فكرة التقدم بين المادي والأخلاقي

رضوان السيد

TT

كنت أراجع كتابا يراد ترجمته إلى العربية عن دور الإسلام في صنع العالم الحديث، لمارك غراهام، عندما صادفتني فكرة طريفة كانت منتشرة بين الأوروبيين بشأن الحضارة الإسلامية، والتقدم الإسلامي فيما بين القرنين العاشر والخامس عشر للميلاد. ومؤدى هذه الفكرة أن الأوروبيين الذين كانوا يأتون للمدن الإسلامية في الأندلس وصقلية للتعليم، كانوا يعودون بكتب يترجمونها إلى اللاتينية في الطب والهندسة والكيمياء والرياضيات والفلك، كما يعودون بأفكار غريبة في الدين والأخلاق والفلسفة. وقد كان رجالات الكنيسة يتحرجون حتى من كتب الطب، لكنهم ما كانوا يستطيعون الإنكار علنا، لدعم السلطات لتلك العلوم وبخاصة في المدن الإيطالية وباريس، ولأن المجتمعات كانت بحاجة شديدة بالفعل للتقدم الطبي وتعليم الطب (ومن تلك الكتب ما كان العرب قد ترجموه عن اليونانية)، بسبب كثرة الطواعين، والافتقار إلى المعرفة بكيفية إجراء الجراحات الظاهرة والباطنة. أما في المجالات الأخرى، وبخاصة ما تعلق منها بالفلسفة والأخلاق (وبعضها مترجم إلى العربية عن اليونانية أيضا)؛ فإن رجال الكنيسة هؤلاء كانوا يقولون: إن المقولات الأخلاقية والفلسفية والدينية التي يأتي بها هؤلاء من عند المسلمين، لها أحد مصدرين: الوثنية اليونانية، أو الهرطقة الإسلامية؛ ولذلك فإن استقبالها والاستماع إليها غير ممكن، فضلا عن قبولها. والكلمة الفاصلة بالنسبة لهم كانت: إذا كنا متأخرين في العلوم المادية، فنحن متفوقون من الناحية الدينية والأخلاقية! وفي البداية، كان الكهول العائدون من ديار الإسلام لا يجرؤون على الرد، ويقولون إننا إنما نريد الأخذ عن المسلمين في العلوم البحتة والتطبيقية، وهي على أي حال بضاعتنا ردت إلينا، لأن أصولها يونانية أوروبية. ثم تجرأوا فيما بعد (بعد القرن الثالث عشر) فذهبوا إلى أن التقدم المادي عند المسلمين يتساوق مع تقدم أخلاقي وقيمي لا يجوز إنكاره، وعليه شواهد من طرائق التعامل حتى مع الأعداء، وليس في الأندلس وصقلية وحسب؛ بل وفي مدن المشرق التي احتلها الفرسان الصليبيون على مدى نحو القرنين من الزمان.

إن هذه المسألة بالذات (أي علاقة التقدم العلمي بالتقدم الأخلاقي والثقافي والإنساني)، شهدت أيضا في مجالنا الحضاري جدالات طويلة امتدت على مدى نحو القرنين، ولا تزال تؤدي دورا في صراع الهوية والانتماء والوعي لدى سائر الأطراف. ولنذكر أن العلماء العثمانيين، تأخروا إلى مطلع القرن التاسع عشر، حتى أفتوا بإمكان الطباعة بالعربية، رغم أن الأوروبيين كانوا قد بدأوا بطباعة النصوص العربية (ومنها الإنجيل والقرآن) منذ مطلع القرن السادس عشر، إن لم يكن قبل ذلك. وبسبب الخوف من الغريب، ظهرت فكرة إمكان تحديث الدولة وأجهزتها دون المجتمع. ليس فقط، لأن الدولة مضطرة للتعامل مع الأوروبيين بأساليبهم؛ بل ولأن الجيوش الأوروبية صارت تهزم جيوش المسلمين في كل النواحي؛ وهكذا لا بد من إنشاء جيوش حديثة لمواجهة «التقدم» الأوروبي في هذه الناحية. وعندما كان رفاعة رافع الطهطاوي يكتب مذكراته عن إقامته بباريس ودراسته فيها (1827-1831)، أوضح الحاجة إلى العلوم المادية والتجارية الحديثة. لكنه أكد عدم حاجة المجتمع المسلم إلى «اعتناق» أفكار الغربيين في علاقة الرجل بالمرأة، وفي التعامل بين الأفراد، كما في الدين؛ لأن المسلمين (وهم منهم) متفوقون لهذه الناحية دينا وخلقا. ومنذ ذلك الحين جرى التنظير بين النهضويين العرب والمسلمين للفصل السياسي والعلمي والدنيوي عن الأخلاقي والديني. فالمسلمون وبسبب من صحة دينهم وتقدمه، ليسوا بحاجة إلى إصلاح ديني، وإنما هم بحاجة إلى العلوم البحتة والتطبيقية، كما كان الغربيون يؤكدون عندما كان المسلمون متفوقين عليهم فيها قبل قرون. ثم تطور الأمر لدى بعض «النهضويين»، بحيث تحول إلى مشكل للنقاش والمجادلة. فقد قال التحديثيون من بينهم إن لدى الغربيين بعض الأخلاق الشخصية والاجتماعية الصالحة. ولا شك أن ذلك لا يعود إلى الدين فقط، ولا إلى التقدم العلمي؛ بل هي نتيجة التجارب، وتطور التفكير العقلاني القائم على المصالح. وقد قال ذلك خير الدين التونسي في مقدمة كتابه: «أقوم المسالك»، وكرر ذلك الشيخ رفاعة الطهطاوي في مقدماته وافتتاحياته لمجلة «روضة المدارس» التي كان يحررها في سبعينات القرن التاسع عشر. وفي حين اكتفى الرجلان بإيضاح أن هناك علاقة بين التفكير العلمي والتفكير الأخلاقي الأوروبي، لقيامهما على الوعي العقلاني والإدراك للمصالح الخصوصية والعمومية، وأن تطلب الوعي بالمصالح يمكن الاستدلال عليه في المجال الفقهي الإسلامي أيضا؛ فإن الشيخ محمد عبده وتلميذه رشيد رضا مضيا قدما في هذه السبيل بمعنيين: إيضاح أن كل المدنيات والحضارات إنما كانت لقيامها قواعد وشروط مادية ومعنوية أو أخلاقية لا يمكن تصورها بدونها، ومنها الحضارة الإسلامية كما يدل على ذلك القرآن الكريم - وأنه لا بد من إصلاح ديني يقوم على فتح باب الاجتهاد، والعودة للأصول من أجل التصحيح والتجديد الذاتي أو الاستعانة بهذا الأصل من أجل التواصل المنضبط مع العالم. لكن كان هناك أيضا من مضى بعيدا (من المسلمين وغير المسلمين) فزعم أن التقدم العلمي الأوروبي والغربي إنما ارتبط بأفكار وقيم معينة ما كان يمكن تحقيقه بدونها. والدليل على ذلك أن التقدم العلمي هذا واجهته مقاومة شديدة من جانب الكنيسة، حتى أمكن تنحية لاهوتها عن التحكم بالدولة والمجتمع ومقاييسهما الأخلاقية والعقلية؛ فاندفعت أوروبا أشواطا إلى الأمام، في سائر الميادين. وقد واجه محمد عبده في آخر حياته نقاشا على هذا المثال مع فرح أنطون، فرد عليه بأن تاريخ الدين الإسلامي مع العلوم البحتة والتطبيقية، مختلف عن تاريخ الكنيسة. إذ ما واجه علماء الطب أو الفلك أو الرياضيات مشكلات، لأنهم أجروا تشريحا أو حددوا شكل الأرض. وإنما واجه بعض المتفلسفين مجادلين عندما عبروا عن آراء في الدين أو القرآن أو الأخلاق، استنادا إلى أفلاطون وأرسطو وما فهموه منهما. وقد أوضح الغزالي في «المنقذ من الضلال»، وفي «تهافت الفلاسفة» أسباب الأوهام التي وقع فيها هؤلاء. إذ إنهم يقررون أمرا في الرياضيات استنادا إلى البداءة العقلية، أو أمرا في الطب استنادا إلى التجربة فيسلم الناس لهم. ثم يوردون آراء في الدين أو الأخلاق، ويريدون من الناس أن يقبلوها منهم كأنها قطعية مثلما سبق في الطب أو الرياضيات أو الفلك. وهذا قياس مع الفارق. فلا شك أن الاستقامة الخلقية ضرورية لاستخدام نتائج البحث العلمي للمنافع العامة، إنما ليس ضروريا لنا نحن المسلمين لكي نتقدم علميا أن نعتنق أخلاق الأوروبيين أو أديانهم. وقد حدث ذلك عندهم من قبل في العصور الوسطى، عندما استطاعوا الإفادة من علومنا والنهوض على أساس منها، دون أن يعني ذلك أنهم اعتنقوا ديننا أو استعاروا أخلاقنا الشخصية أو الاجتماعية.

بيد أن الظروف التي كان فيها النهضويون والسلفيون يديرون نقاشات التقدم والتأخر وقوانينهما قبل الحرب العالمية الأولى، كانت أفضل بكثير من ظروف ما بعد الحرب. فقد سقطت الخلافة، وجرى استعمار أكثر ديار الإسلام، وظهرت اتجاهات تحديثية شرسة، فتجدد النقاش حول العام والخاص، والعلمي والأخلاقي، وبطرائق جاءت لغير صالح التآزر بين النهضويين الديني/الأخلاقي، والعلمي. فقد تبلورت المقولة التي تذهب إلى روحانية الشرق، ومادية الغرب. ثم جرى الحديث عن أن النزعة المادية غير أخلاقية بطبيعتها، بينما هناك الخير والأخلاق في روحانية الشرق، المسلم وغير المسلم. وعندما بدأت الحزبيات الإسلامية بالظهور، تحدث الراحل سيد قطب عن: «الفصام النكد»، بين الروحي والمادي، وبين الدين والدنيا في الحضارة الغربية. وقد استند في ذلك إلى الكتب المتشائمة التي ظهرت خلال الحرب الثانية وبعدها، والتي تنعى على الحضارة الغربية توحشها وجبروتها غير الإنساني. كما استند إلى كتابات كل من أبي الحسن الندوي، وأبي الأعلى المودودي، وهي كتابات كانت ترجماتها وقتها (مطلع الخمسينات من القرن الماضي) تصدر بالعربية. وعلى أي حال؛ فإن هذا النقاش ما تحول إلى جدال - بعكس الحالات السابقة - لأنه سرعان ما صار جزءا من المقولة التمييزية الكبيرة بين الإسلام والغرب - وهو تصور ساد على مدى أربعة عقود. حيث تناول الشك كل شيء بما في ذلك مقولة العلم نفسه، وليس استخداماته وحسب؛ وهذا فضلا عن علاقة العلوم البحتة والتطبيقية بالتقدم من جهة، وبالأخلاق والقيم الدينية من جهة ثانية. وقد بدأنا منذ نحو العقد من السنين الخروج من هذه الثنائية، والتي صارت ذات طرفين؛ بمعنى أن الغربيين أيضا ينظرون أو ينظر بعضهم إلى الإسلام والمسلمين، باعتبارهم ذوي خصوصيات عقلية ونفسية وقيمية لا تقبل بالعام وبالمشترك الإنساني. نعم، هناك اليوم وجوه متعددة للتلاقي والتعاون وللجهات القيمية والأخلاقية والثقافية والسياسية. وهناك فئات واسعة تتجاوب وتنطلق وتغادر مقولات وثنائيات المواجهة. بيد أن الجراح ما التأمت جميعا بعد، ولذلك يستشعر الكثيرون الآلام من الانفصام تارة ومن الغلبة تارة أخرى، ومن عدم التلاؤم في الكثير من الأحيان.