المسألة الدينية في القرن الواحد والعشرين

إميل أمين

TT

على أعتاب العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين يجد العالم ذاته أمام التساؤل الذي طرحه في ستينات القرن المنصرم أديب فرنسا الكبير أندريه مالرو: هل سيكون القرن الحادي والعشرون قرنا دينيا أم لا؟

والثابت حتى الساعة أنه ليس قرنا مصطبغا بصبغة دينية فقط بل يمكن القول إنه قرن زوال الآيديولوجيات وتجلي الدوغمائيات في سماوات الحياة العامة والسياسية منها على نحو خاص.

ولعل أفضل من كتب أخيرا من أبناء العرب في هذه المسألة يأتي باحتراف المفكر اللبناني الكبير الدكتور جورج قرم عبر كتابه البديع الذي يحمل اسم هذا المقال.. لماذا الحديث عن المسألة الدينية؟ يقول المؤلف: إنه في هذا الزمن الرديء الذي نعيش فيه، حيث انتشرت كالوباء القاتل النظريات السخيفة حول عودة الظواهر الدينية إلى التسلط على كل جوانب الحياة السياسية والاجتماعية، فإن التحليل الجديد الذي أقدمه إلى القارئ يسعى إلى توضيح ما يحصل في عالمنا العربي والمجتمعات الإسلامية الأخرى، وكذلك في العالم الغربي – ونحن في حالة صدام متجدد معه.

وبما إنني أعتقد – يضيف المؤلف - أن التطورات في منطقة ما، وبشكل خاص منطقتنا العربية والشرق أوسطية، لا يمكن أن تحلل بمعزل عما يجري من تطورات في مناطق أخرى من العالم، فإن هذه الصفحات ستقدم للقارئ العربي محاولة لربط الأحداث الجسيمة التي نعيشها بأحداث أخرى لا تقل أهمية وخطورة حصلت في المجتمعات الدينية الغربية في القرون السابقة، في ظروف تاريخية قد تشبه الظروف التي نعيشها نحن الآن.

يلفت المؤلف إلى أن أهم ما ينقصنا بشكل مفجع في ثقافتنا العربية الحديثة هو هذه النظرة الأكثر شمولية واتساعا إلى ما نعانيه أيضا من قلة تماسك مجتمعاتنا القطرية العربية داخل كل قطر أولا وكذلك بين الأنظمة القطرية العربية من جهة أخرى، وهذه الظاهرة تعظم من حالة الوهن أمام جبروت الدول الغربية وتحالفها مع الكيان الصهيوني وأطماعها في خيرات الأمة ورغبتها في السيطرة علينا بشكل استعماري فج ومتأجج.

ويؤكد الدكتور جورج قرم على أن الهوية العربية أصبحت تائهة وضائقة منذ وقوع الأقاليم العربية تحت حكم السلطنة العثمانية في القبضة الاستعمارية للدول الكبرى الأوروبية، وبعد ذلك إثر نيل الاستقلال وحصول الانقسامات الحادة بين الأنظمة العربية العتيدة التي تشرذمت بين الولاء للاتحاد السوفياتي والولاء للولايات المتحدة وتجددت هذه الحالة اليوم في ضياع كامل حيث الأنواع المختلفة من الهويات القلقة والمتأججة التي تؤدي في كثير من الأحيان إلى أعمال عنف إرهابية الطابع داخل مجتمعاتنا العربية، تعرضنا جميعا للهلاك ولمزيد من الحروب الأهلية وتحكم قوى خارجية بمصير الأقطار العربية.

يركز المؤلف في هذا الكتاب على إشكالية الاستخدام السافر للدين عند الغرب في سياساته الخارجية – بخاصة تجاه منطقتنا - ويحلل لادعاءات الغرب بأن التعصب الإسلامي هو العامل الرئيسي في حالات النزاع والتوتر أو الاستيطان والغزوات والحروب، بينما في حقيقة الأمر الدول الغربية هي المسؤولة عنها إلى حد بعيد، بما لها من تقاليد تاريخية في توظيف الدين في السياسة وإلباس مطامعها الاستعمارية الدنيوية رداء من الآيديولوجية الدينية الحادة.

يجمل المؤلف هدفه من الكتاب بأنه دعوة إلى إحياء تراث فلسفة الأنوار الأوروبية من جهة والنهضة العربية الأولى من جهة ثانية، ذلك لأنه يعتقد أن اللغة النهضوية العربية هذه ولغة الأنوار ومبادئ الثورتين الأميركية والفرنسية هي الوحيدة التي يمكن أن نتحاور من خلالها مع الفكر الغربي بدلا من اللغة السطحية المتعلقة بصدام أو حوار الحضارات. فهذه اللغة الأخيرة ليست إلا ملهاة لتحويل الأنظار عن قضايانا الوضعية الدنيوية في الجوهر والتي تسبب الأوضاع المتفجرة التي نحن فيها وتسيطر على نمط علاقتنا اللامتكافئة مع الدول الغربية العائدة إلى أهوائها الاستعمارية السابقة بغطاء التنظير حول ظاهرة عودة الدين والصراع المحتم بين الحضارات.

من هذا المنظار يدعو المؤلف إلى ما يسميه «تحالفا جمهوريا عالميا» بمعنى تحالف كل من يؤمن في الشرق والغرب بقيم الإنسانوية العالمية التي لا تتناقض مع مبادئ التوحيد الديني التي نتمسك بها ولا تتناقض كذلك مع مبادئ تحرير الشعوب من كل أنواع الظلم والقمع على يد شعوب أخرى، كما ترفض استغلال حاجة الإنسان إلى الدين، وهي حاجة سرمدية أبدية في الصراع على السلطة داخل كل مجتمع، أو فيما بين المجتمعات، والدعوة هذه لا تعني القضاء على الأنظمة الملكية بل تشير إلى مبادئ مساواة البشر في أنظمة سياسية عادة أكانت ملكية أم جمهورية الطابع، وضمن مجتمع دولي يطبق هذه المبادئ الجمهورية من دون معايير مزدوجة، ومن دون تطويع منظمة الأمم المتحدة واستخدامها في مشاريع الهيمنة والقمع التي تقودها الولايات المتحدة كزعيمة لحضارة يهودية – مسيحية تواجه حضارة عربية إسلامية.

والشاهد أن من أهم ما يشير إليه الدكتور قرم في كتابه هو تبيان سخافة الأفكار والرؤى التي تحملها القيادات السياسية الغربية ومدى الضرر الذي تلحقه بنا بشكل خاص.

هنا نراه يقول فلنترك القيادات السياسية والأعمال الأكاديمية الغربية المنخرطة فيها، أما نحن فعلينا أن نعيد بناء منظومة ثقافية كأساس لنهضة عربية ثانية مستقلة عما يأتينا من الغرب من دفق إعلامي وأكاديمي متواصل أصبحنا مسجونين فيه. وعلينا أن ندخل في مراجعة نقدية صارمة لممارساتنا الثقافية والإعلامية التي صارت تشبه إلى حد بعيد ما يصدره إلينا الغرب من أدبيات مفخخة حول عودة الديني وحرب الحضارات والقيم اليهودية المسيسة في مقابل قيم عربية إسلامية، فهذا شأنهم وهذا ما يفسره اليوم تاريخ أوروبا المعقد للغاية، كما أوضحه في فصول عدة من كتابه.

أما شأننا كمثقفين وأكاديميين ورجال إعلام عرب فهو إعادة النظرة النقدية في تاريخنا المعقد أيضا بكل ما يتوافر لنا اليوم من أساليب علم المقاربات التاريخية بين تطورنا الحديث والمشوه وتطور المجتمعات الأخرى، وبشكل خاص الشعوب التي استطاعت الإفلات من الهيمنة الغربية، بينما نحن لا نزال نتخبط في دنيا الفشل والبقاء تحت هيمنة خارجية أكثر شراسة من أي وقت مضى في تاريخنا المعاصر، وحالة انقسام فيما بيننا حكاما وشعوبا وطوائف ومذاهب وهي الحالة التي تؤبد المسار الانحطاطي وسيطرة الآخرين علينا.

والمقطوع به أن الإنتلجنسيا العربية من المحيط إلى الخليج تجد نفسها محصورة في مواجهة علامة استفهام جبرية إن جاز التعبير الفلسفي هنا: «كيف يمكن الخلاص من ربقة السيطرة بل ربما يمكننا القول من السيطرة والسطوة الذهنية الدينية على مقدراتنا الدنيوية في عالمنا المعاصر شرقا وغربا، عربا وعجما؟

يجيب المؤلف على هذا التساؤل بالقول: إن عودة الهدوء إلى المناخ الدولي أمر ليس سهلا أو سريعا، فمذهب المحافظين الجدد – أولئك الذين خلطوا السياسة بالدين - ليس من عمل جورج بوش وفريقه فحسب بل هو آيديولوجيا تنتشر في العالم منذ عدة عقود تغذيها باستمرار وسائل الإعلام والمثقفون المشهورون، غير أن فئات عدة من الرأي العام تقاوم هذا النفوذ في العالم الغربي، كما في مناطق أخرى من العالم، فضلا عن الحركة المعادية للعولمة، وهنا يمكن التذكير بالمظاهرات الكبرى في أوروبا أو في الولايات المتحدة الأميركية ضد حرب العراق وبموقف البابا يوحنا بولس الثاني الذي وقف هو أيضا بقوة ضد هذه الحرب وموقف الأساقفة الإنجليكانيين الذين دعوا في سبتمبر (أيلول) 2005 إلى تقديم الاعتذارات عن غزو العراق وتزايد عدد المواطنين الأوروبيين أو الأميركيين الذين يدافعون بحيوية عن حق الفلسطينيين، حتى لو كان الثمن حياتهم، وأيضا تداول مقالات كثيرة جدا ودراسات ووثائق شتى من خلال الشبكات الناشطة على الإنترنت، تستنكر الرؤية التبسيطية للعالم التي تضخمها معظم وسائل الإعلام الكبرى، وهي تقدم غالبا معلومات دقيقة لا نجدها في هذه الأخيرة حتى أن فيها هذيانات تغذيها موضوعيا نظريات التآمر المتنوعة، وعليه إذا لا يمكن القول إن أفق التغيير مغلق تماما لكن لا ريب في أن القضاء على النزعة الآيديولوجية الشديدة الوطأة التي نعيشها والعودة إلى الديكورات العلمانية في تدبير سياقات العالم سيتطلب كثيرا من الوقت ومن الجهود.

هل آن الأوان إذا لفتح فضاءات تهوية للخروج من الأنموذج النمطي التوراتي القديم الديني أو المعلمن ومن الأنموذج اليوناني الذي أثار إعجابا كبيرا أو من الإشكاليات العميقة التي طرحها نيتشه وهيدجر وليو شتراوس؟

مما لا شك فيه أن هذه النماذج العميقة للحداثة وللحداثة المضادة ساهمت في اصطناع مشاريع القوة الأشد جنونا من دون أن تتمكن من حل أقل التناقضات بين التقليديين المحافظين والتقدميين، وهي المسؤولة عن إطلاق عنف شبه دائم منذ زمن الحروب الدينية.

يرى الدكتور قرم أن العولمة الاقتصادية اليوم توشك على تفكيك أسس البيئة الاجتماعية - الاقتصادية لمليارات الفلاحين في العالم، خصوصا في آسيا وأفريقيا وتضع على المشرحة مجددا الاستقرار الاجتماعي - الاقتصادي للبلدان الأوروبية الأكثر تقدما، فالخرافات الأصولية والسلفية والعدمية تجد في هذه السياقات تربة خصبة لذيوع المخاوف المتعلقة بإمكان حصول كوارث تنذر بنهاية البشرية وطي مخاوف كانت وراء أعمال العنف الرهيبة في القرون الغابرة المدعوة على هذا النحو إلى تكرارها في أيامنا، ويؤكد بما لا يقبل الشك على أن انبعاث شتى أنواع الإرهاب والتلاعب الجيوبوليتكي والآيديولوجي الطابع التي كانت موضوعا لها لا تشكل سوى أحد أنواع التعبير عن هذا السياق من التفكيك العام الذي يشجع أيضا التوسع الذي لا يقاوم للقوة الأميركية وحماسة منظريها المشجعين لتوسع نظام القوة الخاصة للولايات المتحدة الأميركية على نحو خاص.

الخلاصة الثمينة لهذا الكتاب المهم للغاية في هذا التوقيت وفي المكتبة العربية على نحو خاص هو أن العالم ليس أوروبا وأميركا فقط، إذ يقول المؤلف، وخير القول قول العارفين: لا يمكن الاستمرار بتجاهل البرازيل والهند والصين والمكسيك وسواها من البلدان الكثيرة، ولا يجوز أن يبقى مصير فلسطين هذه المأساة الدائمة، ولا بد من جلاء المحتلين الأميركيين والبريطانيين عن العراق، وإذا لزم إتمام لائحة أماكن الذاكرة فمن الملح وضع اللائحة التي تتعلق بالآلام التي تسبب فيها الاستعمار والرق وحروب تصفية الاستعمار.

ومن البين أن هذا كله يضع مجددا على المشرحة تطور العالم المقلق وهذا بالطبع لن يحصل في القريب العاجل ما دمنا أمام اتجاه تاريخي ثقيل الوطأة لا يلوح في الأفق ما يمكن أن يتغلب عليه ومع ذلك يجب على الأقل أن نحدد بدقة آلام العالم والوجه الآخر للديكورات التي تحيط بها.

ويمكن القول إن الكتاب يخلص إلى أن العمل على تغيير الوضع الراهن للعالم يفترض الخروج من القضايا الفكرية كما هي مطروحة اليوم ومن النماذج الفلسفية الكبرى، مذهب المحافظين الجدد الظافر الذي يلبس ويشرعن الاحتلالات الاجتماعية والثقافية الناجمة عن الأزمة المتعدد الشكل التي تصيب المجتمعات التوحيدية بنوع خاص.

هل لنا من العمل على استيعاء «من وعي» الرهانات الدنيوية والوضعية من أجل الخروج من الحلقة الإمبريالية الفكرية والأحادية القطبية المفرغة؟ فقط بهذا الاستيعاء يمكننا أن نجابه في آن معا العولمة الاقتصادية المدمرة التي تدعي أطروحة حرب الحضارات بتبريرها والإرهاب الذي يرجع صداها.

* كاتب مصري