إشكالية المنهج في فكر حسن حنفي

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

في سياق دعوته للعودة إلى التراث والاستقلال عن الثقافة الغربية نحى حسن حنفي إلى تأكيد ضرورة اتباع خط مستقل لما سماه بالثقافة الشرقية، ولكن عن طريق اقتباس مناهج غربية، بحيث أننا كلما ازددنا إمعانا في هذا اللون من الاستقلال ازددنا في الوقت نفسه تأكيداً على اعتمادنا على الغرب نفسه! ولعل ذلك هو ما دفع فؤاد زكريا لأن يصف دعوة حنفي هذه بأنها: ليست إلا تطبيقا لمناهج غربية بحتة على المجال الديني والفكري في بلادنا. مستطردا أننا إذا كنا نعترف بقيمة هذه الدراسات بوصفها نموذجا يساعدنا على التحرير من كثير من العناصر الخرافية في تفكيرنا، فلا ينبغي أن ننكر أننا بإتباعنا هذا الطريق إنما نزيد من تغلغل القيم الثقافية الغربية في تراثنا. وعبر تقويمه البرنامج الذي أعده حنفي لتراثنا القديم يخلص زكريا إلى القول: إن ذلك البرنامج دليل قاطع ـ بحد ذاته ـ على تغلغل القيم الثقافية الغربية في تفكيرنا.

وفي الواقع، لا يكتفي زكريا بذلك فحسب، وإنما يقتبس مما كتبه حنفي مقولة يُبطلُ بها أساسَ دعوته للعودة إلى التراث القديم، ويُثبتُ له فيها أنها تُصبح غير ذات موضوع بالمرة طالما أنها تعتمدُ على تطبيق المذاهب الغربية المختلفة على بلادنا، لأن من شان هذه المذاهب الرفض الكامل للماضي ولكل ما أودع من ثقة للموروث قائلاً: وأودُ أن أختم هذا الجزء من مثالي باقتباس مستعد من مقال الدكتور حسن حنفي يشرح فيه أهمية وفائدة دراسة المذاهب المختلفة بالنسبة إلى مجتمعاتنا، يقول حنفي: «تعطي المذاهب قوة رفض رهيبة للماضي بكل ثقله، وللموروث بكل الثقة الموضوعة فيه، (مؤكدة) بأن الماضي مهما بلغ من صدقه فإن الواقع سيتخطاه لا محالة، وبأن التقدم يفرض نفسه». ثم يعقب زكريا بالقول: «إن هذا كلام رائع ولو أصبح هو معيار نظرتنا الى الأمور لكان معناه أن تصبح الدعوة الواردة في المقال الذي اقتبست منه هذه الكلمات غير ذات موضوع».

الغريب في الأمر، أن الإشادة بملاحظات فؤاد زكريا، رغم ما تمتاز به من موضوعية وألمعية، لا تتم إلا في سياق «الشماتة» من قبل الإسلاميين! فضلا عن أنها تعبر عن منطق مغلوط يغلب على أطروحاتهم، ألا وهو العمل بمبدأ «وشهد شاهد من أهلها» والذي يتم توظيفه باستمرار، سواء في سياق تأكيد أهمية الحضارة الإسلامية حين يجترون أقوالا وشهادات إيجابية لغربيين بشأنها، أو في سياق نقدهم الاستشراق من منظرو ديني محض، أو في أية سياقات أخرى على الإطلاق!! ولو أنهم أضافوا إلى أوجه النقد هذه أسبابا «موضوعية» أخرى، لحققوا بذلك تقدما على مستوى ثراء الفكر، أما أن يكتفون بإبراز أوجه النقد وتقديمها مشفوعة بضرب من الشماتة بحق الشخص المنتقد، فذلك ما لا يقدم ولا يؤخر في شيء! فمن المعلوم أنه غلب على مشاريع رواد التجديد والإصلاح، طوال عصر النهضة العربية ابتداء من جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده بصفة خاصة، تصورين رئيسين مترابطين:

أولهما: إرجاع أسس التقدم والتطور العلمي الذي أحرزه الغرب إلى أصول إسلامية، باعتبار أن الغرب قد استمد جذور نهضته وحضارته من الإسلام، ومن تراث العرب.

ثانيهما: التأكيد ـ وبموازاة ما سبق ـ على أن الإسلام الصحيح لا يناقض إطلاقا المدنية الحديثة، بل ينسجم في جوهره انسجاما كاملا معها، اما ممارسة الإسلام اليوم كما تتبدى في سلوكيات المسلمين فتلك مسألة أخرى، إذ لا تعبر عن حقيقة الإسلام الصحيح وجوهره في شيء!! وإنما هي ناتجة عن تخلف المسلمين وبقائهم لفترات طويلة ضحايا الجهل والاستبداد.

ونتيجة لذلك، حاول الأفغاني إثبات أن «جوهر الإسلام وهو جوهر العقلانية الحديثة ذاتها» حيث نظر إلى الإسلام نظرة فلسفية غير لاهوتية، موحدا ما بين الفلسفة الحديثة والنبوة، معتبرا أن الغاية من أعمال الإنسان ليست خدمة الله فحسب، بل خلق مدينة إنسانية مزدهرة في كل نواحيها. على حين تمثلت الإشكالية عند محمد عبده في محاولته الإجابة على التساؤل التالي: كيف السبيل إلى التوفيق بين ما ينبغي للمجتمع الإسلامي ان يكون عليه وبين ما بات عليه في الواقع؟

وقد أكد الأستاذ الإمام أن الجواب الوحيد على هذا التساؤل يكمن في الاعتراف بالحاجة إلى التغيير وربط هذا التغيير بمبادئ الإسلام، وذلك بإثبات أن هذا التغيير الحاصل ليس مما يجيره الإسلام فحسب، بل إنما هو من مستلزماته الضرورية إذا ما فهم على حقيقته، وإن الإسلام يمكنه أن يشكل في الوقت نفسه المبدأ الصالح للتغير والرقابة السليمة عليه في آن معا.

ونتيجة لذلك، تم توظيف فكرة «التقدم» في اتجاه معاكس تماما لوظيفتها الحقيقية في المشروع الثقافي الغربي المتجه نحو المستقبل، وذلك عبر التأكيد الملح بأن الغرب أحرز التقدم لسبب واحد وهو أنه أخذ أسس أو أسباب هذا التقدم منا أو من عندنا! وبالتالي إذا كنا نرغب في إحراز تقدم جاد وحقيقي فإنه يتعين علينا ـ والحالة هذه ـ أن نعود إلى الأصول، ومن هنا يحمل التقدم معنى جديدا ألا وهو الاتجاه نحو الماضي، وليس المستقبل!! ومن هنا كان محمد عابد الجابري على حق تماما حين أكد في كتابه «الخطاب العربي المعاصر» ملامح وحدة الموقفين الرئيسين الذين سبق وأن أشرنا إليهما ـ الموقف «الهووي» والموقف «التحديثي» ـ وذلك لجهة وحدة منطلقاتهما وغاياتهما باعتبارهما ينطبعان باللاتاريخية ورسوخ «النموذج ـ السلف» والنهج القياسي «قياس الغائب على الشاهد»، سواء كان الأصل التاريخي الذي يُقاس عليه هو الماضي العربي الإسلامي أم الحاضر الغربي «المسيحي».

وبحسب حنفي في قراءته لمسيرة النهضة، فإنه سرعان ما ظهر حسن البنا امتدادا للحركة السلفية وعمدت حركته «الإخوان المسلمون» في عهدها الاول إلى تنشيط المنهج الإصلاحي وإحياء حماس الأفغاني ونشاطه ونظرته الشمولية وعدائه للاستعمار والتخلف. وبموازة ذلك، تشكل الاتجاه الليبرالي العربي بارتباط وثيق مع الإسلام لدى الطهطاوي الذي حاول اكتشاف المبادئ الليبرالية في التراث الإسلامي وعمل على إرساء قاعدة حديقة للدولة العربية وللشخصية الوطنية على أساس إسلام متجدد مستنير. لكن سرعان ما انتكس هذا الاتجاه ـ هو الآخر ـ لدى الجيل الثاني من الليبراليين كلطفي السيد وطه حسين وعباس العقاد.

ومن ثم ينتهي حنفي من خلال استعراضه مسار المشروع النهضوي إلى أنه قد انتهى إلى التفكك والانحسار، مما نتج عنه تمزق الأمة إلى تيار أصولي معاد لكل قيم التنوير والحداثة باسم الدفاع عن هوية الأمة وتراثها، وتيار تغريبي يتخذ من الغرب أنموذجا وحيدا دون إقامة اعتبار لمميزات الأمة وخصائصها وعمق حضور تراثها. وقد ترتب على تلك النتيجة انتهاء حنفي إلى القول بأن تجاوز تلك الوضعية الخطيرة مرهون بإعادة بناء المشروع الإصلاحي برمته، وتحجيم الغرب وإرساء نهج التعامل معه، وتلك مهمة ما سماه بـ «اليسار الإسلامي».

ومن هنا، جاء توزع مشروعه «التراث والتجديد» في مواقف ثلاثة: الموقف من التراث القديم، والموقف من التراث الغربي، وأخيرا الموقف من الواقع. وفي كل الأحوال، لقد ظل مشروع حنفي ـ خاصة بالنسبة للموقف من الواقع ـ محكوما بهاجس إعادة تأسيس إشكالية النهضة من جديد، وفقا لمقتضيات ما بعد هزيمة 1967 على نحو ما سنفصل لاحقا.

* كاتب مصري