الأزهر مفجر الثورات في الماضي.. هل ضرب الوهن مشيخته؟!

جدل بين علماء الدين حول مواقفه من أحداث الثورة المصرية

الأزهر لم يكن غائبا عن «ثورة 25 يناير» الشعبية المصرية.. بل كان مساندا لها وليس للنظام
TT

أثارت مواقف الأزهر من أحداث الثورة المصرية خلافا وجدلا دينيا بين علمائه. وبينما اعتبر علماء أزهريون أن الأزهر لم يقصر في متابعة أحداث الثورة المصرية، قبلها أو بعدها، وأنه حامي مصر ومفجر الثورات، وأن سبب تأخره عن إعلان مواقفه من الثورة هو خوفه على سلامة المتظاهرين وأمن البلاد، واعترفوا بأن الأزهر انتابته بعض عوامل الضعف في الفترة الماضية لكنه بدأ يستعيد قوته. وأكد آخرون أن الوهن ضرب الأزهر عندما انكسر دور شيخه القيادي وأصبح مطيعا للدولة، وأن عدم استقلال مؤسسة الأزهر ماليا وإداريا عن السلطة جعلها تحتاط في بعض مواقفها، مشيرين إلى أن تولي الدكتور أحمد الطيب مشيخة الأزهر يعتبر نقلة، لكنها ليست المأمولة؛ لأنه في النهاية موظف.

«الشرق الأوسط» استطلعت في هذا التحقيق آراء هؤلاء العلماء، للوقوف على حقيقة هذا الخلاف وأبعاده، خاصة أن الجدل لا يزال قائما في هذه القضية، بين مؤيد ومعارض.

في البداية، قال الدكتور عبد الرحمن البر، الأستاذ في جامعة الأزهر، عضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين: «إن المقيم لدور الأزهر ينظر دائما إلى أشخاص، (إما شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب وإما مجمع البحوث الإسلامية) باعتبارهم يشغلون وظائف معينة داخله ويعتبرهم ممثلين لصوته، فإذا تأخروا في بيان عنه أشاعوا أن الأزهر قد تأخر في إعلان موقفه، وإذا أعلنوا موقفا معينا حمل كلامهم على أن هذا موقف الأزهر بشكل عام».

وأضاف الدكتور البر أن «كلا الرمزين، مع أهميتهما القصوى، إلا أن الأزهر أكبر منهما بكثير، كما أن علماءه ينتشرون في أرجاء مصر والعالم الإسلامي، والكثير منهم لا يتأخر عن إعلان موقفه الشرعي في حينه»، مشيرا إلى أن «الكثير من علماء الأزهر في مصر شاركوا في أحداث الثورة المصرية ونزلوا ميدان التحرير على الرغم من كونهم ليسوا ممثلين رسميين للأزهر»، موضحا أن «اختزال موقف علماء الدين في المؤسسة الرسمية ظلم للأزهريين، ومن يريد أن يعرف موقف الأزهر من أي حدث بشكل حقيقي لا يجب أن يركز فقط على موقف المؤسسة الرسمية؛ لأن جميع الأزهريين أصحاب رسالة ولا ينتظرون إشارة من شيخ الأزهر للقيام بواجبهم».

واستدرك الدكتور البر: «هذا لا يعني أن المؤسسة الرسمية تمتنع عن إبداء آرائها في المواقف التي تخص المجتمع، بل هي مطالَبة دائما بأن تكون لها المبادرة في إعلان موقفها بشكل صريح وواضح في حينه»، لكنه يرى أن «هذا لن يتحقق بشكل كامل إلا إذا تم ما نطالب به من استقلال مؤسسة الأزهر ماليا وإداريا واستقلالها تماما عن السلطة». وأثنى البر على مواقف شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب الأخيرة، بقوله: «الطيب نقلة جديدة مخالفة تماما لمن سبقه، لكنها ليست المأمولة؛ لأنه في النهاية موظف»، كاشفا عن أنه «كان من الطبيعي في أحداث الثورة المصرية أن يتريث، لكنه إذا كان مستقلا سيكون موقفه معبرا عن الأزهريين ولا يلتفت إلى السلطة».

بينما أوضح الشيخ سالم عبد الجليل، وكيل وزارة الأوقاف المصرية لشؤون الدعوة، أن «الأزهر أصبح دوره الآن تعليميا فقط، وكان قبل ثورة يوليو (تموز) 1952 دوره أوسع من ذلك، وكانت الظروف وقتها مهيأة لأن يكون للأزهر دور سياسي»، مشيرا إلى أن «ثورة عام 1952 حرصت على إبعاد الأزهر عن القيام بأي دور سياسي واستمر هذا الأمر على مدى عقود طويلة وظهر مليا أن شيخ الأزهر يعيَّن من قبل الدولة، الأمر الذي جعل مؤسسة الأزهر مقيدة في القيام بدورها كمؤسسة دينية مستقلة». واستطرد: «ولزيادة تقييد مؤسسة الأزهر تم إنشاء دار الإفتاء لتقاسمها دورها، مما زاد التداخل بين وظيفتي مفتي الجمهورية وشيخ الأزهر، ولعل هذا برز في كثير من المواقف في عهد شيخ الأزهر السابق الدكتور محمد سيد طنطاوي عندما كان مفتيا ووجد مشيخة الأزهر تتعارض مع كثير من آرائه، وعندما أصبح شيخا للأزهر أقصى دور دار الإفتاء تماما».

وأضاف الشيخ عبد الجليل: «عندما قامت الثورة المصرية لم يكن لدى الأزهر أو علمائه بشكل عام رواية لما يمكن أن يحدث، وبالتالي لم يشارك الأزهر في الأحداث بشكل كبير وإن شارك بعض أبنائه المنتمين لبعض التيارات مثل جماعة الإخوان المسلمين أو السلفية وليس بصفتهم أزهريين، صحيح كانوا يلبسون عمامة الأزهر، لكنهم لم يتحدثوا باسمه»، مؤكدا أنه «من الطبيعي للأزهر كمؤسسة رسمية أن يكون مع السلطة الشرعية، وأن قياداته دللت على ذلك بأن التغيير لا بد أن يكون وفق ضوابط محددة ومن خلال الشرعية، وخشوا على أبناء المجتمع من التعرض للمخاطر التي يمكن أن يحدثها أي نظام عربي للخارجين عليه، وبالتالي ظهر أن الأزهر لا دور له».

وتمنى الشيخ عبد الجليل أن «تكون للأزهر استقلاليته؛ بمعنى أن يكون هيئة دينية، سواء أكان دوره تعليميا أم إفتائيا أم دعويا، وألا يكون تابعا للسلطة أو النظام، وأن تطلق إليه الحرية في إطلاق الفتاوى وفق القواعد الفقهية، وليس وفق مصلحة الحاكم أو غيره».

وأكدت الدكتورة آمنة نصير، أستاذة العقيدة والفلسفة في جامعة الأزهر، أن «سبب تراجع دور الأزهر هو انشغال الأئمة والوعاظ بالمنهج التقليدي في الوعظ والإرشاد، وهو المنهج الذي أصبح لا تجديد فيه من جانب الأئمة والشيوخ، في المقابل اخترق الدعاة السلفيون أو الشيوخ الجدد الفضاء المصري والخارجي بشكل مختلف عما ألفه الناس من علماء أزهرهم، وهنا فقدوا دورهم ومكانتهم».

وأضافت الدكتورة آمنة نصير أن «ما حدث لعلماء الأزهر انعكس على دوره السياسي، فلم يعد له الريادة كما كان في القرن الماضي الذي شهد قوة شيوخه، فكان الأزهر ملجأ للشعب المصري ومفجرا لثوراته»، مشيرة إلى أن «الوهن ضرب مؤسسة الأزهر عندما أصبح منصب شيخه بالتعيين، وهو ما أحدث انكسارا لدور شيخه القيادي وأصبح مطيعا للدولة التي غيبته»، قائلة: «في هذا المقام أتذكر جملة الدكتور محمد سيد طنطاوي، شيخ الأزهر السابق (أنا رجل موظف في الدولة)، وذلك عندما تحدث في مسألة فقهية وُصفت بأنها بتعليمات من النظام».

وأوضحت الدكتورة آمنة: «طالبت، منذ 7 سنوات، بأن يكون شيخ الأزهر بالانتخاب، وهي الدعوة التي أغضبت الكثير من القيادات الأزهرية»، وقلت وقتها: «لا بد أن يتم انتقاء من يتولى منصب شيخ الأزهر من جميع علماء المسلمين في المشرق والمغرب ليستحق لقب إمام المسلمين»، مضيفة أن «اختيار المسلمين لإمامهم يحرره من التعيين والانصياع لسياسة الدولة».

وكشفت الدكتورة آمنة عن أن «تحرير منصب شيخ الأزهر سيكون إضافة رائدة وقوية لمصر، بشرط أن يترك شيخ الأزهر الأعمال الإدارية التي تأخذ مساحة كبيرة من وقته، ويكرس كل جهده لمواكبة قضايا المسلمين والاجتهاد فيها مع أعضاء مجمع البحوث الإسلامية، وأن يكون همه الأكبر تجديد قضايا الدين المستحدثة على ضوء القضايا المعاصرة».

وقال الدكتور محمد عبد المنعم البري، رئيس جبهة علماء الأزهر: «إننا كنا بعيدين عن الساحة الدينية وعن إبداء آرائنا في المسائل الفقهية، بسبب منع الحرية داخل الأزهر، واعتبار معارضة آراء قيادات المؤسسة الرسمية للأزهر شيئا من المحظورات».

وأضاف الدكتور البري: «إن التغيير لن يحدث في مؤسسة الأزهر إلا بتغيير القيادات الحالية والمجيء بقيادات تتوافق مع رسالة الإسلام والقرآن، وأن يكون اختيار شيخ الأزهر من خلال قيادات شريفة أمينة».

وأشار رئيس جبهة علماء الأزهر إلى أن «الجبهة لم تكن بعيدة عن كل ما يحدث في مصر من قضايا سياسية، وسبق للجبهة التنديد بمنع المحجبات من دخول الجامعات أو من الظهور على شاشة التلفاز».

وقال الدكتور البري: «إن جبهة علماء الأزهر لم تتأخر لحظة في توجيه الدعوة للمصريين للخروج في مظاهرات التحرير ليسمع الظالمون صوتهم وليبرئوا ذمتهم أمام الله تعالى، الذي لا يقبل عذرا من متخاذل في مثل تلك المواقف، وقلنا لهم: اخرجوا على نية الأخذ على يد الظالم قبل أن يخرج غيركم، اخرجوا وانفروا على وعد الله لكم وتصديقا به وإيمانا برسوله، صلى الله عليه وسلم، فماذا تنتظرون بعد أن نزفت الكرامة واستبيحت المحارم واسترخصت الدماء وانتهكت الأعراض وزورت الإرادة وكذب القادة؟».

وأضاف الدكتور البري: «قلنا في بيان أصدرته الجبهة: إنه لولا ما فُرض علينا من المطاردات التي ألجأتنا لمفارقة مصر والتزام البيوت، لرأيتمونا في الطليعة ومقدمة الركب نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر درءا للشرور التي استفحلت».

وأوضح الدكتور البري أنه عقب سقوط نظام الرئيس المصري السابق حسني مبارك أصدرت الجبهة بيانا آخر عبرت فيه عن خالص تهانيها للشعب، وقالت: «إن نجاح ثورة شباب (25 يناير) شفى صدور قوم مؤمنين»، وطالبت الجبهة «المصريين والمسلمين جميعا ببدء صفحة جديدة في طاعة الله عز وجل».

على الجانب الآخر، دافع الدكتور محمد رأفت عثمان، عميد كلية الشريعة والقانون الأسبق في جامعة الأزهر، وعضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، قائلا: «إن الأزهر لم يقصر في متابعة أحداث الثورة المصرية وما قبلها، وعقد مجمع البحوث الإسلامية الكثير من الجلسات الطارئة لمتابعة الأحداث، وكانت مواقف الأزهر واضحة جدا في نقده للأعمال التخريبية التي قام بها بعض المندسين بين شباب الثورة».

وأضاف الدكتور عثمان: «من أبرز علامات المشاركة في الثورة المصرية مشاركة المتحدث الرسمي باسم الأزهر، السفير محمد رفاعة الطهطاوي، ضمن المظاهرات في ميدان التحرير شخصيا، ولا ننسى أن الإمام الذي صلى بالثوار في الجمعة التي أعقبت إسقاط الرئيس المصري، هو الشيخ يوسف القرضاوي، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، باعتباره من أبناء الأزهر، بالإضافة إلى مشاركة الكثير من مشايخ الأزهر في مظاهرات التحرير، وهو ما يعني أن الأزهر كان مساندا للثورة وليس للنظام».

واعترف الدكتور عثمان بأن «الأزهر انتابته بعض عوامل الضعف في الفترة الماضية، لكن من الواضح أنه في العهد الحالي يستعيد قوته، الأمر الذي يحتاج إلى وقت وعدة مراحل ولن يحدث طفرة»، مؤكدا أن «الغالبية العظمى من الأزهريين يؤيدون خطوات الدكتور أحمد الطيب في الإصلاح».

وأوضح الدكتور عثمان أنه «إذا كانت بعض العهود الماضية قد شهدت سلبيات حول قيام الأزهر بواجبه، فإنه لا يستطيع أحد أن يزايد على موقفه الآن؛ فأي جهة إعلامية أو صحافية تطلب علماءه لإبداء رأيهم في أمر سياسي أو اجتماعي لا يترددون لحظة واحدة عن إبداء آرائهم».

وعلق المفكر الإسلامي الدكتور محمد عمارة، عضو مجمع البحوث الإسلامية، قائلا: «إن الوضع تحسن الآن في الأزهر، والدكتور أحمد الطيب ظهر موقفه جليا في أحداث الثورة الليبية».

وأكد الدكتور محمد وهدان، الأستاذ في جامعة الأزهر، أن «الأزهر طوال تاريخه الذي يزيد على ألف عام هو حامي الوطن ومنه انبعثت الثورات»، قائلا: «كانت مواقف الأزهر واضحة من الثورة المصرية».

وأرجع الدكتور وهدان سبب تأخر شيخ الأزهر في إعلان مواقفه من الثورة إلى أنه «كان يدرس الأمر من الوجوه كلها، وكان يخاف على أمن المواطن وسلامة البلاد والمتظاهرين»، ضاربا مثالا على ذلك بأن «النجار الماهر يقيس 7 مرات ويقطع مرة واحدة». وأردف الدكتور وهدان: «أما بخصوص الثورة الليبية فقد كان موقفه واضحا واستنكر على الفور ما فعله العقيد معمر القذافي بشعبه».

وأشار الدكتور وهدان إلى أن «من يردد أن الأزهر كان غائبا هم أعداء الأزهر؛ لأن علماءه يمتازون بالوسطية والتسامح، لكن هناك بعض الفرق والاتجاهات الموجودة في مصر لا تطيق سماع اسم الأزهر؛ لأن وجوده عقبة ضد وصولهم إلى أغراضهم الخبيثة»، مؤكدا أن «الإساءة للأزهر الآن لا تصب في مصلحة الإسلام، وعلى من يهاجمونه أن يذهبوا إلى أي بلد خارج مصر ليعرفوا قيمته وقيمة علمائه».

من ناحيته، أصدر المجلس الأعلى للأزهر بيانا جاء فيه: «نظرا لما لوحظ في الفترة الحالية من ارتفاع بعض الأصوات من خارج الأزهر ومن غير الأزهريين تتعدى على الأزهر وهيئاته ورموزه، فإن المجلس يعلن للكافة أن أمر الأزهر كان ولا يزال شأنا خاصا بالعلماء العاملين في الأزهر وحدهم على مدى خمسين وألف عام، وهم جديرون بحسن قيادته وتطويره».

وقال البيان، الذي حصلت «الشرق الأوسط» على نسخة منه: «إن المجلس الأعلى للأزهر يعلن للكافة أن علماءه قادرون ومؤهلون أمام الله وأمام الأمة لقيادة هذه المؤسسة العريقة وتسيير شؤونها وتعديل ما يلزم من إجراءات قانونية وإدارية للنهوض بمسيرته العلمية والروحية التي يؤديها منذ أكثر من ألف عام، باعتباره أكبر منبر عالمي للإسلام وعلومه وحضارته». وأهاب المجلس الأعلى للأزهر في بيانه «بالصحافة وجميع وسائل الإعلام أن تتحرى الحقائق فيما تبثه وتنشره عن الأزهر ورموزه، الذين هم أعرف الناس بما تتطلبه هذه المرجعية الإسلامية الكبرى وما تحتاجه للنهوض برسالتها المحلية والعالمية، وذلك انطلاقا من دور الأزهر في تاريخ الإسلام والمسلمين ودوره الوطني والعالمي، وانطلاقا من أن الأزهر يمثل المرجعية العلمية الإسلامية الكبرى ويحمل إلى شعوب العالم رسالته الثقافية والدينية في الوسطية والاعتدال من دون تعصب أو تسييس».