في ارتباط العبادة بالجهاد والحرية

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

يرتبط مفهوم العبادة في الإسلام بجبهات الجهاد الأربع: مقاومة المحتل الغاشم، والحاكم الجائر، والتقليد، والنفس. فمما لا شك فيه أن الإسلام يأمر المسلمين بأن يأخذوا بالمسالمة العامة مع الفئات المسالمة كلها، من كل الناس الذين يختلفون معهم في المعتقد، وذلك من طريق الأخذ بأسباب العدل، في معاملتهم وبالإحسان إليهم، مصداقا لقوله تعالى: «لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ». أما الذين يمارسون البغي والعدوان بالقتل والتشريد ومساعدة الأعداء، فلهم وضع آخر، يكشف عنه المولى، عز وجل، حين يقول: «إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ».

ونفهم من ذلك أن الجهاد لم يُفرض على المسلمين إلا بعد أن طال بهم أمد الإيذاء من جانب المشركين، فنزلت الآيات الكريمة: «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ».

أما بالنسبة لارتباط العبادة بالصعيد الثاني، وأعني به مقاومة الحاكم الجائر والاستلاب المطلق للأنظمة الشمولية، فيكفي للتدليل على ذلك أن القرآن الكريم قد قرن عبادة الله في أكثر من موضع من آياته بالتوقف عن عبادة الطاغوت، قال تعالى: «وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ». ويكفي للتدليل عليها أيضا ما قاله رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في حديثه الشريف: «أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر»، وقوله: «أفضل الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله على ذلك».

وفيما يتعلق بارتباط العبادة بالمستوى الثالث - مقاومة كل تقليد من شأنه أن يؤدي إلى التبعية العمياء للآبائية - فيكفي للتدليل على ذلك أن القرآن الكريم قد استند في دعوته الكفار والمشركين إلى الإسلام على هدم منظومة التبعية العمياء والدعوة إلى التحرر من قيود التقليد، ووطد لهذا المبدأ الذي يعتبر ركيزة أساسية لبناء المؤسسات الحياتية بمبادئه وسلوكياته القائمة على معيار العقل والمنطق، ومبادئ النظرة الكلية للكون، وقيم النزعة الذاتية التحررية، كما أكد أيضا أنه لا ضرر مطلقا في اعتماد الحوار وسيلة في أكثر الأمور الفكرية تعقيدا؛ لأنه أراد أن يفتح الطريق أمام العقول الواعية، لتقرر الأدلة على المعرفة الجازمة التي تنفي كل تقليد يؤدي إلى التبعية: «وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ».

وأخيرا فيما يتعلق بارتباط المستوى الرابع، مقاومة النفس، بالعبادة فيكفي للتدليل عليه أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سماه «الجهاد الأكبر» وهو المقصود بقوله عن الإسلام في موضع آخر: «..وذروة سنامه الجهاد» وليس كما يفهمه كثير من المسلمين اليوم بأنه القتال، وإلا فكيف يكون «الجهاد الأصغر» أعلى مرتبة من «الجهاد الأكبر» بل وذروة سنام الإسلام؟! خاصة أن القصد من الدين ليس إلا تزكية النفس، وتطهير القلب، وظهور روح الامتثال والطاعة، واستشعار عظمة الله، وإقرار الخير والصلاح في الأرض على أساس قوي متين من ربط الإنسان بخالقه.

على أن تلك الارتباطات تدفعنا إلى طرح تساؤل من نوع آخر، وهو: إذا كان لكل شيء حقيقة؛ فما حقيقة العبادة إذن؟ هل هي تلك الشعائر المفروضة من صلاة وزكاة وصيام وحج، أم أنها شيء آخر يكمن وراء ذلك وأعظم منه؟! إنها بلا شك شيء آخر وراء ذلك وأبعد منه؛ فالفرائض والشعائر التعبدية جسد، حياته الشعائر الروحية، والشعائر الروحية صورة، حقيقتها التذلل للمعبود، جل جلاله، وخضوع له وامتثال لأمره، ووقوف عند حده، والشعائر التعبدية مظهر، وباطنه توحيد المعبود، جل وعلا.

ولعل ذلك يفسر - في ناحية من النواحي - شمولية العبادة في الإسلام، خاصة أن محاولة الوصول إلى الغايات من العبادات تمثل بحد ذاتها جزءا من العبادة، يقول تعالى: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ»، ويكفي أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، قد عقب على هذه الآية بالقول: «ويل لمن قرأها ثم لم يتدبرها».

وهذا الأمر - أعني الجهاد الأكبر، أو تزكية النفس - فضلا عن ارتباطه بالعبادة بالدرجة الأولى يرتبط بأمرين آخرين؛ ألا وهما: الحكمة والحرية.. فالحكمة جند من جنود الله يقوي بها قلوب أوليائه. يقول تعالى: «وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ» ومن ثم؛ فبمقدور المرء أن يطمح إلى أن يكون من جند الله، وذلك بأن يسعى بأقصى ما في طاقته من جهد في سبيل بلوغ هذه الغاية السامية، لكن الله، وحده، يعلم جنوده، إن لكل إنسان حرية السعي نحو الدخول إلى سلطان الله. فوحده صاحب القلب الممتلئ حكمة هو من يعرف المعنى الحقيقي للتعاليم الدينية؛ إذ يعاينها في قلبه، بعد أن تتكشف له طبيعتها الجوهرية، يقول الشبلي: «إن لله عبادا يرون ما وراءهم من الأشياء: يرون أحوال الدنيا بلحظات قلوبهم، وأحوال الآخرة بخطرات سرهم، وأحوال ما عند الله بإشارات خفيهم». ومن هنا نفهم سر ارتباط التفقه في الدين بالتقوى، كما في قوله سبحانه: «وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ» وكما في قول مصطفاه: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين»، وقوله: «من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم».

أما بالنسبة لارتباط العبادة بالحرية؛ فيستند إلى الإيمان بأن حرية المرء ليست أمرا خارجا عن العبودية لله باعتبارها أعلى مراتب الحرية. وهذا المعنى الفريد للعبودية يقترن بمنتهى الطاعة لله، وخلاص السالكين من «رق الأغيار» وعبودية ما دون الله؛ إذ لا عبودية إلا لله. ومعنى ذلك أن التحرر من العبودية لا يتم إلا بإحلال «عبودية الله» محل «عبودية الإنسان»؛ فالعبودية لله مشروطة إذن باللا عبودية للسلطان، وفي هذا يكمن معنى شهادة أن لا إله إلا الله.

ولعله يبدو الاقتران واضحا هنا بين العبودية والحرية؛ فغاية العارف - بحسب الجنيد البغدادي - هي الحرية: «آخر مقام العارف: الحرية»، وفي هذا يقول أحمد بن خضرويه البلخي: «في الحرية تمام العبودية، وفي تحقيق العبودية تمام الحرية». والسر في ذلك أن المتجرد لله لا يصح أن تستعبده الأشياء؛ فمن تفرد بالله لم يذله سلطان، ومن توكل عليه لم يضره إنسان، وأفضل الناس من لم تفسد الشهوة دينه ومن لم ترد الشبهة يقينه.

وبعيدا عن التعريفات ذات المنحى التجريدي، نجد أن الحرية، وفق هذا المعنى، ذات مضمون فاعل في تحقيق التحرر داخل النفس البشرية من عبودية السلطان من جهة، ومن عبودية الشهوات وإطاعة اللذات من جهة أخرى. ففرق ما بين المؤمن وغيره: أن المؤمن خرج من العبودية لنفسه وللمخلوقين إلى العبودية لربه. خرج من طاعة هواه إلى طاعة الله. ليس المؤمن «سائبا» يفعل ما تهوى نفسه أو يهوى له غيره من الخلق. إنما هو «ملتزم» بعهد يجب أن يفي به، وميثاق يجب أن يحترمه، ومنهج يجب أن يتبعه، وهذا التزام منطقي ناشئ من طبيعة عقد الإيمان ومقتضاه. وعلى ذلك فإن مقتضى عقد الإيمان أن يسلم المرء زمام حياته إلى الله، وأن يخرج نفسه من دائرة الخضوع لهواه إلى الخضوع لأمر الله، مصداقا لقوله تعالى: «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا». يتحصل مما سبق إذن: أن الحرية في الإسلام لا تقتصر على ذلك المحتوى المرتبط بالسلوك السياسي داخل الإطار الاجتماعي فقط، وإنما تتعدى ذلك إلى الحرية بمفهومها الروحي المتعالي؛ فثمة حرية ذاتية، وحرية غيرية، وتحقق هذين الضربين من الحرية يفضي، لا محالة، إلى تحقق كلا الجهادين: الأصغر والأكبر معا.

* كاتب مصري