التراث والتجديد بين الرفض والتأييد

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

لم يُثِر مفكر معاصر قدرا كبيرا من الجدل الذي تمركز حول شخصه وآرائه؛ قدر ما أثار الدكتور حسن حنفي (1935)، ومشروعه الفكري الذي عنونه بـ«التراث والتجديد». ففي الوقت الذي يذهب فيه مؤيدوه إلى وصفه بـ«الفقيه القديم» الذي فاقت مؤلفاته في حجمها مؤلفات القاضي عبد الجبار المعتزلي، صاحب موسوعة «المغني في أبواب التوحيد والعدل»، والذي اشتهر دوما بضخامة أعماله، وبـ«مجدد القرنين» بلا منازع، أو «الفقيه المجدد» بحسب ما قال هو عن نفسه: «أنا فقيه من فقهاء المسلمين أجدد لهم دينهم وأرعى مصالح الناس»؛ يمثل حنفي في رأي منتقديه أحد مروجي «التغريب»، وأبرز أنبياء الفجر الكاذب من المبشرين «بالسعادة الماركسية الحمراء»! وأحد الداعين صراحة للإلحاد، وأبرز المجترئين على الله في العصر الحديث! وبينما يصفه بعض الباحثين بـ«سبينوزا الفكر الإسلامي»، وبينما يعتبر في نظر البعض الآخر «مثقفا عضويا»، بحسب المفهوم الذي صكه المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي، أكثر من كونه مؤرخ فكر أو فلسفة، ينظر له البعض الآخر باعتباره إحدى العلامات الفكرية الكبرى في مصر والوطن العربي، بل وفي العالم أجمع، حيث تنوعت جهوده الفكرية ومجهوداته النضالية في سبيل الارتقاء بالفكر والواقع معا، وهي جهود ومجهودات لا تزال تثري واقعنا المعاصر.

ومن ثم فإنه يمثل في حد ذاته قيمة فلسفية مهمة في ثقافتنا المعاصرة، بحيث لا يمكن الكلام عن الفلسفة في مصر، والوطن العربي، من دون التوقف عند حسن حنفي وأفكاره ورؤاه ومواقفه وجهوده التي لا تهدأ. في المقابل من كل هذا التمجيد لا يزيد الرجل عند الطرف الآخر عن كونه زنديقا، حتى وإن أصر على التمحك بالإسلام! وبينما يصف البعض مشروعه بأنه يعبر في الحقيقة عن مرحلة جديدة من أجل التجديد الديني والفكري التي تتجلى في أعمال الشوكاني والطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده وحسين الجسر ومحمد إقبال وابن باديس وعلال الفاسي ومالك بن نبي وطنطاوي جوهري وعلي عبد الرازق وأمين الخولي.. وغيرهم من رواد الإصلاح والتجديد؛ يسم البعض الآخر المشروع نفسه بأنه «ناقص تجرفه النزعات الماضوية المتصاعدة»؛ ويرى فريق ثالث خلاصة مشروعه على أنها «فكر هدام».. لا أكثر ولا أقل! وفي الوقت الذي يؤكد فيه البعض أن حنفي ليس مفكرا أكاديميا أو أستاذا جامعيا فقط، لكنه مفكر صاحب رؤية تثير من الاختلاف والحوار والجدل أكثر من الاتفاق أو تقديم حلول نهائية حاسمة؛ يذهب البعض الآخر إلى تقرير أنه لن يكون في نهاية المطاف إلا واحدا ممن يحاولون هدم الإسلام الشامخ على مر العصور، ومصيرهم معروف في «مزابل التاريخ»! وبينما يصفه البعض بأنه «مفكر إسلامي، مجدد جسور، يستوعب تراثنا العربي الإسلامي استيعابا عميقا، كما يستوعب التراث الفلسفي لعصرنا استيعابا عميقا كذلك»، يمضي الطرف الآخر ممعنا في إيمانه الزائد عن كل حد بفكرة المؤامرة، ليقرر أن السوربون «أعاد صياغة فكره كما صاغ من قبل فكر طه حسين»، حيث كان مشروع السوربون يسعى إلى إعادة تفسير الماضي الإسلامي، ليس بوصفه «عقيدة»، وإنما بوصفه «ثقافة إنسانية» حتى يصبح هذا التراث ثقافة لا عقيدة، بغية قتله لا إحيائه، وكان حسن حنفي واحدا من أدواته لتحقيق هذا الهدف»! ومضيا في هذا الطريق إلى منتهاه؛ لا يجد أحدهم ما يختم به مقالته عن حنفي إلا سرد جملة من الأوصاف التي سبق لابن تيمية أن أطلقها من قبل على بعض المشتغلين بالفلسفة في عصره ممن: «ترك ما أمر الله به من الحق، حتى احتاج إلى الباطل، وفقد أسباب الهدى، وارتد عن أصل الدين، ووقع في أودية الضلال والجهل. وطوائف الضلال: إما مضللون مداهنون، وإما زنادقة منافقون، لا يكاد يخلو أحد منهم عن هذين (الصنفين/الفريقين). إذا ادعى التوحيد فهو توحيد بالقول، لا بالعبادة والعمل، فالتوحيد الذي جاءت به الرسل لا بد فيه من التوحيد بإخلاص الدين لله، وعبادته وحده لا شريك له».

وبطبيعة الحال؛ لا يكتفي ناقل هذا الكلام بذلك، وإنما يعقب عليه قائلا: «وهذا شيء لا يعرفه حسن حنفي، وقد قيل يوما لأحد كبار المشايخ: ما الفرق بين الأنبياء والفلاسفة؟ فأجاب: السيف الأحمر»! كما حذر الشيخ ابن تيمية أولئك الذين يقفون إجلالا واحتراما لهؤلاء الفلاسفة بعبارة قصيرة موجزة خلاصتها: «إن طلب الهدى عند أهل الضلال يعد من أعظم الجهل»! هكذا تبلغ الأدلجة مداها ليجد القارئ نفسه في نهاية الأمر حائرا مُسْتقطَبا إلى هذا الطرف أو ذاك، وكلٌّ يجيد لعبة الانتقائية والتسرع بالأحكام، يستوي في ذلك مادحو الرجل والمنتقصون من شأنه على حد سواء. لذا سنحاول هنا أن نلج ساحة هذا الاستقطاب الحاد من دون أن نكون طرفا فيها، أو محملين مسبقا بحكم عام تجاه الرجل ونتاجه الفكري.

نقول: «نتاجه الفكري» لأن ثمة من يتحفظ صراحة على وصف «التراث والتجديد» بالمشروع، مفضلين استخدام لفظة «خطاب» بدلا من «مشروع» لوصف كتابات الدكتور حنفي، وحجتهم في ذلك أن جميع رواد النهضة ينقسمون إلى فريق يملك مشروعا وخطابا، أو آخر يملك خطابا من دون مشروع، أو ثالث يملك مشروعا من دون خطاب. وضمن الفريق الأول يقع رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وقاسم أمين، وضمن الفريق الثاني نصادف سلامة موسى وشبلي شميل وعبد الحليم محمود وآخرين. وفصل الخطاب في التفريق ما بين المشروع والخطاب هو قابلية الفكر للتطبيق والتجسد ضمن مؤسسات فاعلة في الواقع المعاش.

ونتيجة لذلك؛ فليس من الصحة بمكان أن نصف طروحات سلامة موسى وشبلي شميل بالمشروع فيما ظلت في مستوى الخطاب، ولم تتبلور عمليا وقت صدورها، وذلك على العكس من مشروع الطهطاوي في التعليم، ومشروع محمد عبده في الإصلاح الديني، ومشروع قاسم أمين في تحرير المرأة، حيث وجدت تلك الأفكار تجسيدا لها على أرض الواقع وتحققت عمليا فيه. وبما أن أفكار وطروحات الدكتور حسن حنفي، وآخرين بطبيعة الحال، ظلت في جوهرها «معلقة في الهواء»؛ فإن من الأدق والأفضل أن نصفها بلفظة «خطاب» بدلا من «مشروع».

وفي كل الأحوال؛ فمن المعلوم أن ثمة اتجاهات أو تيارات ثلاثة عالجت إشكالية «الأصالة والمعاصرة»، أو «الإصلاح والتجديد»، في الفكر العربي الحديث والمعاصر منذ البدايات الأولى لما يسمى بعصر النهضة وحتى الآن، وأن تلك الاتجاهات، أو المواقف، أو الحلول الثلاثة، تتوزع ما بين موقفين متطرفين وثالث يغلب عليه طابع التوفيق بينهما، وإن اتهمه البعض بأنه عبارة عن موقف تلفيقي لا أكثر ولا أقل، مستدلين على ذلك بتهاوي مشروع الإصلاح في العالم العربي من ناحية، وبمراوحة الإشكالية مكانها لما يزيد عن قرن ونصف القرن من ناحية أخرى.

وبينما يهتم أصحاب الاتجاه الأول بالاكتفاء الذاتي من التراث وبالتراث؛ ينحو الطرف المقابل نحو الاكتفاء الذاتي بالتجديد (التحديث). أما أصحاب الاتجاه الثالث فيسعون إلى التوفيق ما بين التراث (الأصالة) من جهة، والتجديد (المعاصرة) من جهة أخرى. وبحسب حنفي، فإن أصحاب الاتجاه الأول مصابون بالنفاق، والعجز، والنرجسية، والاستلاب، أما أصحاب الاتجاه الثاني ممن يؤكدون أن التراث القديم لا قيمة له في ذاته، ولا يحتوي على أي عنصر للتقدم، فإنهم على حق من حيث المبدأ وعلى خطأ من حيث الواقع، كما أنهم مصابون بقصور النظرة العلمية، والازدواجية، والتقليد.

وأخيرا يقع أصحاب الاتجاه الثالث في التلفيق، وإن توزعت محاولاتهم على أشكال ثلاثة هي: التجديد من الخارج؛ أي انتقاء مذهب أوروبي حديث ثم قياس التراث عليه، والتجديد من الداخل؛ بمعنى إبراز أهم الجوانب الإيجابية والتقدمية في تراثنا القديم، ورؤية مشكلات العصر من خلالها، ومحاولة التوفيق بين التجديدين، أو الجمع ما بين الأصالة والمعاصرة.

* كاتب مصري