انتخاب رئيس جديد يتبنى توجهات ليبرالية وعصرية لجامعة ديوبند الإسلامية

يمثل تحولا لدى الأجيال في العديد من النواحي بالهند

جانب من أحد اجتماعات المسلمين في الهند
TT

حظيت جامعة دار العلوم (ديوبند)، الصرح الإسلامي الرائد في الأوساط الإسلامية السنية السائدة في شبة القارة الهندية، بأول رئيس لها يتبنى توجهات ليبرالية وعصرية، حاصل على درجة الماجستير في إدارة الأعمال وله نشاط واضح على شبكة التواصل الاجتماعي «فيس بوك».

وتحظى جامعة ديوبند الإسلامية التي تأسست في مدينة ديوبند بولاية أوتار براديش - نحو 150 كيلومترا شمال العاصمة دلهي - عام 1866 باحترام واسع في عموم الهند إلى جانب المناطق الأخرى شبه القارة الهندية. ونتيجة لازدياد الاهتمام الذي يحظى به الإسلام في الغرب في أعقاب هجمات 11/9 برزت جامعة ديوبند كمركز عالمي رئيسي في الشأن الإسلامي في الهند. وكانت فتوى الجامعة التي تدين الإرهاب في فبراير (شباط) عام 2008 من أوائل الفتاوى في هذا الخصوص بالعالم الإسلامي. لا يحظى الشيخ غلام محمد وسطانوي، رئيس الجامعة بشهرة واسعة خارج العالم الإسلامي. ناضل رئيس الجامعة ابن ولاية غوغارات الذي يعيش أوائل عقده السابع من عمره، ما يجعله أصغر من سلفه عشرين عاما، باستمرار لتوفير التعليم التقني وتشكيل مسارات مهنية ودرجات مرتبطة بالعلوم الطبية والهندسة والإدارة إلى جانب العلوم الدينية.

تم انتخاب وسطانوي كرئيس للجامعة في يناير (كانون الثاني) الماضي في أعقاب وفاة العميد السابق مولانا مرغوب الرحمن الذي شغل المنصب طيلة 30 عاما. وينظر إلى ترؤس وسطانوي جامعة دار العلوم على أنه عامل تغيير متوقع في الجامعة المحافظة ويمثل تحولا في الأجيال في العديد من النواحي.

جاء التحول الأول تجاه التغيير مقترنا بعملية إصلاح إصدار الفتاوى، فقد شهدت السنوات الأخيرة تصدر الجامعة عناوين الأخبار بفتاواها المثيرة للجدل مثل منع ارتداء السراويل الجينز للنساء وعدم الحديث إلى زملائهم من الذكور.

وقد أكد الشيخ وسطانوي أن المبررات للفتاوى ستقرن بالفتوى التي تصدر عن الجامعة منعا لسوء الفهم بين الأفراد وسوء تفسيرها في وسائل الإعلام.

وقال الشيخ وسطانوي في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «لفهم الفتوى يجب على الفرد فهم عملية الإفتاء، فرد المفتي على سؤال سائله أو سائلته يسمى فتوى، وهي رد قائم على الشريعة لسؤال الفرد، وليست شيئا يمكن تعميمه. لكن الفتاوى كان يساء تفسيرها في بعض الأحيان. وهو أمر ينبغي علينا العمل على تلافيه. فجامعة دار العلوم ديوبند مؤسسة قديمة تعود إلى قرون ولن تصدر فتوى تضر بالمجتمع»، وأكد وسطانوي على أنه سيناقش مع المسؤولين الآخرين في جامعة دار العلوم العلاقات بين الجامعة ووسائل الإعلام التي ستذيع هذه الفتاوى.

وعندما سئل عن كيفية انتقال الفتاوى إلى وسائل الإعلام، قال وسطانوي: «نحن نعيش الآن عصر الإنترنت وهناك في بعض الأحيان من يقومون بنشر الفتاوى بصورة مباشرة، ومن ثم فعندما تصدر الفتوى على الإنترنت يكون من السهل انتشارها».

حصل مولانا وسطانوي على درجة العالمية والماجستير في الشريعة الإسلامية إلى جانب نيله درجة الماجستير في إدارة الأعمال. وكان يسعى بقوة إلى تطوير وتحديث الجامعة عبر إدخال التخصصات المهنية والتقدمية للشباب القادم من المدارس الدينية. ويقول مؤيدو الشيخ إن مولانا غلام محمد وسطانوي له صفحة على «فيس بوك».

أنشئت جامعة ديوبند عام 1857، عندما قمعت شركة الهند الشرقية البريطانية حركة التحرر التي بدأت بقيام قوات الهند الشمالية بعد آخر أباطرة المغول بهادور شاه ظفار الذي عزل في العام التالي ونفي إلى بورما (ميانمار حاليا) وأعدم عدد كبير من أبنائه. كانت تلك لحظة فارقة بالنسبة للوعي الإسلامي الهندي خاصة بالنسبة لصفوة الجالية الإسلامية في شمال الهند التي كانت ترى هزيمة 1857 نهاية لسيادتها السياسية وبداية ما يمكن اعتباره فترة سوء في تاريخ المسلمين في الهند.

في هذا الإطار، قامت مجموعة من رجال الدين المتعلمين بتأسيس جامعة دار العلوم للحفاظ على الثقافة الإسلامية الهندية وتعليم الشباب المعرفة الإسلامية. وضع حجر أساس الجامعة في 21 مايو (أيار) 1866، أسفل شجرة رمان، وزعم أحد مؤسسي الجامعة أنه استلهم فكرة الجامعة من رؤيا رأى النبي صلى الله عليه وسلم يأمره فيها ببنائها. وقد تركزت فلسفة ديوبند التربوية مذ إنشائها على تدريس العلوم الإسلامية، المعروفة باسم المنقولات، لأبناء شبه القارة الهندية المسلمين التي يغلب عليها المذهب الحنفي. وتقوم الجامعة بتدريس المواد باللغة الأردية، لغة الطائفة الحضرية في المنطقة وتكملها بدراسة العربية (لأسباب دينية) والفارسية (لأسباب ثقافية وأدبية)، وقد قرر مؤسسو الجامعة فصلها عن المشاركة في الشؤون السياسية أو الحكومية، وكانت بدلا من ذلك تعتبر مؤسسة مستقلة تحظى بحكم ذاتي مدعوم من التبرعات المالية الخيرية من مسلمي الهند والدول الأخرى. ويعتمد المنهج الدراسي في الأساس على دراسة الشريعة الإسلامية والحديث، إلى جانب العديد من مجالات الدراسات الإسلامية الأخرى.

هناك العديد المدارس الإسلامية في الهند وبنغلاديش وباكستان وأخيرا جدا في أفغانستان والمملكة المتحدة وجنوب أفريقيا، إضافة إلى المئات من الأماكن الأخرى عبر العالم التي تتبع الجامعة أو ترتبط بها من فكريا. وتشتهر الجامعة في العالم بأنها كانت بوتقة ضمت عددا كبيرا من علماء الدين الإسلامي النابهين وقضاة الشريعة الإسلامية المعروفين على مستوى العالم الإسلامي، كما اشتهرت أيضا بكونها مركزا لنشر كتب دور النشر. وتحوي المناطق المجاورة لديوبند عددا كبيرا من رفات ومقابر شخصيات بارزة في التاريخ الإسلامي لشبه القارة الهندية.

ولد الشيخ وسطانوي في منطقة قبلية متخلفة اقتصاديا من ولاية غوغارات الهندية. وقد اشتهر بإقامته شبكة واسعة من المدارس الدينية في غرب الهند. ونظرا لأن الشيخ وسطانوي عضو في مجلس وقف مهاراشترا ومجلس قانون الأحوال الشخصية لمسلمي الهند، فقد أصدر العديد من الدوريات (بالعربية والأوردية والغوغاراتية)، كما يرأس العديد من المدارس الدينية ويدير العديد من المؤسسات الخيرية. وقد أوكلت إليه مهمة إدخال العديد من المناهج الدراسية الحديثة في مجال الطب والهندسة والصيدلة والتعليم بغض النظر عن البرامج الدراسية قصيرة المدى الأخرى في جامعة أكالكوا في ولاية مهاراشترا في غرب الهند. ومع تبوئه واحدا من أرفع المناصب الدينية، قال وسطانوي لـ«الشرق الأوسط»: «إنها لفرصة عظيمة بالنسبة لي أن أعمل مع أكثر المؤسسات الإسلامية تبجيلا».

بيد أنه خلال أسبوع من تعيينه رئيسا لجامعة دار العلوم الإسلامية، ديوبند، واجه الشيخ وسطانوي أصوات معارضة من العاملين في الجامعة. فيزعم عضو المجلس التنفيذي لجامعة ديوبند ورئيس جمعية نجار باليكا، حسيب أحمد صديقي في بيانه أن ديوبند بحاجة إلى رئيس يعمل طوال الوقت ويعتمد على التعاليم الدينية، وقال: «نحن لا نشكك في مؤهلاته التعليمية والمؤهلات الأخرى، لكن ذلك كان تقليد جامعة ديوبند من التركيز على التعاليم الدينية؛ فوسطانوي ليس خريج جامعة ديوبند». لكن علماء آخرين مثل الدكتور أختار الواسطي مدير الدراسات الإسلامية في جامعة ميليا في نيو دلهي، فيرحبون بتعيين وسطانوي لأنه «رجل تقدمي ومستنير، ولذا فإن المعارضة الأكبر التي تواجهه ستكون بشأن خطابه الذي يمتدح فيه رئيس وزراء ولاية غوغارات ناريندر سنغ مودي الذي يواجه مزاعم باتهامه بإثارة أعمال الشغب بين الهندوس والمسلمين في عام 2002 والتي خلفت ما يزيد على 2000 قتيل غالبيتهم من المسلمين». كما أوضح رئيس الجامعة أن على مسلمي ولاية غوغارات التحرك قدما وألا يدعموا أعمال العنف التي تمت عام 2002 وتؤثر على تلك المسيرة، وأكد على أنه لا يوجد تمييز في التنمية في الولاية. كان ثناء رئيس جامعة دار العلوم ديوبند على رئيس وزراء ولاية غوغارات ناريندرا مودي قد أغضب قادة المجتمع المسلم ومفكريه.

وقال الشيخ خالد رشيد إمام مسجد «إشباغ إدغاه» في لوكناو: «تصريحاته غير مسؤولة إلى حد بعيد، فمودي هو الذي أشرف على أكبر مذبحة عرقية ترويعا في الهند إلى حد أن الولايات المتحدة رفضت منحه تأشيرة دخول أراضيها. والعلمانيون الهندوس لا يزالون يناضلون من أجل تحقيق العدالة للضحايا. لقد حط هيبة الجامعة».

أما كمال فاروقي رئيس مفوضية الأقليات السابق وعضو مجلس قانون الأحوال الشخصية لعموم مسلمي الهند، فقال إن «وظيفة وسطانوي تتمثل في إصدار الفتاوى الدينية لا أن يبيض صفحة هندوسي ما من علماني هندوسي يكن له أي نوع من الاحترام».

ويؤكد الشيخ سيد أحمد بخاري إمام مسجد جاما في دلهي أنه سيبحث إمكانية مواجهته مع عدد من العلماء الآخرين ما لم يعتذر سريعا.

كان الشخص الوحيد الذي دعم وسطانوي، ظفار الإسلام، رئيس تحرير صحيفة «ديلي ميلي غازيت» الصادرة باللغة الإنجليزية والرئيس السابق لجمعية «مسلم مشهاراوات»: «إن مودي عام 2002 ومودي الوقت الراهن على خلاف تام. نحن لا نتوقع منه أن يعتذر عما حدث في عام 2002، ولن ننسى أنه قام بتعيين مسلم في منصب قائد الشرطة في الولاية وهو مكسب كبير بالنسبة لنا، فقد جعل من المسلمين شركاء في التقدم، كما أنه لم ينطق بكلمة مهينة ضد المسلمين، ومن ثم فلا يوجد داع لكل ردة الفعل هذه تجاه وسطانوي».

أما الشيخ محمود داري آبادي، الأمين العام لمجلس «ملي عموم الهند»، في مومباي فقال: «إن دار العلوم ديوبند جامعة إسلامية ودينية ولم تتدخل يوما في السياسة. وتصريحات الشيخ وسطانوي لا مبرر لها، وإصداره مثل هذه التصريحات ينتقص من مكانته». لكن على الرغم من المعارضة، فإن رئيس الجامعة لا يزال مصرا على طلبه بالسعي إلى مزيد من الاعتدال.

وقال وسطانوي: «المسلمون يقومون بأعمال تجارية هنا، ويلتحقون بالفصول الدراسية. ولم تشهد السنوات الثماني الأخيرة أي حالة عنف، فهم يعيشون في أمن في غوغارات. والآن أخبرني يا بني ماذا ينبغي لي أن أقول؟ أينبغي لي أن أقول إن المسلمين يتعرضون للاضطهاد؟ وإن المسلمين يتعرضون لأعمال عنف وترتكب في حقهم أعمال شنيعة؟ إذا قلت ذلك سيطلب مني مودي إظهار القهر الذي يتعرض له المسلمون، وحينئذ كم من المسلمين سيقف خلفي يؤيدونني في موقفي».

وأضاف عندما سئل عن الأسباب التي دفعته إلى هذا التصريح: «لماذا ينبغي لي خلق حالة من الجدل بالقول إن كل شيء خاطئ في الولاية وإن الولاية لم تقدم شيئا للمسلمين؟». وبشأن أعمال العنف التي شهدتها غوغارات، أعاد وسطانوي التأكيد على وجهة نظره بالقول: «أعمال العنف التي اندلعت عام 2002 كانت خطأ، لقد تسببت في سمعة سيئة للولاية والدولة، لكن ما الذي ينبغي علينا القيام به الآن؟ هل ينبغي لنا الجلوس والبكاء، أم إن علينا التحرك إلى الأمام؟ لكن ذلك لا يعني أن يفلت المجرم بجرمه من دون عقاب. لا بد من معاقبة الجناة المتورطين في أعمال الشغب هذه وأن تصل العدالة إلى الضحايا».

وأشار إلى أنه طالب أيضا بالإفراج عن الشباب المسلم البريء الذين زج بهم في السجون ظلما في قضايا إرهاب، لكن ذلك لم يلق استجابة أيضا، فهناك المئات من المسلمين يعانون في سجون غوغارات لتوقيفهم على خلفية قضايا فساد.