في سياق البحث عن مخرج لأزمة الإنسان المعاصر هناك رؤيتان حاكمتان لجدلية التقدم والقيم. ففيما يدفع البعض باتجاه أن الغرب متقدم علميا وتقنيا، لكنه متخلف قيميا (محمد عمارة على سبيل المثال)، يمضي أصحاب الاتجاه الآخر في طريق التأكيد على أن الغرب متقدم علميا، لأنه متقدم أخلاقيا أيضا (رضوان السيد على سبيل المثال). ومع أنني أميل إلى الاتجاه الأخير، لكن ذلك لا يمنع من القول بأنه يتعين علينا أن لا نتحدث عن منظومات القيم ما بين العالمين الغربي والإسلامي كما لو أنها تعبر عن نمط واحد من التفكير الأخلاقي، وإنما يتوجب علينا أن نحدد نوعية القيم الموجودة لدى الطرفين.
ومن هنا؛ يتضح لنا أن الغرب متقدم أخلاقيا إذا ما نظرنا إليه من زاوية إعلائه من قيم: الانضباط، واحترام الوقت، وإتقان العمل، .. إلخ. على حين أن العالم الإسلامي متقدم أخلاقيا في بعض النواحي المرتبطة بالسلوك الشكلاني - إذا صح التعبير - فيما يبقى جوهر أخلاقه الدينية بمنأى - في الغالب - عن التطبيق العملي والفهم الحقيقي. ولذلك يبدو التساؤل حول موقع القيم الدينية من هذا الصراع قائما؛ خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار حقيقة أن القيمة في الأساس هي عبارة عن ترجيح عاشه الإنسان منذ أن قام بتغيير ما في نفسه، وما في الأفق المحيط به.
ومن ثم؛ فإن البحث في القيم الأخلاقية هو بحث في الإنسان الفاعل بوصفه الفردي والاجتماعي، حيث انتقل الإنسان من عيش أفعاله إلى وعي هذه الأفعال، وميز الوسيلة عن الهدف، وتذرع بالمعرفة طلبا لتحقيق الغاية المرموقة، وأنجب في دروب بحثه عن المعرفة العلوم الوضعية كافة، وما برح يتطلع إلى تعمق هذه المعرفة ملحفا على جانب علاقة النشاط الإنساني بالأهداف والغايات، أي بالقيم التي إن استطاع الإحاطة بجوهرها استطاع استكمال معرفته بمعنى نشاطه في جميع المجالات.
على أن مسار الارتباط المأمول ما بين القيم والتقدم لم يمض على هذا النحو المتفائل، وإنما على العكس من ذلك تماما أخفقت القيم الأخلاقية، وانهزمت، وتم سحقها، وبهزيمتها انتصرت حضارة الآلة/الفخ، وانحدرت كرامة الإنسان: فمن نبالة السمو بالروح والقيم إلى حطة الغريزة وخسة البطش بالقوة ، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى، أبرزها الاحتلال السياسي والعسكري لكل من فلسطين والعراق وأفغانستان. وبحسب برغسون؛ فإن البشرية استطاعت أن تستكمل أدواتها خلال القرن الأخير بأحسن مما عملت خلال آلاف السنين، ولكن روحها – الروح الفردي والاجتماعي - لم يستطع أن يكتسب بعد ضميمة من القوة تمكنه من حكم الجسد، هذا الجسد الذي ازداد سعة وحجما بصورة مباغتة! وعلى العلوم الأخلاقية يقع عبء الرسالة، رسالة إعادة الاتزان والتوازن للإنسان المعاصر.
فكيف يمكن للأخلاق والقيم أن تلعب دورا مهما – وحتميا - كهذا؟ الواقع أن الأمر بسيط جدا، وفي متناول حضارتنا الإسلامية على وجه الخصوص، خاصة أن القيم الإسلامية لا تضيق بالتقدم العلمي، ولا تنافي الإبداع والابتكار. وفي كل الأحوال؛ يبدو أنه لا سبيل إلى علاج المثالب الحضارية الراهنة إلا بفلسفة روحية قيمية، هي الفلسفة التي لا ترى الحضارة هدفا، حضارة الآلة والعلم، بل تجعل المدنية، أي تجعل الأخلاق، هي الغرض والهدف من كل تحضر، وتعمل بصدق وإخلاص على تحويل الرقي المادي إلى رقي خلقي، وتطوير الواقع ليمسي واثقا بالروح. لقد أصاب الإنسان نصرا على المادة لا يضارعه نصر، ولكنه يحتاج إلى نصر آخر، نصر أسمى، نصر على نفسه وطبيعته، وذاك هو الجهاد الأكبر المستديم.
ومن هنا يحق لنا أن نتساءل: أليس في الحضارة الحديثة ثغرة لم تسد يمكن أن نتقدم كمسلمين لسدها، وجانب مهدوم لم يلتفت أحد إلى بنائه يمكن أن نتقدم نحن لبنائه؟ هل عندنا ما نقدمه لهذه الحضارة مما قد ينقصها، وهي بحاجة إليه؟ وهل في اتجاه هذه الحضارة وخط مسيرها انحراف يمكن أن نصححه؟! وبطبيعة الحال؛ لكي نجيب على هذه التساؤلات فإنه لا بد من معرفة هدفنا البعيد وموقعنا من الحضارة في مصيرها المتحرك وخط اتجاهنا ونوع الحضارة التي نستهدفها ودورنا الممكن في تكوينها ورسالتنا فيها، خاصة أن هذه الحضارة ليست مغانم خالصة من المغارم، ولا مكاسب مبرأة من الخسران، ولا كمالا منزها عن النقصان.
وآية ذلك، ما قاله برتراند راسل من أن عناصر الحياة ثلاثة: الغريزة، والعقل، والروح. وأن الحضارة الغربية اهتمت بالعنصرين الأولين ولم تهتم مطلقا بالروح. ومع أن بإمكان العقل أن يهدينا لفعل الخير والامتناع عن فعل الشر، فإن عنصر الروح وحده هو الذي يمكننا من أن نشعر شعورا إنسانيا عاطفيا قلبيا، وأن نحس بإحساس الآخرين. ويتابع راسل: إن العقل والغريزة لا يحلان المشكلة؛ ولذلك فإنه لا بد من انسجام العناصر الثلاثة وتنميتها تنمية قائمة على التناغم حتى تسير الحضارة على طريقها المستقيم.
ولا شك أن الغرب الحديث يعبد الحياة بالطريقة نفسها التي يعبد بها النهم طعامه: إنه يلتهمه ولكنه لا يحترمه. أما الإسلام؛ فإنه ينظر إلى الحياة الدنيا بهدوء واحترام. إنه لا يعبد الحياة، ولكنه ينظر إليها على أنها دار ممر في طريقنا إلى وجود أسمى. ولكن بما أنها دار ممر ضرورية، فليس من حق الإنسان أن يحتقر حياته الدنيا ولا أن يبخسها شيئا من حقها. من أجل هذا كان لحياة الإنسان قيمة عظمى، ولكن يجب ألا ننسى أنها قيمة الواسطة إلى غاية فقط.
ولعل ذلك هو ما دفع محمد أسد لأن يقول: إن الأوروبي العادي يعرف دينا إيجابيا واحدا هو التعبد للرقي المادي، أي الاعتقاد بأن ليس في الحياة هدف آخر سوى جعل هذه الحياة نفسها أيسر فأيسر، أو كما يقول التعبير الدارج «طليقة من ظلم الطبيعة»! وإن هياكل هذه الديانة إنما هي المصانع العظيمة ودور السينما والمختبرات الكيماوية وباحات الرقص.. إلخ، وأما كهنة هذه الديانة؛ فهم الصيارفة والمهندسون وكواكب السينما وقادة الصناعات وأبطال الكرة من أنصاف الآلهة الجدد!! وإذا تقرر أن في الغرب أزمات وقلقا نفسيا واضطرابا في مجرى الحياة وضعفا أو تدهورا في الخلق والعواطف وترديا في النفس الإنسانية وإخفاقا في محاولات الإصلاح الكبرى، وفوق هذا وذاك ثمة حاجة شديدة إلى بروز أهداف جديدة وغايات إنسانية وقيم روحية عميقة.. إلخ. إذا تقرر ذلك اتضح لنا حجم الدور والمسؤولية الأخلاقية – الإنسانية والدينية بالدرجة الأولى- الملقاة على عاتق كل إنسان أخلاقي حر للعمل ورسم الخطط لنهضة روحية إنسانية شاملة، تبعث فينا العواطف الإيمانية وتخرجنا من حمأة المادية.
فمع أن الرقي المادي ونظيره الروحي لا يعارض أحدهما الآخر كما يرى الإسلام؛ فإنهما وجهان من الحياة الإنسانية مختلفان تماما، وليس لأحدهما بالآخر علاقة ما، لا سلبا ولا إيجابا، وقد يمكن أن يوجدا أو لا يوجدا معا. وهذا الأمر يبدو بوضوح تام حين نقارن بين الإسلام وروح الغرب؛ فإذا كان الاتجاه الديني مبنيا دائما على الاعتقاد بأن ثمة قانونا أدبيا مطلقا شاملا، يجب الخضوع إليه؛ فإن المدنية الغربية الحديثة لا تقر بالحاجة إلى خضوع ما إلا لمقتضيات اقتصادية أو اجتماعية أو قومية. بكلمة أخرى؛ إن معبودها الحقيقي ليس من نوع روحاني، ولكنه الرفاهية. وإن فلسفتها الحقيقية المعاصرة إنما تجد قوة التعبير عن نفسها من طريق الرغبة في القوة، وكلا هذين موروث عن المدنية الرومانية القديمة. وآية ذلك؛ أن المدنية الغربية لا تجحد الله ألبتة، ولكنها لا ترى مجالا ولا فائدة لله في نظامها الفكري الحالي! وبما أن قضية وجود الله لا تقع تحت هذا الوجه ولا تحت ذاك (أعني ميل الأوروبي إلى نسبة الأهمية العملية فقط إلى تلك الأفكار التي تقع في نطاق العلوم التجريبية، أو تلك التي ينتظر منها على الأقل أن تؤثر في صلات الإنسان الاجتماعية بطريقة ملموسة)، فإن العقل الأوروبي يميل بداءة إلى إسقاط «الله» من دائرة اعتباراته!! ورغم ذلك؛ تبقى القيمة - دائما وأبدا - حاضرة في سلوك الإنسان المعاصر؛ لأنها هي التي تحدد اتجاه هذا السلوك، مثلما ترسم مقوماته وتعين بنياته. وبحكم كونها تعبر في الأساس عن بنية الواقع التي تلازم عملنا، أو بحكم كونها تعبر عن طراز الشروع في العالم ووسمه بسمات مطالبنا الدائمة أو الموقوتة.. وتلك قضية أخرى.
* كاتب مصري