كيف نواجه مسألة الأقليات الدينية في ديارنا؟

رضوان السيد

TT

ذهب الرئيس الفرنسي ساركوزي في تصريح له خلال اجتماعه السنوي بزعماء الطوائف الدينية في فرنسا، إلى أن المسيحيين بالشرق الأوسط، يواجهون ما يشبه أن يكون تطهيرا دينيا، يتراوح في تحقيقه بين القتل والتهجير! وما وصل بابا روما إلى هذا الحد في ردود فعله على أحداث العراق ومصر ضد الأقباط، والكلدان والسريان؛ لكنه دعا السلطات في البلدين إلى حماية مواطنيهم المسيحيين من الأخطار الكبيرة التي تتهددهم. وما قاله الرئيس الفرنسي أكثر دلالة، لأن فرنسا دولة علمانية متطرفة في ذلك فيما تزعم. لكنها كانت أول من بادر إلى اشتراع القوانين ضد الحجاب والنقاب؛ بل وأكثر من ذلك، إذ ذهب قانون أخير إلى جواز إسقاط الجنسية لمن حصل عليها منذ أقل من عشر سنوات إذا مارس عنفا ضد السلطات العامة، أو ارتكب جريمة! ولا أحد تنطبق عليه هذه المواصفات غير المسلمين! ويتفرع هذا كله على سلوك لساركوزي منذ التسعينات من القرن الماضي في مواجهة المسلمين الفرنسيين من أصول مغاربية، وبخاصة بعد أن صار وزيرا للداخلية - ووصل هذا السلوك إلى ذروته في حملته الرئاسية عندما طرح موضوع الهوية الوطنية الفرنسية ماهية وشروطا ومواصفات؛ وبذلك تجاوز التمييز ضد المسلمين من جانب اليمين الفرنسي المتطرف، ويمين الحزب الديغولي من السلوك إلى الفكر والفلسفة والثقافة والنزعة الوطنية. وكانت جماعة ساركوزي يقولون دائما إنهم إنما يريدون من وراء هذا الانكماش عن المسلمين، سحب الريح من أشرعة اليمين الفرنسي المتطرف (= لوبان وابنته) بهذه الطريقة. ومع ذلك فإن الاتهام بالتطهير الديني، هو دعوى ما وصلت إليها ابنة لوبان نفسها، في اتهاماتها الأخيرة ضد الإسلام.

لقد أردت من هذا الاستطراد الابتدائي، التنبيه إلى الحدود التي وصلت إليها «الإسلاموفوبيا» في الغرب، والتي ما عادت قاصرة على اليمين الفرنسي الساركوزي وغيره؛ بل وصلت إلى سائر الدول الأوروبية، بما في ذلك أعضاء المجتمع السياسي من المتطرفين والمعتدلين على حد سواء. ومع مقولات ساركوزي والبابا نجد أن محاولات محاصرة الإسلام، تجاوزت المسلمين في أوروبا، إلى الإسلام في مجتمعاته الأصلية، وإن من طريق الأقليات المسيحية فيه، وما تتعرض له. ولمن لا يذكر (وأنا من هؤلاء)؛ فإن المقولات نفسها قيلت عن العرب والمسلمين عندما بدأ تهجير اليهود من المجتمعات العربية بالمشرق والمغرب بعد العام 1948. ووقتها كان ذلك تكتيكا للإلهاء عن الملف الرئيسي، وهو تهجير العرب مسلمين ومسيحيين من فلسطين والاستيلاء عليها. أما اليوم، فلا يمكن أن يكون تهجيرنا نحن المسلمين هو الهدف؛ بل المقصود أمران آخران: تبرير خلق كيانات خاصة دينية وإثنية وطائفية ومذهبية وبحماية ومساعدة النظام الدولي، وابتزاز الأنظمة القائمة لكي تزداد استجابتها لمطالبهم، في شتى المجالات. وها نحن نشهد الآن قيام كيان خاص بأفارقة جنوب السودان، يجري الإيهام من الجماعات التبشيرية أنه يشكل استقلالا بالهوية المسيحية (البروتستانتية) عن العرب المسلمين؛ رغم أن المسلمين في جنوب السودان وبين سكانه هم أكثر عددا من المسيحيين بما يقارب الضعف! وقد سمعنا حديث مسعود البارزاني عن حق تقرير المصير للأكراد، رغم أن رئيس العراق الموحد ووزير خارجيته هما كرديان! ولا تزال مشكلة الصحراء الغربية مشتعلة، وقد عاد الحديث عن الهوية الوطنية الصحراوية (نعم: الصحراوية!). وهذا فضلا عن الخصام الحاد والوعي الحاد لدى بعض الطوائف الشيعية في اليمن وبعض دول الخليج. ولا يزال بعض البصريين بالعراق يسعون للفيدرالية، رغم الأكثرية الشيعية بالعراق كله! إن هذا كله لا يعني أن المسيحيين على اختلاف طوائفهم، لا يعانون من مشكلات وضغوط في العالم العربي. وهذه الضغوط والاعتداءات بدأت في حالة العراق بعد الغزو الأميركي عام 2003. وما كان لها مبرر من أي نوع وقتها، ولا لها أي مسوغ الآن: إذ كيف سيتضرر الأميركيون أو المالكي أو الإيرانيون أو الإسرائيليون.. إلخ إذا هجر مسيحيو العراق؟! بل الأحرى أن يستفيد الأميركيون والإسرائيليون من عدم الأمن والأمان، في دولة العراق الوطنية، فيبررون بذلك السعي لمزيد من التقسيم للعراق، بحجة إيجاد كيانات تأمن فيها الأقليات من شتى الأنواع في التقسيمات الجديدة. والأمر مع مصر أولى وأبلغ. فهي مجتمع عريق ودولة عريقة وعيش عريق. والمشكلات بين المسيحيين والمسلمين (على المستوى الشعبي) بدأت أو تفاقمت منذ أكثر من عقدين، وقبل صعود التنظيمات الإسلامية المتطرفة، والتي حاولت أحيانا ابتزاز الحكم المصري من طريق التعرض للسياح الأجانب وللمسيحيين. وفي حالات كهذه، بالعراق كما بمصر، يكون المشكل سياسيا أو له أبعاد سياسية، وليس عرضا استثنائيا أمنيا. فالمتغيرات العالمية متسارعة، والعولمة تفكك وحدات عريقة في أوروبا فضلا عن آسيا وأفريقيا، ومن طريق وسائل الاتصال، وتنمية الخصوصيات، وتقلبات الأسواق، التي تقلب الوعي، وتغذي أوهاما وأحقادا في الوقت نفسه. وأزعم بالنظر إلى ذلك أن المسلمين تغيروا، كما أن المسيحيين تغيروا. فهناك ميل إلى الانعزال والانكماش لدى المسيحيين، وآخر إلى التمدد والاستيلاء لدى متطرفي المسلمين. وقد شهدت ذلك بلبنان ليس في الحرب الأهلية فقط؛ بل وبعدها أيضا. فأنا من قرية فيها مسلمون ومسيحيون، والمسيحيون هم الأكثرية. ومع ذلك فإن هناك تربصا وتخوفا لدى كل طرف من الآخر، وبعد أكثر من عقدين على انتهاء النزاع الداخلي.

وإذا تجاوزنا الظروف الجديدة التي اصطنعتها العولمة، والتي بمقتضاها هناك ميل لدى الأجيال الشابة للهجرة بسبب فرص العمل الأفضل، والآمال الأكبر، فإننا نعود لنجد أن الكرة في ملعب المسلمين أنظمة ومجتمعات. ذلك أن الأكثريات منهم، والأنظمة السياسية السائدة منسوبة إليهم. وبسبب الظروف «السائدة» أيضا؛ فإن جزءا كبيرا من التوجسات والمخاوف لدى المسيحيين (وأحيانا لدى غير المسيحيين) لا تتصل بالعولمة، كما لا تتصل بوساوس من الإسلام أو من العرب. والدليل على ذلك أن أكثر المسيحيين الشبان إنما يهاجرون للعمل إلى دول الخليج، لتوافر فرص العمل فيها. المسألة إذن في المدى المتوسط بأيدي الأنظمة والمجتمعات فيما يتصل بحكم القانون، وبالشفافية، وبالاستقرار، وبالتنمية المستدامة، وبالحريات الدينية والسياسية. ففي هذا الزمان، لا يمكن في المجتمعات المتعددة البيئات الدينية والثقافية والاجتماعية، أن تحفظ الوحدات الوطنية إلا بهذه الشروط أو العوامل. وهي شروط ليست على النظام أو الأمة أو المجتمع؛ وإنما هي شروط من أجل استمرار هذه الوحدات وتجددها وتطورها واستمرارها. ولو تأملنا الوضع في لبنان لقويت لدينا اعتبارات ضرورة المبادرة الوطنية في المسائل السالفة الذكر. فعندما نشأ الكيان اللبناني راعى مؤسسوه اعتبارات التعددية الطائفية، على اعتبارات وحدة الدولة أو اندماجيتها. وقد أفضى ذلك في زمن الاندماجية الشعبوية والجماهيرية إلى حدوث نزاعات وحروب أهلية لتجاوز «النظام الطائفي» كما سمي آنذاك. وبالفعل فقد راعى دستور الطائف (1989) مسألة فتح النظام على التغيير، مع الإبقاء على الأساسات الطائفية. وكانت النتيجة أن الطائف ما نفذ شيء من بنوده الانفتاحية؛ ومع ذلك فإن المسيحيين يشعرون بالتأزم، ويشكو زعماؤهم من كثافة الهجرة في صفوف شبابهم. وبذلك؛ فإن لبنان يحتاج إلى الأخذ بانفتاحات الطائف، رغم أن هذا الأمر غير كاف، ومشروط بحصول حل عادل للقضية الفلسطينية.

ومن لبنان وأزمته، نعود إلى أطروحة ساركوزي عن التطهير الديني. لقد تعرض المسيحيون والمسلمون أو العرب جميعا لضغوط لا تطاق بسبب قيام الدولة الصهيونية وسط ديارهم على أرض فلسطين. فالدولة الدينية أو الطائفية تحدث أمورا تخريبية مفجعة، والشاهد ما كان من الكيان الصهيوني. ولذا فإن الراحة الحقيقية للمسيحيين العرب، ليس في الكيانات الشوهاء مثل الكيان الإسرائيلي؛ بل في دعم الوحدة والتجدد والمواطنة في الدول القائمة، وإيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية.

نعم، هناك عوامل إقليمية ودولية، تدفع باتجاه التوتر والتوتير بين المسلمين والمسيحيين؛ لكن الأمر لا يزال بأيدينا إذا توافر لنا الوعي والإرادة في تطوير دول موحدة للمشاركة والمواطنة، أيا تكن أديان المواطنين وثقافاتهم.