كاثوليك ألمانيا.. الحوار لمواجهة معاداة الإسلام

إميل أمين

TT

قبل أن يلملم عام 2010 أوراقه الهائجة المائجة بجدالات دينية مثيرة كثيرة، وبخاصة لجهة الحضور الإسلامي في أوروبا، كان رئيس مجلس أساقفة ألمانيا الكاثوليك المطران «روبرت زوليتش» يعرب عن اعتقاده بأن التعايش بين المسلمين والمسيحيين في البلاد بات مهددا في ظل التحذيرات الأخيرة من خطر الإرهاب.

ومما لا شك فيه أن رئيس الأساقفة زوليتش وهو يعبر عن الحضور القوي والنافذ للمؤسسة الكاثوليكية الألمانية كان يلمح من طرف خفي إلى ظاهرة الإسلاموفوبيا التي تنتشر في أوروبا وأميركا كالنار في الهشيم وربما أسرع، ولذلك كان يطالب المسيحيين وكل المواطنين الألمان حتى من غير المعتنقين لعقيدة دينية بالتفرقة بين الإرهابيين والمسلمين من شركائهم في المواطنة.

وكبادرة فعل سيادي إيجابي من قبله، أعلن رئيس أساقفة ألمانيا عزم الكنيسة الكاثوليكية وفي ظل هذه الظروف العمل على تعزيز الحوار مع المسلمين المقيمين في البلاد، مشيرا إلى أن كنيسته ترغب في الحوار مع الجماعات والمنظمات الإسلامية... هل من هدف واضح في ذهن رئيس أساقفة ألمانيا الكاثوليك من وراء بث الحياة في حلقات الحوار الإسلامي المسيحي هناك؟

يؤكد رئيس الأساقفة الألماني على أن هذا الحوار من شأنه أن يسهم في تبديد المخاوف المنتشرة والقضاء على التحيزات والتحفظات تجاه المسلمين، ويشدد كذلك على أن هذا الحوار من شأنه أيضا أن يؤدي مستقبلا إلى تعايش سلمي بين طوائف المجتمع الألماني كله.. لماذا تظهر تلك التصريحات وتتبدى هذه المواقف في هذا التوقيت المأزوم شكلا وموضوعا؟

المؤكد أن الحاجة إلى مثل هذه المواقف الحاسمة وبخاصة في ظل تنامي الحديث عن إشكالية أسلمة المجتمعات الأوروبية باتت حاجة ماسة، وهناك من يروجون لمخاوف بعينها من جراء تلك الأسلمة المزعومة، وأيضا في ضوء الطرح القائل بفشل نموذج التعددية الثقافية في ألمانيا والعهدة هنا على القائل، المستشارة الألمانية «أنجيلا ميركل».

قبل التصريحات الأخيرة كانت الكنيسة الكاثوليكية الألمانية حاضرة ولا شك، ومحللة - إن جاز التعبير - للحالة الدينية في ألمانيا أو بعض منها، فمسبقا أعرب رئيس الأساقفة زوليتش نفسه عن رصد مؤسسته الدينية لوجود مخاوف بين المواطنين في ألمانيا مما سماه «أسلمة المجتمع»، وقد أشار في صراحة ووضوح لصحيفة «مانهايمر مورغن» الألمانية الصادرة صباح السبت 18 ديسمبر (كانون الأول) المنصرم إلى أن المجتمع الألماني لم يتطبع حتى الآن بقيم الإسلام، مضيفا أن «المسيحية قوية بالقدر الكافي لصياغة ملامح مجتمعنا في ألمانيا الآن وفي المستقبل أيضا».

وقد اعتبرت أوساط كثير من المراقبين والمحللين للشأن الديني في أوروبا أن القصد من وراء تلك التصريحات هو بث شكل من أشكال الطمأنة في نفوس الألمان من المخاوف والهواجس التي سيطرت على البعض الذي قال إن أسلمة ألمانيا على الأبواب، وكمبادرة كاثوليكية ألمانية لمد الجسور مع مسلمي ألمانيا.

والثابت أن رئيس أساقفة ألمانيا قد أكد وبكل إيجابية أن المسلمين جزء من ألمانيا وأنه إذا كانت هناك مخاوف في مدينة مانهايم جنوب غربي ألمانيا حيث المسجد الكبير بجانب كنيسة «ليبفراونكيرشه»، فإن «هنا أيضا يمكن أن يرى المرء كيف يمكن أن ينجح الحوار» في إشارة إلى إبراشيته في الشمال.

والشاهد أن دعوة الحوار وتفعيله بين كاثوليك ألمانيا ومسلميها باتت حاجة «واجبة الوجود» كما يقول الفلاسفة، وقد طرح البعض علامة استفهام حول الإسلام هناك وهل يملك تجذرا تاريخيا كما الكاثوليكية والإنجيلية، التيارين المذهبيين المسيحيين الغالبين، أم لا؟ وهل إذا كان الإسلام غير متساوٍ معهما حتى الآن فهل يعتبر هذا تمييزا ضده من عدمه؟

في رأي المعلق الألماني «بيتر شتوتسله» أن الدستور الألماني يعطي كافة الجماعات الدينية حقوقا تستطيع من خلالها ترتيب «جسم من الحق العام»، والشرط المطلوب لذلك يتمثل في وضع هيكلية تنظيمية مع عضوية واضحة ومسؤولين محددين.

هذا الحديث عززه مؤخرا الرئيس الألماني «كريستيان فولف» في كلمته بمناسبة إحياء الذكرى العشرين لتوحيد شطري ألمانيا في الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي بقوله «إن الإسلام صار جزءا من ألمانيا».

وعليه بحسب «شتوتسله» أنه إذا كانت مثل هذه الهيكلية غريبة عن الإسلام والأمة الإسلامية، أي جماعة المؤمنين بالإسلام كدين وعقيدة، التي لا تعرف لوائح الأعضاء والتراتبية في المسؤوليات فيها، ولا حتى المسيحية تعرف كديانة هذا الأمر، وإنما الكنائس المسيحية كتنظيمات بشرية مستحدثة لاحقا على الفكر الديني.

وإذا ما رغبت جماعات المسلمين في ألمانيا تشكيل هياكل تتوافق مع متطلبات الحق الكنسي - الحكوم فبإمكانها هي أيضا الحصول على وضع الحق العام. أما مسألة انسجام هذه الهياكل «التنظيمات» مع فهم المسلمين لدينهم فهذا أمر يتوجب على المسلمين في ألمانيا تقريره بأنفسهم.

والثابت أن هذه الرؤية ترسخ لفكرة الاندماج في المجتمع الألماني، وهي فكرة باتت مهددة اليوم في عمقها، فرغم إقرار المستشارة الألمانية ميركل بأن «الإسلام يبقى جزءا لا يتجزأ من ألمانيا»، فإنها مؤخرا كانت تقر أمام مؤتمر لشباب التحالف المسيحي الديمقراطي بمدينة بوتسدام بفشل مبدأ «التعددية الثقافية»، وهي إشارة واضحة لا تخطئها العين، لجهة مسلمي ألمانيا، العنصر الأحدث في التركيبة الاجتماعية والديموغرافية الألمانية، وأكملتها بدعوتها للمهاجرين المقيمين في ألمانيا بتعلم اللغة الألمانية واحترام قوانين البلاد.

هذه التصريحات لم تكن لتمر سريعة أمام بقية الرأي العام الأوروبي وحتى الأميركي، فقد وصفت صحيفة «الإندبندنت» البريطانية المستشارة الألمانية بالضعيفة التي تحاول أن تذكي نار الخوف من الأجانب بينما تكافح من أجل بقائها السياسي.

على أنه للموضوعية يتحتم هنا الإشارة إلى إشكالية حقيقية في المقاربات الذهنية العربية الإسلامية ونظيرتها الغربية دون ترجيح أو مفاضلة من قبلنا لإحداها في مواجهة الأخرى، ذلك أن البعض يرى أن المخاوف باتت تنتاب الشعوب الأوروبية بشأن حريات التعبير، وما جرى في العالم الإسلامي ردا على الرسومات الكاريكاتيرية أطلق حالة من الهلع في أوروبا تجاه الحريات المكفولة عبر الدساتير والتي مكنت أدباء وفناني وكتاب أوروبا وبخاصة في عصر النهضة من توجيه النقد للكنيسة وحتى للمسيحية كمعتقد ديني، وهو أمر قبلت به المؤسسات الكنسية المسيحية الأوروبية ولم تبد أي معارضة للانتهاكات اليومية التي تحصل للمقدسات الدينية ولرموز المسيحية، وعليه فإن مشاركة ميركل في تكريم صاحب الرسوم الكاريكاتيرية الدنماركية لا يتعارض أو يتنازع مع انتقاداتها لمواقف زاراتسين العنصرية، ومن قبلها إدانتها للقس الأميركي تيري جونز الذي هدد بحرق القرآن، معتبرة دعوته تلك «عملا منفرا»، فالرسوم الكاريكاتورية مجالها «حرية التعبير» والقضاء هنا قائم للمعترض أو المحتج، وهي بذلك تختلف منهجيا عن الفعلين السابقين وتكشف عن تناقض المقاربات المختلفة لمفهوم الحرية وحدودها على حد تعبير الباحث الألماني من أصل لبناني البروفيسور رالف غضبان.

هل جاءت دعوة الكنيسة الكاثوليكية الألمانية تحمل قبسا من ضوء في ليل دوغمائي تزداد عتمته ويمينيته تطرفا وإغراقا في الظلام؟

حكما هو كذلك، سيما أن أحدث استطلاعات الرأي الأوروبية تذهب إلى القول بأن هناك كما هائلا من التحفظات تجاه المسلمين، وليس الشك وعدم الارتياح فقط بل والاستياء الكبير، وعدم الفهم المجرد حتما تنشأ عنه وبكل تأكيد مساحة فارغة من إسقاطات من كل نوع، ولا يتبقى عندئذ سوى حيز ضيق أمام نشوء الصورة العدائية، ولذلك نحن بحاجة إلى الحوار كثقل موازن لمواجهة فقدان الثقة المتنامية والمعادية للإسلام في أوروبا.