المسلمون بين مطالب الاندماج وسياسات التنفير

رضوان السيد

TT

كانت المستشارة الألمانية ميركل قد صرحت قبل أشهر أن سياسات التعددية والاندماج في ألمانيا قد فشلت مع المسلمين. ثم قال رئيس الوزراء البريطاني المحافظ كاميرون الشيء نفسه بالنظر إلى ملف المسلمين في بريطانيا العظمى(!). لكنه أضاف لذلك أنه لا بد، رغم فشل التعددية والاندماج، من متابعة سياسات ليبرالية أقوى وأوسع مدى. والقارئ لأول وهلة يحسب أن معنى كلام كاميرون أنه رغم الإخفاق سيتابع سياسات التعددية، والإصغاء للخصوصيات الثقافية؛ أما الواقع فهو أن الليبرالية التي يقصدها تعني المزيد من الضغط على المسلمين لإلغاء خصوصياتهم، الدينية والثقافية، والمزيد من التشدد في سياسات الهجرة والإقامة والتجنيس؛ باعتبار أن السياسات (الليبرالية) السابقة ما أفادت في تهدئة المسلمين وزيادة انفتاحهم، ودفعهم للاندماج في المجتمع البريطاني، وفي العلمانية/ الإنجيلية البريطانية! والواقع أن الأصول الإثنية والتاريخية للمسلمين في كل من ألمانيا وبريطانيا مختلفة. فقد جاء معظم المليوني مسلم ببريطانيا من شبه القارة الهندية، وهي من المستعمرات البريطانية السابقة. وما تنبه المسؤولون البريطانيون إلى تأثيرات سياساتهم العنترية بالشرق الأوسط على المسلمين هناك إلا بعد العمليات العنيفة التي جرت في القطارات عام 2005 من جانب شبان مسلمين من أصول هندية وباكستانية، من الجيل الثالث. فقد كانت بريطانيا الطرف الثاني بعد الولايات المتحدة في غزو العراق. وقد دافع رئيس الوزراء العمالي السابق بحرارة عن سياسات بوش ضد العراق، وشهد للإدارة الأميركية بأن معلوماتها عن أسلحة الدمار الشامل التي ينتجها العراق صحيحة. ووقف ضد البريطانيين المتظاهرين بعشرات الألوف في مواجهة الغزو. ورغم ثبوت زيف الدعاوى البوشية والبليرية، فقبل شهور عاد بلير (الذي يعمل منذ مدة وسيطا في القضية الفلسطينية!) إلى الدفاع عن سياساته السابقة بشأن الغزو، وهذه المرة بحجة أنه أراد إسقاط صدام حسين من أجل الديمقراطية! وعلى أي حال؛ فإنه بعد دراسات وبحوث أجراها البريطانيون، تبين لهم أن هناك «صحوة» إسلامية بالفعل بين مسلمي بريطانيا، وأن الشبان من بينهم يتأثرون كثيرا وبشكل سلبي ينقلب عنفا للسياسات التي تتبعها بريطانيا بالعراق وتجاه المشكلة الفلسطينية. وهكذا تشكلت عدة هيئات مشتركة لإعادة النظر في سياسات الحكومة وإجراءاتها عبر العقود الماضية تجاه المسلمين. واقترحت اللجان المختلفة مجموعة من الإجراءات لإشاعة أجواء من العناية والاهتمام بين المسلمين، بيد أن أكثر هذه الإجراءات ما لقيت استجابة من جانب المسؤولين الحكوميين؛ بل الذي حصل أن القوانين تشددت كثيرا ضد المهاجرين، وضد تسهيلات الإقامة، وضد إعطاء الجنسية بالشروط التقليدية. وقد خسر حزب العمال البريطاني الانتخابات قبل عام، وصوتت أكثرية بين المسلمين ضده. وحل محله في السلطة تحالف من المحافظين وديمقراطيي الوسط، واستبشر المسلمون والأقليات الأخرى خيرا بهذا التغيير. لكن الحكومة الجديدة، وقد مضى عليها في السلطة أكثر من عام، ما فعلت شيئا؛ بل الأحرى القول إن الوضع بالنسبة للمسلمين (وبخاصة الشباب) ازداد سوءا. وقد قال لي بعض وجهاء المسلمين هناك قبل شهر إنهم ظنوا أن الحكومة مشغولة بآثار الأزمة المالية التي حدثت في خريف عام 2008، وأن المسؤولين يخشون من الإنفاق الاجتماعي، ولا يزالون منهمكين في إجراءات التقشف. لكن منذ عدة أسابيع، عادت التصريحات السلبية تجاه المسلمين، رغم عدم حدوث شيء عنيف، ولا أحداث بارزة. ولذلك فهم مستغربون إلى أقصى حد من سلبية الحكومة الجديدة ومسؤوليها، وبخاصة أنها تراجعت عن بعض الإيجابيات الضعيفة التي قدمتها الحكومتان السابقتان.

أما ألمانيا التي لم تكن عندها مستعمرات معتبرة؛ فإن المسلمين (ومعظمهم من الأتراك) أتوا إليها بعد الحرب الثانية، وإبان «المعجزة الاقتصادية» التي احتاجت ألمانيا خلالها إلى أعداد كبيرة من العمال والفنيين. وما جرت أحداث عنف بارزة بألمانيا من جانب شبان المسلمين قبل أو بعد أحداث عام 2001. لكن رغم «هدوء» المسلمين؛ فإن المسائل الرمزية والشكلية، مثل الحجاب واللحية ومدارس تحفيظ القرآن، لعبت لدى المسؤولين الألمان والمثقفين أدوارا بارزة. فالمعروف أن المسلمين الأتراك محافظون أصلا، وليس بعد صعود حركات الصحوة، ونساؤهم يلبسن غطاء الرأس. ويأتون بالأئمة للصلاة والتعليم من تركيا منذ جيلين. وهكذا فإن المسلمين تغيروا، لكن الألمان تغيروا أكثر. فمع أن عدد المسلمين هناك يبلغ نحو الخمسة ملايين؛ يقول استطلاع قبل شهرين إن 60% من الألمان لا يعرفون مسلما واحدا، وإن نسبة 35% منهم تظن أن المسلمين عنيفون، أو أن الإسلام يرتبط في أذهانهم بالعنف والتمييز ضد المرأة! وقبل نحو العام صدر كتاب بالألمانية لرجل اسمه تساراتسين، يعمل في الإدارة العليا للبنك الألماني، يذهب فيه إلى أن المسلمين «متواضعو» المواهب العقلية، وهذا سبب لانتشار الأصولية في أوساطهم، وستتأثر مواهب الألماني في الجيل القادم بكثرة الأجانب الآسيويين والأفارقة في صفوفهم. وباع الكتاب مئات الآلاف من النسخ، مما دفع إدارة البنك إلى إنهاء خدمات المؤلف، وشن اليساريون حملة ضده، وكذلك رجالات الكنائس. وتدخل رئيس الدولة الألماني متحدثا عن حقوق المواطنة، وعن أن الإسلام دين حضاري كبير. وكان بذلك يعلق ليس على كتاب تساراتسين وحسب؛ بل وعلى مقتل امرأة مصرية تحمل الجنسية الألمانية وتعمل صيدلانية، على يد مهاجر روسي في حديقة عامة، لأسباب عنصرية. والطريف أن الرد على رئيس ألمانيا ما جاء من أحد أقل من ميركل، المستشارة الألمانية، التي ذهبت كما سبق القول إلى أن سياسات الاندماج فشلت، ولا بد من المزيد من الضغط على المسلمين(!).

هناك بالفعل صحوة دينية بين المسلمين في الغرب، وليس منذ سنوات قليلة؛ بل منذ أكثر من عقدين. بيد أنها ليست صحوة مسيسة أو متطرفة. ويتأثر شباب المسلمين المولودين بالغرب، والذين يعرفون لغاته وعاداته، بسياسات الدول الأوروبية تجاه بلدانهم الأصلية. والمعروف أنه بعد أحداث عام 2001، ظهر تحالف غربي – شاركت فيه أيضا روسيا والصين والهند - ضد الأصولية الإسلامية المتطرفة. وفي سياق الحرب العالمية على الإرهاب، جرى غزو دولتين إسلاميتين وتخريبهما، ومحاصرة أكثر أنحاء العالم الإسلامي. وفي سياق ردود الفعل العنيفة، كانت هناك أحداث عنف قام بها شبان مسلمون في أنحاء مختلفة من أوروبا أهمها إسبانيا وبريطانيا. وكانوا بذلك من وجهة نظرهم يردون على ما حصل ويحصل بفلسطين والعراق. وعندما توقفت أحداث العنف من الطرفين، باستثناء أفغانستان، كان المسلمون بأوروبا قد ازدادوا انكماشا على أنفسهم وتحفزا، وازدادوا اهتماما بالخصوصيات الدينية والثقافية، والإصرار عليها. أما المسؤولون الأوروبيون، الذين تأثروا بالشعبويات العنصرية؛ فقد ازداد ضغطهم على المسلمين حتى في مساجدهم وملابسهم وسلوكياتهم المثيرة. فالعدوانيات التي أنتجتها الحرب على الإرهاب لدى الطرفين، زادت من النفور وسوء الفهم والتخوفات على الضفتين. وظهر ذاك الركام من الأفكار والانطباعات من صراع الحضارات، والحضارة اليهودية - المسيحية، وإلى تخلف المسلمين وعدوانيتهم وتأبيهم على الحضارة والتقدم والعلمانية المستنيرة. وكانت القيادة في ذلك للفرنسيين والبلجيك، ثم نافسهم الهولنديون والسويسريون والألمان والبريطانيون.

والوقت مبكر الآن للنظر هل تؤثر التطورات التي بدأت في تونس ومصر في تغيير الرؤية السلبية للمسلمين والإسلام لدى العامة الأوروبية. فهناك جماهير واسعة تخرج إلى الشارع ليس للاحتجاج على عدوانية الغرب، ولا على غزو الديار؛ بل من أجل المشاركة وفرص العمل، وتحسين الخدمات، وتحقيق الحريات الأساسية. وحتى الآن لا يزال الأوروبيون متخوفين من سيطرة الأصوليات في البلدان المضطربة؛ في حين يشجع الأميركيون تلك التحركات. والذي أظنه أن المسلمين في أوروبا مع الوقت سوف يهتمون أيضا أكثر بالاندماج والمشاركة والتأثير في مجتمعات أوروبا، بدلا من التقوقع، والاهتمام أكثر بالرمزيات. إنما كما سبق؛ فإن الحاضر حتى الآن في المشهد كلام ميركل، وكلام كاميرون، عن استعصاء المسلمين على الاندماج، وميلهم إلى الأصولية والتقوقع.