قضايا التعددية والاندماج الإسلامي بأوروبا وإشكالياتهما

رضوان السيد

TT

كانت لزيارة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان لألمانيا في الأسبوع الماضي، نتائج مُثيرة ربما لم تقع في حسبانه. إذ كانت خطته الطواف بعدة دولٍ أوروبية كالعادة، على مشارف اجتماعاتٍ للاتحاد الأوروبي للنظر في طلب تركيا الدخول إلى الاتحاد. وهو المسعى الذي بدأته تركيا عام 1964 ولا يزال مستمرا دون نتائج ظاهرة. والمهمُّ هنا أنّ أردوغان بدأ جولته الأوروبية (التي وصفها بأنها مهمةٌ شاقّة) بألمانيا، حيث قضى يومين، ثم قطعها وعاد إلى تركيا بسبب وفاة نجم الدين أربكان رائد الأحزاب السياسية الإسلامية بالبلاد. إنما خلال ذينك اليومين، التقى بالإضافة إلى الرسميين الألمان ورجال الأعمال، جمعيات تركية، وصرَّح أمام إحداها بأنّ ذوي الأصول التركية من الحاصلين على الجنسية الألمانية، لا خيار لهم إلاّ أن يبقوا أتراكا محافظين على تقاليدهم الثقافية والدينية. ذلك أنّ الألمان يرفضون اندماجهم، كما يرفضون علنا التعددية المؤسَّسة على المواطنة، فلم يبق إلاّ الإصرار على الحصول على الحقوق المعترف بها للأقليات الإثنية والدينية! وهكذا فقد ثار عليه الألمان، ولم يهدأوا حتى الآن. والواقع أنّ الشهور الماضية حفلت بعدة أحداثٍ وتصريحاتٍ وإجراءاتٍ في أوروبا الغربية، تصبُّ جميعا في موقفٍ متشددٍ من المسلمين بالقارة القديمة. فقد ذكر المسؤولون الفرنسيون أنّ سياسات التعددية الثقافية لم تحقّق نجاحا أو تقدما. وذكروا ذلك في معرض أمرين اثنين: اشتراع قانون يُسقط الجنسية الفرنسية عمن يقومون بعملٍ عنيفٍ أو مقاومةٍ لرجال الأمن والسلطات، إذا كان قد مضى على حصولهم على الجنسية أقلّ من عشر سنوات، ومن جهةٍ ثانيةٍ الإصرار على سريان قانون منع النقاب على الآتيات إلى فرنسا من خارجها، وليس على المقيمات وحسْب. وفاجأ البريطانيين مسلمين وغير مسلمين تصريح كاميرون رئيس الوزراء المحافظ أنّ سياسات التعددية الثقافية فشِلت؛ إذ إنّ المسلمين لم يندمجوا، ولكنْ يبقى ضروريا الإصرارُ عليها، مع تشديد الإجراءات. وخاضت المستشارة الألمانية ميركل في الملفّ ذاته ذاهبةً أيضا إلى أنّ التعددية الثقافية فشلت مع المسلمين بألمانيا، بيد أنّ المستشارة ما ذكرت بدائل للسياسات المتّبعة! إنّ المسألة هنا أنّ المسؤولين الفرنسيين والبريطانيين والألمان، اعتبروا في تصريحاتهم أنّ التعددية الثقافية (= الدينية)، على الأساس الواحد وهو المواطنة، ينبغي أن تُتيح اندماجا على المستوى الوطني والقومي. وهذه بديهيةٌ المفروض أنّ الأوروبيين سلَّموا بها منذ عام 1648م عندما جرى بهذه الطريقة تحييد الصراع الديني الكاثوليكي/ البروتستانتي عن التأثير في المجال العامّ. فصار من الممكن التعامُل مع كلّ البريطانيين والألمان (ولاحقا الفرنسيين) على قدم المُساواة بغضّ النظر عن اعتقاداتهم الدينية. وكان لا بد من مُضي أكثر من قرنٍ ونصفٍ حتّى أُلحق اليهود بهذا التقليد للمساواة على أساس المواطنة، بمعزلٍ عن ديانة الفرد أو الجماعة الدينية والإثنية. وما واجهت أوروبا منذ حوالي القرن ونصف القرن مشكلاتٍ ذات طبيعةٍ دينيةٍ، تتعلق بالهوية الوطنية بمعنى أنه ما عاد من الممكن القول إنّ الكاثوليكي البريطاني هو أقلّ وطنيةً أو أصالةً من الأنجليكاني، وكذلك البروتستانتي في فرنسا أو الكاثوليكي في ألمانيا. وبقيت المشكلة العالقة هي المشكلة الإثنية أو مشكلة الأقليات الإثنية في أزمنة ازدهار وصعود الدولة القومية. وقد تفاقمت هذه المشكلة إبّان صعود الفاشيات في أوروبا في مطالع القرن العشرين. إنما مع الهزيمة التي نزلت بالفاشيات في الحرب العالمية الثانية، صدر ميثاق الأمم المتحدة، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وجرى التشديد على حقوق الأقليات القومية والإثنية. ولا يزال التأزُّم لهذه الجهة موجودا كما يظهر في بلجيكا، وبعض أنحاء شرق أوروبا. لكنّ البارز هو ذلك الخَلْط المتعمَّد ضمن مصطلح الإثنية بين العرق والثقافة (أي الدين). فمنذ إلغاء اعتبار الدين جزءًا أساسيا في الشخصية الإنسانية أو القومية، جرى الاعتراف للإثنيات بثقافةٍ خاصةٍ تتضمن الدين بطريقةٍ من الطُرُق. ويظهر ذلك في النقاشات الحامية التي دارت على مدى قرنٍ ونصفٍ بشأن اليهود، وهل هم إثنية (= قومية) أو دين. ثم جرى الاصطلاح على اعتبار اليهودية ثقافةً خاصةً تتضمَّنُ التقاليد الثقافية (في المأكل والمشرب والملبس)، كما تتضمن الدين باعتباره مسألةً إثنيةً أو قومية. وظلَّ التوتُّر قائما في مسألة «الحق القومي» أو «الوطن القومي» للإثنية. وكان البريطانيون أولَ من أقرَّ به لليهود في فلسطين خلال الحرب العالمية الأُولى كما هو معروفٌ، من خلال وعد بلفور. وما أُثيرت هذه المسألةُ لدى كُتّاب التيارات الرئيسية، لأنها يمكن أن تكون سابقة لانقساماتٍ وتقسيماتٍ جديدة في أوروبا تُخلخلُ الحدود شبه الثابتة بالقارة منذ القرن التاسع عشر. فاليهود ما كانوا في كثرتهم الساحقة بفلسطين عندما أُعطوا هذا الوعد. وهو وعدٌ وعهدٌ لديهم يقوم على أساس ديني وليس على أساسٍ قومي أو إثني. وهو أخيرا لا يحلُّ المسألة اليهودية التي لا تزالُ عالقةً، لأنّ أكثر اليهود لا يزالون يعيشون خارج «وطنهم» القومي، فضلا على أنّ كثرةً من هؤلاء لا تقول بالوعد أو العهد الديني، وإلاّ لكان عليها - بمقتضى الدين والاعتقاد - أن تترك بروكلين وفرنسا والأرجنتين.. إلخ إلى «أرض الميعاد». وقد حاول ستالين أن يصطنع أَوطانا لإثنياتٍ وقومياتٍ وشعوبٍ ما كانت عندها وعودٌ ولا طموحات بتلك الأماكن لا من الناحية التاريخية ولا لجهة الجغرافية والإقامة. من مثل ما فعله مع الأرمن واليهود والتتار، وهي محاولاتٌ فشلت جميعا، وانتهت بموت ستالين في مطلع الخمسينات من القرن الماضي. وقد تجدد طرح المسألة، أي التلازُم بين القومية/ الإثنية والأرض أو الوطن عندما تفككت يوغوسلافيا منذ أواخر الثمانينات. وفي حين ما كانت هناك مشكلةٌ (في الوعي الأوروبي) بحصول الكرواتيين على الاستقلال، ظهرت إشكاليةٌ في استقلال البوسنة والهرسك، وأُخرى في استقلال كوسوفا. فأكثرية السكّان في البوسنة من المسلمين، وكثرتهم الكاثرة في كوسوفا أيضا من المسلمين. وعجز الأوروبيون عن الحسْم، لكنّ الولايات المتحدة تدخلت وحسمت في الأمرين لصالح الاستقلال. والمُلاحَظ أنّ الكُتّاب اليهود كانوا في الحالتين (وبخاصةٍ في حالة كوسوفا) متحمسين لاستقلال البلدين، باعتبار أنّ حالتهما تُشبهُ حالة الوطن القومي لليهود من وجهة نظرهم. فالبوسنيون صربٌ في الأصل في أغلبيتهم، لكنهم اعتنقوا الإسلام. والكوسوفيون ألبانٌ في الغالب، أتوا إلى المقاطعة الصربية القديمة تلك، على أثر احتلال العثمانيين لها في القرن الخامس عشر الميلادي. وهكذا اعتُبر الإسلام دينا قوميا في الحالتين، ولو غَلَب العاملُ القومي البحت، لكان ينبغي بقاءُ البوسنة ضمن صربيا وإنْ بوضْعٍ خاص، ولكان ينبغي ضمُّ كوسوفا إلى ألبانيا! لقد ألْغى الأوروبيون إذن الاعتبارات الدينية في الزمن القومي الذي استتبَّ بأوروبا منذ أكثر من قرنين. وعندما اضطروا للاعتراف بالعامل الديني، ربطوه بالإثنية وثقافتها الخاصة. إنما في حالة الدولة اليهودية، ما كان من الممكن اعتبار اليهود إثنيةً من الناحية التاريخية أو الواقعية؛ فصار الدين الواحد (وإنْ تحت اسم الآيديولوجيا القومية: الصهيونية) هو مبِّرر إيجاد وطن قومي لتلك المجموعات من الناس. فما هي المشكلة الإسلامية في أوروبا اليوم؟ لا يطالب المسلمون البريطانيون أو الفرنسيون أو الألمان أو الهولنديون بوطنٍ قومي في أوروبا بالطبع. وإنما يريدون الاحتفاظ بحرياتهم الدينية التي يعترفُ لهم بها القانون. وما كانت هناك مشكلةٌ في ذلك إلى ما قبل ثلاثة عقود. ثم تغيَّر الطرفان الأوروبي والإسلامي. فصار اليمين الأوروبي ينعى على المسلمين انعزالهم وانفرادهم بتقاليد معيَّنة وأسلوب حياةٍ مختلف، ثم جاءت الاتهامات بالعنف والممارسات العنيفة من بعض الشبان، لتُوتِّرَ الأجواء أكثر. وبذلك، فقد صارت لدى الطرفين شكوكٌ في نوايا وخِطَط الطرف الآخَر. فالجهاتُ التي تريد تقييد تقاليد المسلمين الدينية صارت تيارا شعبيا. وهذا التيار الذي يتّسع ليس تيارا دينيا مسيحيا من هذا النوع أو ذاك؛ بل هو تيارٌ يُزعجه «أسلوب حياة المسلمين». فقد ابتدع ساركوزي في حملته الانتخابية عام 2007 مسألة الهوية الوطنية، وهي تتعدى المواطنة والحريات، إلى ضرورات الالتزام بما يعتبره مُناصروه واليمين الفرنسي المتطرف: تقاليد وطنية راسخة، لا يستثنون منها المسيحية أحيانا؛ في حين يركّزون في أحيانٍ أُخرى على التاريخ، أي أنّ المسلمين ما أسهموا في إنشاء فرنسا؛ في حين فعلت ذلك الحضارة المسيحية/ اليهودية! وليست هناك ظروفٌ حاكمةٌ أو قويةٌ في بريطانيا وألمانيا وإسبانيا؛ لكنّ الحاكمين والمعارضين، يعتبرون أنّ هذه المسألة (أي الانزعاج من المسلمين) صار لها دعمٌ شعبي يريدون استثماره بهذه الطريقة.

لقد أزعجهم أردوغان وأربكهم، ليس بسبب ملايين الأتراك الثلاثة بألمانيا وحسْب؛ بل ولأنّ تركيا دولةٌ إسلاميةٌ كبرى، وهي تدقُّ أبواب الاتحاد الأوروبي بقوةٍ منذ عقود. وهذا، ورغم «النموذجية» التي اضطر الأوروبيون للاعتراف بها للإسلام التركي، لن يُساعدَ في القريب فيما يبدو، على فتْح أبواب الاتحاد الأوروبي للقاءٍ يُزيل حساسيات التاريخ، ويخفّف من مخاوف الحاضر. على أنّ تركيا التي ما استطاعت الدخول حتى الآن باسم الإسلام المعتدل، أتتهم من جهة «المتوسطية»، التي أرادوا بواسطتها إلهاءهم عن الاتحاد، وهي تأتيهم الآن من المدخل الثالث: قمة العشرين للاقتصادات الكبرى في العالم، والتي تنعقدُ بتركيا، ويترأس فيها أردوغان إلى جانب صديقه اللدود: الرئيس الفرنسي ساركوزي!