الهيكل والأقصى.. قراءة في الفكر الاسكاتولوجي المنحول

إميل أمين

TT

على قدم وساق تمضي إسرائيل في أعمال الحفر وإقامة الأنفاق وما خفي كان أهول تحت المسجد الأقصى، واضعة نصب عينيها أنه «لا فائدة لإسرائيل من دون القدس، ولا معنى للقدس من دون إقامة الهيكل»، كما قال بن غوريون، ما يعني أن كل ما يجري من تحت الأقصى ومن حوله إنما يهدف إلى هدمه وإلى إقامة الهيكل الثالث، الأمر الذي يصب في نهاية الأمر في إطار المخطط الأكبر، أي تهويد فلسطين حجرا وبشرا.

وعلامة الاستفهام في هذا المقام هل رؤية إقامة الهيكل على أنقاض الأقصى لها أسس من الصحة الدينية أو اللاهوتية وبخاصة لجهة الديانة المسيحية على نحو خاص؟ أم أن الأمر برمته هو أكذوبة ضمن ثلاثية منحولة من الرؤى الاسكاتولوجية؟! يلزما ربما بداية أن نعرف مصطلح الاسكاتولوجيا، والذي هو بحسب موسوعة المعرفة العالمية (ويكيبيديا)، علم الأخرويات أو دراسة الأخرويات وهو جزء من العلوم اللاهوتية والفلسفية يهتم بما يعتقد أنه الأحداث الأخيرة قبل نهاية العالم.

ماذا عن تلك الثلاثية؟

عند دعاة اليمين المسيحي المتطرف وكذلك اليهودي نجد رؤى لثلاث قضايا، كل منها في حاجة إلى حديث منفرد، الأولى هي إشكالية الملك الألفي السعيد، والثانية معركة أو موقعة هرمجدون، والثالثة هي تحصيل حاصل وتتصل بفكرة هدم الأقصى وبناء الهيكل.

وفي تقدير تلك الجماعات أن بناء الهيكل على نحو خاص هو العلامة النهائية لانقضاء الزمان وعودة السيد المسيح إلى الأرض ثانية، ولهذا فلا عجب أن نجد تيارا مسيحيا عريضا يعمل على تشجيع إسرائيل سرا أو جهرا من أجل بناء الهيكل مهما كلف ذلك الأمر من إشعال حريق ديني حول العالم، وذلك ليس حبا منهم لإسرائيل، بل من أجل الإسراع بسيناريو قيام الساعة.

ما حقيقة الهيكل التاريخية؟ وأين تقف المسيحية من فكرة إعادة بنائه؟

باختصار غير مرهق للقارئ غير المتخصص في التاريخ اليهودي، نقول إن هناك أكثر من هيكل وهو محل العبادة في تاريخ بني إسرائيل:

* الهيكل الأول ومعروف باسم هيكل سليمان بن داود وقد بني نحو عام 1004 قبل الميلاد وهدم في نحو عام 587 ق. م على يد نبوخذ نصر، ملك بابل، حينما سقطت أورشليم في أيدي البابليين.

* الهيكل الثاني ويعرف باسم هيكل زروبابل وكان بناؤه عام 150 قبل الميلاد وزروبابل هو حاكم اليهودية آنذاك وكان ذلك البناء بأمر قورش، ملك فارس، لكن القائد الروماني أنطيوخوس الرابع قام بتدميره.

* الهيكل الثالث ويعرف باسم هيكل هيرودس، نسبة إلى بانيه هيرودس الكبير، وقد بدأ العمل فيه عام 19 قبل الميلاد وظل يبنى حتى عام 64 ميلادية، ولم يمض بعد ذلك إلا 6 سنوات حتى دمره نهائيا القائد الروماني تيطس سنة 70 ميلادية.

هل من نبوءة في المسيحية تؤكد أو تشير من قريب أو بعيد إلى حتمية قيام هيكل جديد لليهود في أرض فلسطين؟

من المؤسف جدا أن يردد كل الذين يكتبون ويعلمون عن أحداث الأيام الأخيرة مقولة إن هناك نبوءات بإعادة بناء الهيكل المحكوم عليه بالاندثار إلى الأبد، وفيما خص السيد المسيح نفسه، فقد أشار إلى الهيكل الأخير الذي عاصره وقال: «إنه لن يترك هاهنا حجر على حجر إلا وينقض»، الأمر الذي يعني عند كافة الرواة والمفسرين المسيحيين الثقات للأناجيل أن ما من سند لاهوتي أو آبائي لفكرة قيام هيكل جديد، سواء مكان الأقصى أو في أي مكان مغاير.

لكن العناد الذي هو طبع أصيل في الشعب اليهودي ربما يدفعهم من جديد ونحن على أعتاب العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين بعد الميلاد لتكرار ما جرى في القرون الميلادية الأولى.. ماذا عن ذلك؟

نقرأ عند المؤرخ اليهودي يوسيفوس في كتابه العمدة «حروب اليهود الجزء السادس» في الفصلين الرابع والخامس، أن اليهود قاموا بثورة ضد الحكومة الرومانية سنة 66 ميلادية ولهذا أرسل الإمبراطور الروماني نيرون حملة تأديبية بقيادة فيسباسيان وابنه تيطس، مساعده الحربي الرئيسي والأول، ولما استولى عساكر الرومان على المدينة أصدر تيطس أمره بأن يدمروا مدينة أورشليم، وأن اليهود أنفسهم هم الذين أحرقوا أروقة الهيكل، ثم قذف أحد جنود الرومان شعلة نار على الباب الذهبي للهيكل فاشتعلت فيه النيران والتهبت التهابا، فأمر القائد الروماني تيطس بإطفائها، ولكن بسبب شدة الاضطراب لم يلتفت أحد إلى أوامره، ثم هجم العسكر الرومانيون على الهيكل ولم يثنهم عن ذلك وعيد ولا ضرب ولا تهديد، وعلى الرغم من أن تيطس كان يرجو بقاء الهيكل وأرسل مرارا إلى يوسيفوس اليهودي يستعين به للتأثير على اليهود، وإقناعهم بالتسليم والعدول عن اللدد والعناد للحفاظ على الهيكل، لكن كل ذلك لم يأت بأي فائدة فاحترق الهيكل وتدمر عن آخره، فقد كان الهيكل في نظر الرومان ليس مجرد معبد ديني، لكنه كان لليهود قلعة وحصنا ولم يكن من سبيل لوقف عناد اليهود وتصلبهم في مقاومة الرومان إلا بتدمير الهيكل نفسه وهو مجد اليهود ورمز فخرهم وزهوهم واستعلائهم على كل شعوب الأرض. وهكذا تم خراب الهيكل وتحققت نبوءة السيد المسيح «لن يترك حجر على حجر لا يهدم»، وقد حاول اليهود بعد ذلك مرارا تكرار إعادة الهيكل الذي تهدم فباءت كل محاولاتهم بالفشل.

من ذلك على وجه الخصوص تلك المحاولة التي جرت في عهد الإمبراطور الروماني الذي عرف باسم يوليانوس المرتد. ويخبرنا أحد مؤرخي الكنيسة ويدعى سقراط عن الظروف التي احتاطت بالبدء في إنشاء الهيكل من جديد قائلا: «إنه في الليلة التالية لبدء اليهود عملهم، حدث زلزال عظيم حطم الأحجار التي كانت لا تزال في الأساسات القديمة للهيكل الذي تدمر، الأمر الذي روع له اليهود جدا، فلما وصلت أنباء هذا الزلزال إلى اليهود المقيمين في الأماكن البعيدة. هرعوا بأعداد كبيرة إلى مكان الهيكل، حيث حدث الزلزال وشاء الله أن تحدث معجزة أخرى فقد نزلت نار من السماء وأحرقت جميع أدوات البناء، وظلت النار مشتعلة لمدة يوم كامل، فأتلفت الفؤوس والأدوات الحديدية والمناشير والمطارق، وبالإجمال دمرت النار مختلف الأدوات التي حصل عليها البناءون لإنجاز العمل».. لم تعد هناك إذن نبوءة تنتظر التحقيق بعد.

والشاهد أنه إذا كانت المسيحية براء من هذه الرواية الاسكاتولوجية المنحولة فما الذي يحدث ولصالح من؟

أما عن الذي يجري فهو كما تشير أخبار كثيرة منذ عدة سنوات إلى تسارع في عملية الإعداد للهيكل الجديد، بل إن رسومات أولية أعدت ومدارس بعينها لتعليم طقوس العبادة في الهيكل الجديد بدأت في تخريج دارسين لهذا الغرض، ناهيك عن روايات كثيرة من عينة إعداد حجارة الهيكل الجديد في إحدى الولايات الأميركية ليكون جاهزا للتركيب في غضون أسابيع قليلة عشية هدم الأقصى، حتى أن المؤرخ اليهودي المعاصر ديفيد سولومون يقول في تصريح لمجلة «التايم» الأميركية في نهاية الثمانينات من القرن الماضي، إن «كل يوم يمر على اليهود دون أن يبدأوا في بناء الهيكل يعتبر وصمة عار في جبين الأمة اليهودية».

ولعل ما يثير المخاوف في الآونة الأخيرة بشأن قضية محاولات هدم الأقصى وبناء الهيكل في موقعه، الادعاء باكتشاف تابوت العهد رمز حضور الله في وسط شعب إسرائيل في العهد القديم، ذلك أنه بعد استيلاء إسرائيل على جبل الهيكل، كما يطلقون عليه عام 1967 قالوا إنهم اكتشفوه وإن لم يعلنوا ذلك على العالم رسميا، ذلك لأن المكان الحتمي الذي يجب أن يوضع به هو الهيكل لم يوجد بعد.

وحكما يمكننا القول إنه إذا كان بن غوريون قد قال: «إنه لا معنى للقدس من دون الهيكل، فإنه أيضا لا وجود للهيكل من دون تابوت العهد، فإذا وجد الأخير صار بناء الهيكل فرض عين».

وهناك رواية أخرى تؤكد أن تابوت العهد قد عثر عليه بالفعل في ستينات القرن الماضي، وتقول الرواية إن الإمبراطور الإثيوبي الراحل هيلاسلاسي والذي قيل إنه استطاع أن يرجع نسبه إلى الملك سليمان، وكان معروفا عند شعبه «كاسد يهوذا» الغالب «قد صرح قبل موته بإعلان خطير مباشرة أعلن فيه أن تابوت العهد موجود بحوزته في كنيسة ما بالقرب من المدينة القديمة «إكسوم» في إثيوبيا.

وبالرجوع إلى دائرة المعارف البريطانية تحت كلمة «إكسوم» هذه نقرأ: «أن هذه المدينة القديمة تحتوي على الكنيسة الأثرية التي بحسب التقليد يوجد بها تابوت العهد الذي أحضر من إسرائيل من مدينة أورشليم بواسطة ابن الملك سليمان وملكة سبأ ومن المفترض أنه ما زال مستقرا هناك».

وفي ضوء ما تقدم «صار من الواضح للعيان أن إسرائيل وغلاة المتطرفين فيها لا يهزرون أو يضيعون الوقت، بل هم في طريقهم ماضون، على الرغم من أن إثباتات تاريخية كثيرة تنافي وتجافي قصة بناء الهيكل، فإن إسرائيل تمضي سادرة في غيها، ففي ديسمبر (كانون الأول) من عام 2004 على سبيل المثال أعلنت أن الرمانة العاجية وهي القطعة الأثرية الوحيدة الموجودة لديها من بقايا هيكل سليمان مزورة. وذكر بيان لمتحف إسرائيل أن التحاليل المختبرية والأبحاث الميدانية أكدت أن الرمانة العاجية التي لا يتجاوز حجمها إصبع الإبهام تعود إلى العصر البرونزي، وهو ما يعني أنها أقدم كثيرا من تاريخ ما تزعم إسرائيل أنه أول هيكل يهودي.

هل من يدعم هذا الطرح أي من الآباء المعاصرين من الكنائس الشرقية المسيحية العربية على نحو خاص؟

نقرأ في المؤلف المهم «تاريخ بني إسرائيل» للعلامة المصري الراحل الأب متى المسكين ما يلي «أنه مهما يكن من أمر الإعداد والتجهيزات وحتى لو كانت إسرائيل مدعومة بكل ما أوتي اليمين الأصولي من قوة ونفوذ ومصادر دعم، فإن إسرائيل التي تعيش زمان الفرع اليابس تحاول من تلقاء ذاتها إعادة رسم دور لها على خريطة العلاقات الإلهية - البشرية، لكنه دور قد انتهى، ومخطط قد فرغ، وكل زعمهم هو باطل من أرض الموعد، وصولا إلى الهيكل الجديد وهي ادعاءات من قبيل ادعاء الابن المطرود من بيت أبيه، وفقد شرعيا كل حقوقه بعد أن جرده أبوه نهائيا».

لقد حملهم السيد المسيح في حياته دم الأبرياء الذين قتلوهم من دم هابيل الصديق إلى دم زكريا بن براشيا الذي قتلوه بين الهيكل والمذبح.

لقد ضاع الهيكل واندثرت كل آثاره مهما قالوا عن اكتشافات، حتى أن معظم المهندسين والمنقبين لم يستطيعوا أن يستردوا أي شكل من أشكاله، إلا ما وجد من أوصافه المدونة في العهد القديم، ولم يكن هذا مصادفة، بل عن قصد إلهي محكم ومبيت، حتى لا يكون لبيت الله شكل محدد يستعبد له الإنسان.

وملاك القول هو أن تجمع إسرائيل الآن ليس من إرادة الله في شيء لأنهم في سعيهم لذلك لا يطلبون وجه الله ولا يعتمدون على ذراع الرب، إنهم مغمورون في جو قاتم من السياسة يتذللون للأمم الكبيرة في ضعة ومهانة يبتغون من ورائها السطوة والانتقام، لقد ضلت إسرائيل وانخدع كثيرون من الكتاب العالميين والمسيحيين معتقدين أن تجمع إسرائيل نصرة للرب وفي عودة الصهيونية تكميل للنبوءات.

* كاتب مصري