إشكالية النهضة وتحولاتها في التراث والتجديد

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

جاء توزع مشروعه «التراث والتجديد» في مواقف ثلاثة: الموقف من التراث القديم، والموقف من التراث الغربي، وأخيرا الموقف من الواقع. وفي كل الأحوال؛ لقد ظل مشروع حنفي - خاصة بالنسبة للموقف من الواقع - محكوما بهاجس إعادة تأسيس إشكالية النهضة من جديد، وفقا لمقتضيات ما بعد هزيمة 1967.

ولكن المشروع، شأنه شأن أي نتاج فكري، شابته مجموعة من مواطن الضعف في هذا التصور النضالي للفكر العربي أغلبها يتعلق بمنطق المعالجة والمنهج الذي اعتمد عليه حنفي، يأتي في مقدمتها:

أولا: أنه يقوم على التحديدية المباشرة واعتبار الثقافة مجرد انعكاس للصراع الطبقي الاجتماعي؛ أي أنه يغيب استقلالية الفضاء الثقافي، ويعجز بالتالي عن استكشاف رهاناته وصراعاته الخاصة به.

ثانيا: غلبة النزعة البراغماتية التي تندمج فيها التأويلية السبينوزية بنظريات الاغتراب الفيورباخية - الماركسية، والتي أفضت إلى القفز على تاريخية المعارف والمفاهيم واضطرت للتضحية بالدقة العلمية من أجل النجاعة النضالية.

ثالثا: أن صاحب المشروع ظل حبيس الأطروحات التنويرية الأكثر عرضة للجدل والنقد في الفكر المعاصر، وذلك بتأسيسه المنهج الذي يقترحه على فلسفات الوعي في نسختها الظاهراتية والهيغلية - الماركسية، دونما انتباه إلى إشكالات النظرية والابستمولوجية التي تطرحها تلك الفلسفات. أي دون تنبه أو إغفال للآفاق المسدودة التي لا بد أن تفضي إليها العقلانية الأنوارية بتصورها الأداتي المبسط، وتاريخانيتها الغائية، وقيمها النضالية التي غالبا ما تخفي القمع والإقصاء.

رابعا: على الرغم من تميز قراءة حنفي لجدل الأنا والآخر بصفة خاصة، وعمله من أجل إمكانية تحويل الآخر إلى «موضوع للعلم» بدلا من أن يكون «مصدرا للعلم»؛ فإنها تعاني من التضخم في تقدير دور القارئ على حساب المقروء، على النحو الذي يدنو بها من حدود الإسقاط فكل قراءة تبدأ بمعرفة شيء ما، معرفة ما يحتاجه القارئ أولا، ماذا يريد أن يقرأه في النص، وماذا يريد النص أن يقول له، فالقارئ هو الذي يقرأ النص، وهو الذي يعطيه دلالته.

خامسا: إن العائق الذي تنطوي عليه قراءة حنفي – والذي فرضته طبيعة أدواته المنهجية - يتجلى بشكل أوضح في تبني استراتيجية التحول بالأبنية التراثية من دلالاتها القديمة إلى دلالات أكثر توافقا مع العصر، بحيث تنكشف في الشعور، ومن دون تفكيك لتلك الدلالات القديمة نفسها وذلك بردها إلى السياق المعرفي والتاريخي الذي أنتجها فبدا وكأنه (التجاور) بين دلالتين، أو أنه القفز من دلالة (أقدم) إلى أخرى (أحدث) دون تأسيس لأي منهما في جملة السياقات التي أنتجتهما، بل في مجرد الشعور المنتج للدلالة. ولسوء الحظ فإن ذلك هو الثابت الغالب على مشروع «حنفي» للآن، والذي يتكشف – تبعا لذلك - عن حس نبوئي لا تاريخي. ولعل ذلك هو مأزق مشروع «التراث والتجديد»، على الرغم من طموحه الفذ واتساعه غير المسبوق.

سادسا: مع التسليم بصحة ما يقوله حنفي من أن العقائد تحولت لدى الأمة في العصور الأخيرة إلى مجرد عواطف إيمانية معزولة عن العمل الواقعي وعن سلوك الأفراد وعما ينبغي أن يكون عليه أثر هذه العقائد في واقع الحياة والمعاملات؛ إلا أن هذا الفصل إنما ترتب على ظروف تاريخية ومتغيرات كثيرة أكثر مما ترتب على قيام المتكلمين القدماء بفصل الأصول من الفروع أو تسمية العلم بأصول الدين كما يزعم حنفي، والذي - بحسب البعض - ينظر إلى التراث باعتباره معوقا للتقدم أكثر من كونه أداة للتحديث. فحنفي يحمل التراث أزمة الإنسان والتاريخ، وأزمة الحرية والديمقراطية، ويحمله الكثير من نكبات الحاضر، ومشكلاته، وهذا ما يشكل موقفا سلبيا له من التراث، وذلك على الرغم من تكراره الدائم بأن التراث مخزون نفسي عند الجماهير يمكن استغلاله في تحقيق التنمية.

أضف إلى ذلك أيضا؛ أن محاولته لإعادة بناء علم أصول الدين على نحو يتجاوز الأشعرية قد جابهت نفس المعضلة التي سبق وأن جابهت محاولة القاضي عبد الجبار التي احتفظت في بنائها للعلم بالشكل المستقر في النسق الأشعري، واكتفت بصب المضمون الاعتزالي فيه. فكذلك حافظت محاولة حنفي بدورها على الشكل المستقر ذاته، واجتهدت في تثويره بمضمون يناسب العصر.

سابعا: هناك منطق مثالي ذاتي يتحكم بيقينية الوحي الإسلامي، الممنوح للدكتور حنفي، يجعل من هذا الوحي مجردا من وجوده الموضوعي، والحقائق التي تظهر مسلمات يقينية للظواهري (الذي يأخذ بظاهر النص، وليس أيمن الظواهري!)، هي حقائق محايثة للوعي، أي لا وجود لها خارج هذا الوعي!! وبالتالي يكاد حنفي في كتاباته يخلخل مفهوم العقل ويجعله أقرب إلى الشعور أو البديهة مما يفقد العقل عقلانيته ويجعله مجرد أداة استخلاصية شكلية يستمد قيمته ومصداقيته من الشعور والبديهة.

ثامنا: ليس ثمة علم بالمعنى المنهجي الدقيق، أو إطار نظري محكم ومنطق حضاري دقيق، وليس ثمة تأسيس لقواعد أو لمنهج يمكن أن نطلق عليه الاستغراب، كما دعا إلى ذلك حنفي في كتابه «مقدمة في علم الاستغراب» والتي تبدو بحسب البعض أقرب إلى التبشير والدعوة التعبوية منها إلى العلم. أما تطبيقه على الفكر الفلسفي الغربي، فهو مجرد عرض وصفي غير نقدي لا يختلف في الجوهر عن مختلف الدراسات الأخرى العربية والغربية لتاريخ الفلسفة الغربية. وإن افتقد الدقة العلمية، لا فيما يصدره من أحكام فحسب، وإنما كذلك في انعدام استناده إلى مراجع فيما يسوقه من عرض للمذاهب الفلسفية المختلفة إلا فيما ندر، بل تكاد تقتصر مراجع هذا الكتاب على كتبه هو نفسه.

تاسعا: يبدو في تأكيد حنفي أن مرحلتنا الراهنة/ سبعمائتنا الثالثة، التي تستلزم تجديد التراث، لا تتأتى فقط في إطار تطور مسار الأنا، بل تتأتى أيضا وأساسا في إطار اضمحلال الآخر، وبناء على فقدانه العرش أو المركز، تبدو كما لو كانت طوبى وردية يانعة، ترفرف فيها أحلام الأنا وسائر آماله القومية. فهل الواقع حقا هكذا؟! أيشهد صعود الأنا وأفول الآخر؟!... إنه اتجاه عام في الفكر العربي، يسرف في تعليق الآمال على أفول الحضارة الغربية، يسير فيه حنفي إلى آخر المدى، مكرسا لمنطق الصراع الحضاري والحروب الثقافية التي ما فتئ الغرب يشهرها في وجهنا منذ أن كانت نبوءة القضاء على الإسلام تراودهم حتى نهاية القرن الثالث عشر ورددها روجر بيكون وصولا إلى الجولة التسعينية المعاصرة والشرسة.

عاشرا وأخيرا: اقتصار حنفي في رؤية أفول الحضارة الأوروبية على متابعته لحظة إشبنجلر، وفوكو، ودريدا، والمعروف أن هؤلاء جميعا هم الذين تنبأوا بموت الحضارة الغربية، وتجاهله لكثيرين من الفلاسفة الغربيين ممن سلكوا مسلكا آخر يؤكد على أن الحضارة الغربية ما زالت تؤدي دورها ولم تنطفئ وستظل مؤثرة؛ تعد أكبر دليل على الانتقائية الحنفية التي لا تأخذ بعين الاعتبار أن تلك الانتقادات التي يوجهها خيرة من فلاسفة أوروبا لمسيرة حضارتهم تعد في ذاتها مركز قوة للحضارة الغربية أكثر من كونها دليلا على ضعفها وخمولها.

ويبقى القول؛ إنه بغض النظر عن تلك الانتقادات التي وجهها البعض لمشروع «التراث والتجديد»، يبقى حسن حنفي أحد أهم المفكرين المعاصرين الذين يعيدون إلى الأذهان، بشمولية رؤاهم وضخامة إنتاجهم، سيرة فلاسفة الإسلام الأوائل الذين ملأوا الدنيا كتابة وعلما، وأثارت آراؤهم جدالات لا تنتهي أثرت بدورها مسيرة الحضارة الإسلامية خاصة، والإنسانية بصفة عامة.

صحيح أن أغلب الانتقادات التي وجهت لمشروع «التراث والتجديد» انصبت على نقد منهج حنفي الذي تعامل من خلاله مع التراث، وهذا أمر ليس بالهين، فإذا كان المنهج هو الآلة التي يشرح بها المحلل جسد النص، ظاهره وباطنه، فإن تلك الآلة هي جماع عدد من المفاهيم والتصورات التي تنبئ بدورها عن فهم عميق للظاهرة محل الدراسة أو عدم فهمها.

وبالتالي تكمن إشكالية المنهج عند حنفي – وعند غيره بطبيعة الحال كمحمد عابد الجابري - في أنه يلجأ غالبا إلى اتباع سبيل «التوفيقية الزائفة» التي تلوي عنق النصوص بغية تطويعه لفكرة ما قد تكون في جوهرها بعيدة كل البعد عنها، لكن ذلك لا يمنع من القول إن حنفي من أبرز المفكرين العرب الذين مارسوا الاجتهاد والتحديث بغزارة بالغة، انطلاقا من إيمانه الشخصي بأن المثقف هو صمام الأمان في تفكيك وتغيير آليات التفكير، وهو الضمانة الحقيقية لانطلاقتنا نحو الأمام.

* كاتب مصري