين ومن جانب العرب، فلا بد من حل عادل للقضية الفلسطينية لتخف الضغوط على المسيحيين. ومن هذا المدخل، وقف أساقفة مسيحيون مشارقة وغربيون ليقولوا إنه ليس هناك حق ديني لليهود في فلسطين، ولا في القدس، وإن عليهم ألا يضيقوا على الآخرين من المسلمين والمسيحيين بحجة الوعد الإلهي. وما إن انقضى أسبوع على انتهاء السينودس حتى كانت كنيسة للسريان الكاثوليك ببغداد تتعرض لهجمة همجية سقط خلالها أكثر من خمسين ضحية، وهي الكارثة التي جرى تبريرها بأن امرأة قبطية أسلمت بمصر، ويراد إرغامها على العودة للمسيحية! وهذه حجة أوهن من خيط العنكبوت! وما أقصده أن هذه التبريرات ما عاد يمكن الركون فيها إلى قلة العقل أو إلى التعصب الديني (والمتهمون بذلك دائما هم المتشددون السنة!)، بل إن هذه الفئة أو تلك من الذين يقومون بهذه الأعمال الشائنة هم مخترقون من جهات أمنية واستخباراتية، بدليل أنهم هاجموا كنيسة كاثوليكية (والفاتيكانيون بالسينودس هم من الكاثوليك)، وبذريعة واهية لا علاقة لهم بها، وبخاصة أنه في غالب الأحيان لا تقول الجهة أو الجهات المهاجمة لماذا قامت بذلك.. بل ربما تجاوز الأمر الاختراق إلى الصناعة، بمعنى أن قنبلة توضع أو كنيسة تهاجم، ومن جانب تلك الاستخبارات دونما حاجة حتى إلى الاختراق أو الإيهام، وبخاصة أنه في كل الأحوال فإن التهمة راكبة على المتشددين السنة. وليس المقصود هنا الدفاع أو إيجاد العذر، لأن بعض هؤلاء المنسوب إليهم الفعل الشائن، يقومون بالأمور ذاتها ضد المسلمين الآخرين في اليمن أو السعودية أو المغرب أو باكستان. ولدينا شواهد أخرى على التورط والتوريط، ففي عامي 2006 و2007 نشبت حرب شعواء بين السنة والشيعة بالعراق، ذهب ضحيتها عشرات الألوف، وهجر خلالها أكثر من مليونين، والتصق ذلك كله بالزرقاوي. بيد أن أحدا ما ذكر شيئا عن الذين قاموا بالأعمال الانتقامية ضد الأحياء والبلدات السنية - أو أنه قيل وقتها إن الزرقاويين أنفسهم قتلوا السنة أيضا، لأنهم رفضوا الانضمام إلى «القاعدة»! وها نحن نسمع الآن ونقرأ أن أحد زعماء الشيعة يقول إن أحد قادة الميليشيا الذي انشق عنه إنما قام بتلك الانتقامات المذهبية ليسيء إلى علاقاته مع «إخوانه من السنة»! فالنزاعات الطائفية والمذهبية لا يصنعها التعصب وحده، أو أنها لا تستمر به وحده - بل تصنعها أو تستغلها الأيدي الخفية التي تريد الاستيلاء على البلدان أو تقسيمها. وها نحن نعلم اليوم أن الزعيم الإسرائيلي ديفيد بن غوريون اتخذ عام 1964 قرارا بالتدخل المخابراتي في كردستان وجنوب السودان بقصد الإسهام في تقسيم العراق والسودان، وإلهاء العرب بأنفسهم! على أن ما يسري على العراق - حيث يغرق كل النافذين في لعبة الأمم - لا يصح أن يسري على مصر، ذات الدولة العريقة، والعيش المشترك العريق، والجهات الأمنية المنضبطة، والقضاء القائم والمستقل. فالإسكندرية والمحلة الكبرى والقاهرة والجيزة، كلها جهات مدينية ضخمة ومختلطة في السكن والعيش منذ قرون. ثم إن الإسلام ليس مهددا في مصر بأي شكل، لكي ينشأ وعي لدى المسلمين بأن القلة المسيحية تشكل خطرا عليهم، وأنهم مضطرون من أجل ذلك، إلى ممارسة المذابح ضدها، فالأمر سياسي ومخابراتي أيضا، للضغط على السلطة، ولزيادة الانطباع السلبي عن الإسلام، والإسلام السني بالذات. إنما الذي أقصده باختلاف الأمر في مصر، أنه يكون على السلطة أن تستميت للقضاء على هذه الظاهرة، كما استماتت في مكافحة عنف الإسلاميين المتشددين عندما كان موجها إلى السلطة ورجالاتها.

ووسط الغرق في أحداث العنف ضد المسيحيين، لنلتفت قليلا إلى المشهد العالمي، ففي كل يوم تظهر نتائج استطلاع إحدى الدول الأوروبية أو الأميركية، تقول إن 50 أو 60 أو 70 في المائة من مواطني هذا البلد أو ذاك لا يطيقون المسلمين العائشين بين ظهرانيهم من عقود. والسبب - كما يقولون - أن المسلم يميل بطبعه - نعم بطبعه - للتمايز والخصوصية والعنف، ويأبى التعايش والاندماج. وليس من العزاء في شيء التأكد من أن هذا الانطباع زائف وظالم، ففي ألمانيا أكثر من ثلاثة ملايين تركي، ما ارتكب أحد منهم عنفا خلال جيل أو جيلين. ومع ذلك، فإن المستشارة الألمانية ميركل لا تتردد في القول: إن تجربة التعدد والاندماج والعيش مع المسلمين بألمانيا فشلت! فهل نيأس ونستسلم للعنف الحادث أو المصنوع ضدنا؟! لا، ليس علينا ذلك، إنما الذي علينا أن نبقى أمناء لديننا ولعيشنا التاريخي وتقاليده في ديارنا ومع العالم وفيه، وأن نصبح أشد إصرارا على رفض القتل والصور النمطية أيا كان مصدرها. وللعلماء والسلطات السياسية والثقافية الدور الأبرز في مصارعة الصورة الزائفة، والاستمرار في طرح البدائل والخيارات.

ليلة عيد الميلاد قبل أسبوع قتل أربعة مسيحيين في بغداد، فحمل أهلوهم نعوشهم لدفنهم في منطقة مسيحية بجوار الموصل على بعد 350 كيلومترا من بغداد، وعلق شقيق أحد القتلى بأن ذلك صار ضروريا، لأن الموتى أيضا ما عادوا آمنين في بغداد، أما قبل عقود، بل عقدين فـ«كنا نأتي بموتانا من سائر أنحاء العراق إلى بغداد لدفنهم في مقابرنا التاريخية»! أما بابا الفاتيكان فعلق على مقتل المسيحيين بالإسكندرية بأن على الحكومة المصرية أن تكون أكثر اهتماما بأمن مواطنيها وحياتهم وحرياتهم الدينية! ثم يقول الرئيس السوداني إن انفصال الجنوب يشكل فرصة تاريخية للتطبيق الكامل للشريعة بالشمال! فلا حول ولا قوة إلا بالله!