الاستشراق والإسلام.. إعادة قراءة لإشكال تاريخي

إميل أمين

TT

تكشف الأحداث الأخيرة في الولايات المتحدة الأميركية وفي غالبية إن لم يكن كافة الدول الأوروبية أن النظرة للإسلام والمسلمين والتي هي في جزء غالب منها نتاج للحركة الاستشرافية لا تزال مشوشة ومضطربة ويشوبها عوار واضح يؤثر ولا شك على العلاقات بين الشرق والغرب بعامة وعلى العالم الإسلامي بنوع خاص.

في هذا السياق كان زكاري لوكمان أستاذ التاريخ الحديث للشرق الأوسط في جامعة نيويورك يقدم لنا كتابا يمثل في حقيقة الأمر سفرا بالغ الأهمية في هذا المضمار تحت عنوان «تاريخ الاستشراق وسياساته.. الصراع على تفسير الشرق الأوسط»، وفيه مسح واسع لتطور المعرفة الغربية بالإسلام وبالمنطقة التي نطلق عليها اليوم الشرق الأوسط.

ويناقش الكتاب بداية التصورات الإغريقية والرومانية القديمة للشرق، الإدراك الأوروبي للإسلام، منذ ظهوره في القرن السابع الميلادي وحتى الآن، مع الاهتمام بصفة خاصة بعصر الاستعمار الأوروبي، وفترة تعميق التورط الأميركي في المنطقة، وسوابق هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 الإرهابية.

وخلال ذلك يستكشف «لوكمان» كيف درس الباحثون وغيرهم في الغرب الإسلام والشرق الأوسط وصورهما، مركزا على ثنائية الشرق - الغرب، وكيف أصبحت طريقة مهمة لتقسيم العالم وكيف أثرت علاقات السلطة على المعرفة البحثية.

ولعل أفضل ما في الأمر أن منطلقات هذا البحث الأحدث في دائرة الكتب والمراجع التي تتعلق بعلم الاستشراق كانت مأساة الحادي عشر من سبتمبر، وقد شعر الكاتب أنه من الضروري للأميركيين خصوصا بعد 11 سبتمبر 2001 أن يكتسبوا فهما أكثر نقدية وتاريخية سياقية لأنواع المعرفة بالشرق الأوسط والإسلام التي أنتجها وينتجها ويتداولها الباحثون والصحافيون والمعلقون والمسؤولون الحكوميون وغيرهم.

وقد ذهب المؤلف كذلك إلى أن عمله هذا - وإن كان هذا أمرا غير مؤكد بالنسبة لنا - قد يساعد الأميركيين على فهم كيف تدعم بعض هذه التفسيرات المختلفة سياسات بعينها كما جرى في عهد جورج بوش وعصبة المحافظين الجدد.

والكتاب في كل الأحوال يريد قبل كل شيء أن يقدم للقراء تاريخ مشاريع تتداخل أحيانا تعرف بالاستشراق والدراسات الشرقية والدراسات الإسلامية ودراسات الشرق الأوسط على نحو ما تمارس في الغرب مع اهتمام خاص بالولايات المتحدة في منتصف القرن العشرين فصاعدا.

كما يحاول أن يبين أن العقود الماضية شهدت قدرا كبيرا من النقد والخلاف حول طرق دراسة شعوب وسياسات وثقافات الشرق الأوسط في الولايات المتحدة، وحول نوع المعرفة الذي يتم إنتاجه عن هذا الجزء من العالم وافتراضاتها الضمنية ونتائجها.

ويهتم المؤلف في فصله الأول والذي يسميه «البداية» بتوصيف حالة العالم فجر ظهور الأديان التوحيدية وعبر قفزة من جانبنا على الأحداث اليونانية والإغريقية بجانب الرومانية وظهور الإسلام والفتح العربي نتوقف مع أواخر القرن الحادي عشر ومجمل القرن الثاني عشر، والذي شهد جهودا من جانب الباحثين لتحقيق فهم أكثر دقة للإسلام، لا بوصف المسلمين قبائل بربرية وثنية تحاول أن تنال من الغرب المسيحي، بل بوصفهم أصحاب ديانة سماوية تدعو إلى عبادة الله الواحد الأحد، الفرد الصمد. وكذلك شهدت تلك الفترة مواجهة لأوروبا الغربية مع الثورات العقلية والثقافية للعالم الإسلامي. لكن هذه الفترة ذاتها وهي فترة الحروب الصليبية قد شهدت أيضا أحكام وانتشار قدر كبير من المعرفة عن الإسلام بين غير الأميين والمتعلمين بل وبين الجماهير الأمية في معظمها، كانت أكثر تعقيدا وتفصيلا، ولكنها كانت أيضا أكثر تشويها من كل ما سبقها. فإلى جانب وعلى الرغم من جهود حفنة من الباحثين الذين كانوا ينشدون تحقيق فهم دقيق إلى حد ما لما يعتقده المسلمون حقا وأصول إيمانهم، ظهرت في الوقت نفسه صورة للإسلام ومؤسسه أكثر انتشارا بكثير، ومنعدمة الدقة.

ويمكن القول في كل الأحوال إن الإسلام قد احتل موقعا فريدا في تخيلات الأوروبيين منذ القرن الحادي عشر أو الثاني عشر على الأقل فصاعدا، ذلك أنه كان يقع على حدود العالم المسيحي، وكان كثير من المسيحيين على اتصال مباشر بالمسلمين بدرجة أو بأخرى سواء في إسبانيا أو صقلية أو فلسطين وسورية خلال الحملات الصليبية، أو من خلال التجارة والسفر، وكانت الدول والمجتمعات الإسلامية الجيران غير المسيحيين الأقرب لأوروبا الغربية القروسطية المسيحية، وكان الإسلام يشكل البديل الثقافي الأقرب للعالم المسيحي اللاتيني.

وقد ظل الإسلام لقرون، ولكن ليس أبدا، بشكل بسيط أو غير صراعي شاشة يستطيع الأوروبيون أن يعرضوا عليها وعرضوا بالفعل، قلقهم وصراعاتهم بشأن من هم وما هم عليه أو ما ليسوا عليه، ومرآة يستطيع الأوروبيون فيها أن يتبنوا الخصال التي يبدو أنها تجعلهم فريدين بالتشديد على مدى اختلاف ونقص وسوء الإسلام.

غير أن الصورة على قتامتها في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، وما تلاهما حتى عصور التنوير كانت تتحرك جهة مدارس فكرية مغايرة، سيما بعد أن تم استبدال فكرة الغرب العلماني والذي فيه تنفصل الدولة عن الكنيسة عن فكرة أوروبا المسيحية، ففي ذلك الزمان أصبح الإسلام يطرح عادة، باعتباره القطب المناقض للغرب كحضارة مميزة في حد ذاتها، ولكنها متمايزة بحدة عن الغرب ولها مسار تاريخي مختلف تماما، ويجري تصوير الإسلام عند الباحثين المستشرقين وبين الكتاب في الخيال الشعبي، باعتباره مفتقرا إلى تلك الصفات ذاتها التي جعلت الغرب عظيما، فإذا كان الغرب يقدر قيمة الحرية والعقلانية والتقدم المشروع أصبح ينظر إلى الإسلام باعتباره يربي على الخنوع والخرافة والركود والكسل.

غير أنه وبحلول عصور التنوير في أوروبا كان هناك فتح لطريق جديد يتطلع إلى نظرة أكثر موضوعية للإسلام في الدراسات الاستشراقية التي أصبحت باريس أعظم مراكزها الأوروبية، ولتصوير متعاطف للإسلام كتبه بعض التنويريين، الذين اعتبروه إيمانا أكثر عقلانية، وتسامحا نسبيا، وصوروا الرسول في معظم الأحيان باعتباره مشرعا عادلا وحكيما، فإذا كانت المجتمعات الإسلامية تعاني من عيوب أخلاقية واجتماعية فإنها هي نفس العيوب بدرجة أو بأخرى التي أصابت المجتمعات المسيحية، ويمكن أن تعالج بنفس الطريقة بالضبط، أي بالتعرض لنور العقل المطهر.

وعلى الرغم من ظهور طبقة أقرب ما تكون من الباحثين والمستشرقين الموضوعيين فيما يتعلق بالنظرة للإسلام والمسلمين فإن هناك من رأى وجود تفوق بيولوجي للإنسان الغربي على نظيره الشرقي، وقد أضحت كلمة شرقي مرادفا طبيعيا للمسلم، وعلى الرغم من أن معظم الذين نادوا بهذا الشكل من التفوق من الغربيين الأوروبيين فإن بعضا آخر رفض ذلك النهج ومع ذلك قبلوا بادعاء طويل العمر، واسع الانتشار يتمثل في القول بأن الأفضل هو تشخيص وتصنيف الجماعات الإثنية والأعراق والشعوب والحضارات المختلفة، من حيث ماهيتها الثقافية بدرجة أو بأخرى وهو ادعاء ظل له نفوذ حتى يومنا هذا.

ويدلل المؤلف بمثالية على تلك النظرة المتعالية المغشوشة، الأول لإرنست رينان الفيلولوجي وباحث الأديان الشهير، ففي محاضرة له في جامعة السوربون عام 1883 بعنوان «الإسلام والعلم» بدا واضحا كيفية التمايز الاجتماعي والحضاري التي استنها كثير من الباحثين، وبالتالي تمكننا هذه المحاضرة من أن نتعرف بوضوح على كيفية فهم كثير من المستشرقين ومثقفين آخرين وكذلك فهم الموظفين الحكوميين والجمهور المتعلم للإسلام المعاصر في تلك الفترة.

أما المثال الآخر لتلك العنصرية المقيتة فقد عبر عنها اللورد إيرل كرومر المعتمد البريطاني في مصر وضمنها كتابه «مصر الحديثة» وفيه يقول: «الأوروبي عقلاني، أقواله عن الحقيقة خالية من الغموض، هو عالم منطق مفطور حتى لو لم يدرس المنطق، إنه يحب التناسق في كل الأشياء وهو بالطبيعة شكاك ويحتاج إلى برهان قبل أن يعتبر أي افتراض حقيقيا، ويعمل ذكاؤه المدرب مثل جزء آلة، أما عقل الشرقي من الجهة الأخرى فإنه مثل شوارعه الفاتنة يفتقر إلى التناسق وتفكيره المنطقي رث للغاية، وعلى الرغم من أن العرب القدامى حصلوا علم الجدل بدرجة عالية إلى حد ما، فإن سلالتهم تفتقر بشكل فريد إلى الملكة المنطقية والمصري أيضا غريب شكاك بشكل بارز».

ومع نهاية الحرب العالمية الثانية وظهور الثنائية القطبية بين شرق شيوعي يتبع المعسكر السوفياتي وغرب رأسمالي يحذو حذو الولايات المتحدة الأميركية كان الشرق الأوسط والعالم الإسلامي موطئا وموطنا للكثير من القراءات الاسشراقية والبحثية التخصصية والتي يصعب على المرء معرفة ما إذا كانت علمية آيديولوجية أم جاسوسية استخبارية. ذلك أنه في أواخر الستينات وأوائل السبعينات كان وزارة الدفاع الأميركية ووكالات أخرى تشمل وكالة المخابرات المركزية منزعجة من التطورات في الشرق الأوسط فواصلت تمويل مشروعات بحثية مرتبطة بالسياسة بشكل قوي، سواء مباشرة أو من خلال وسطاء.

وبالطبع لا يمكن الحكم على القمة الفكرية للأبحاث عن بعض جوانب سياسة واقتصاد وتاريخ وثقافة الشرق الأوسط فقط بما إذا كانت ممولة بشكل مباشر أو غير مباشر عن طريق وكالات مشكوك في خلفياتها، فبعض الكتب والمقالات والدراسات التي أنتجها باحثون يعملون في مشروعات بحثية ممولة حكوميا كانت شحيحة في مضمونها الفكري وفي قيمتها الباقية، بينما كان بعضها الآخر ذا أهمية فكرية ونافذ البصيرة.

لكن يؤخذ على المؤلف هنا جزمه بأن معظم باحثي الولايات المتحدة في مجال الشرق الأوسط والإسلام لم يكن لهم ارتباط مباشر بصناعة السياسة أو اهتمام بها، ويرى أنه حتى بين المرتبطين بها كانت هناك بلا شك اختلافات في وجهات النظر وعدم اتفاق دائم بشأن كل من القضايا الفكرية والسياسية.

ومع ذلك يظل صحيحا أن البرامج البحثية في طيف من العلوم والحقول كانت متأثرة غالبا باحتياجات «دولة الأمن القومي» التي ولدت من رحم الحرب الباردة، ربما بصفة خاصة العلوم السياسية أو حقول دراسات المناطق مثل دراسات الشرق الأوسط التي تركز على ساحات أساسية في الحرب الباردة.

وبشكل أعرض تبقى القضية الأكبر بعد قضية التمويل الرسمي للبحوث وتشكل البرامج البحثية باحتياجات الدولة هي إطار التفسير الذي عمل داخله معظم الباحثين الذين درسوا الشرق الأوسط المعاصر أو الحديث في تلك الفترة، وكيف شكل هذا الإطار تحليلاتهم واستنتاجاتهم.

والمؤكد أنه كان هناك بالتأكيد دائما باحثون تستمد بحوثهم عن ماضي وحاضر ومستقبل الأراضي التي يغلب عليها الإسلام، جذورها من توجهات أخرى ومع ذلك يظل واقع الأمر أنه حتى السبعينات كان جزءا معتبرا من الكتابات الأكاديمية عن هذه المنطقة وعن الإسلام بصفة أعم، من إنتاج باحثين ظلوا يسلمون إما باستشراق فيلولوجي بشدة وتصور جوهر الإسلام كحضارة غير متغيرة إلى حد كبير، أو بنظرية التحديث بفصلها الحاد بين التقليدي والحديث، أو جمع ما بين الاثنين.

ولعل أفضل ما ينهي به المؤلف كتابه تلك السطور التي تعتبر بمثابة الاعتراف قبل الرحيل وفيها «إنني لا أسعى لتقديم أية خاتمة عميقة لهذا الكتاب لأن القضية التي يتناولها ما زالت معنا إلى حد كبير، ومن المرجح أن تهددنا بشكل أكبر في السنوات المقبلة خصوصا في ضوء المسار الذي اختاره قادتنا حتى الآن».

ويبقى القول قبل الانصراف أن قضية الاستشراق تستدعي أمرا أخلاقيا بالتساؤل والتعلم والمشاركة وإعادة التفكير في كافة الدوائر الغربية المهتمة بالاستشراق إذا كانت بالفعل أمينة ومؤتمنة في بحثها عن الحق والحقيقة، هذا إذا أراد الأميركيون ومعهم الأوروبيون أن يدخلوا كمجتمع في علاقة أكثر فائدة وقابلية للاستمرار مع بقية العالم ومع أنفسهم.

* كاتب مصري