مقاصد الشريعة.. الغايات الكبرى من التشريع الإسلامي

من المواضيع المهمة في الشريعة الإسلامية وتنطوي على تحديات ذهنية

TT

موضوع المقاصد، من المواضيع المهمة والمتشابكة في الشريعة الإسلامية والتي تنطوي على تحديات ذهنية. وقد بدأ اهتمام المعهد العالمي للفكر الإسلامي بهذا العلم منذ إنشائه، وازداد نشاطه في السنوات الخمس الأخيرة لنشر هذا العلم باللغتين الإنجليزية والعربية، وقد ظهر ذلك في منشوراته وأنشطته المتنوعة والمتميزة التي جددت البحث في هذا العلم في أنحاء العالم الإسلامي، حيث أقام المعهد الكثير من الندوات والدورات والمحاضرات. كما أصدر الكثير من المطبوعات والمنشورات والكتب، ما بين ترجمات عربية وأبحاث باللغة الإنجليزية، ليستفيد منها المسلم غير المتخصص في العلوم الشرعية، وغير المسلم الذي يبحث عن مقدمة في مقاصد وفلسفة التشريع الإسلامي. وحيث إنه لا يتوافر إلا عدد محدود من الترجمات في اللغة الإنجليزية في موضوع المقاصد، فقد قرر المعهد أن يملأ هذا الفراغ بترجمة ونشر سلسلة من الكتب الإرشادية المبسطة حول هذا الموضوع، لتوفر مواد سهلة للقارئ غير المتخصص.

ومن بين كتب سلسلة المقاصد الصادرة حديثا عن المعهد، كتاب «مقاصد الشريعة: دليل للمبتدئ»، من تأليف الدكتور جاسر عودة وترجمة الدكتور عبد اللطيف الخياط، وكتاب «الدليل المبسط في مقاصد الشريعة» للدكتور محمد هاشم كمالي، وترجمة الدكتور عبد اللطيف الخياط.

ويستهل الدكتور جاسر عودة كتابه «مقاصد الشريعة: دليل للمبتدئ» بتعريف مصطلح المقاصد، حيث يقول إن المقاصد جمع «مقصد»، ويشير إلى الهدف والغرض والمطلوب والغاية.. «فالمقاصد في الشريعة الإسلامية هي الهدف أو الأغراض أو المطلوب أو الغاية من الأحكام الإسلامية، ومقاصد الشريعة هي ذلك الفرع من العلم الإسلامي الذي يجيب عن كل تلك الأسئلة الصعبة المتلخصة في كلمة (لماذا؟) على مختلف المستويات، مثل: لماذا كان أداء الزكاة أحد أركان الإسلام؟ ولماذا يصلي المسلم خمس مرات في اليوم؟ ولماذا كان صيام شهر رمضان واحدا من أركان الإسلام؟ ولماذا تحية المسلمين (السلام)؟ ولماذا يذكر المسلمون الله دائما؟.. وغيرها. فالمقاصد الشرعية تبين (الحكمة من وراء الأحكام)، فحكمة (تعزيز التماسك الاجتماعي) مثلا هي إحدى الحكم من وراء الزكاة، وكذلك صنع الخير للجيران وتحية الناس بلفظ (السلام)، وحكمة (التقوى) هي أحد أسباب فرض الصلاة والزكاة والصيام. كما أن المقاصد هي أيضا غايات طيبة تهدف التشريعات إلى تحقيقها بحظر بعض الأمور أو إباحتها، فمثلا مقصد (الحفاظ على عقول الناس وأرواحهم) يفسر تحريم الإسلام التام والصارم للمسكرات. والمقاصد كذلك هي مجموعة من الغايات الإلهية والمفاهيم الخلقية التي يقوم عليها التشريع الإسلامي، مثل مبادئ العدل وكرامة الإنسان والإرادة الحرة والمروءة والعفاف والتيسير على الناس والتعاون الاجتماعي، فمثل هذه الغايات والمفاهيم يشكل جسرا بين التشريع الإسلامي والمفاهيم السائدة اليوم عن حقوق الإنسان والتنمية والعدالة الاجتماعية».

وفي فصل بعنوان «دور المقاصد في التجديد الإسلامي المعاصر»، يقول الدكتور عودة إن «مقاصد الشريعة تعد اليوم من أهم الوسائل التي يعتمد عليها الفكر الإسلامي الساعي إلى الإصلاح والتجديد، فهي فلسفة للتشريع يمكن أن تكون ركيزة للتجديد من وجهات مختلفة تشمل: المقاصد بوصفها مشروعا للتنمية وحقوق الإنسان بحسب المصطلحات الحديثة، وبوصفها منهجا لتجديد محمود ومطلوب في الفقه الإسلامي، وأهمية المقاصد في تجديد فهم القرآن والسنة، والمقاصد بوصفها أرضية مشتركة بين مختلف مذاهب الفقه الإسلامي، وكذلك أرضية للحوار بين الأديان».

فمن منظور المقاصد بوصفها مشروعا للتنمية وحقوق الإنسان، يقول الدكتور عودة، إن «من جملة ما أسهم به الفقهاء والمفكرون المعاصرون هو اعتماد مصطلحات في علم المقاصد نابعة من المصطلحات الحديثة، بهدف إضافة جوانب إيجابية جديدة للتنمية وحقوق الإنسان، تمثل أساسا متينا لنهضة العالم الإسلامي، فمثلا: موضوع (حفظ العقل) كان إلى عهد قريب مقصورا على تحريم المسكرات في الإسلام، وهو مهم بالطبع، إلا أنه بالإضافة إلى ذلك فإن هذا المصطلح يتطور في زماننا ليشمل (إشاعة التفكير العلمي)، و(السفر في طلب العلم)، و(مكافحة روح القطيع)، و(التغلب على هجرة العقول في المجتمعات الإسلامية)».

ويخلص الدكتور عودة في كتابه إلى أن «مقاصد الشريعة ترفع مستوى النقاش في القضايا التشريعية إلى مستوى أعلى من الناحية الفلسفية، وتتغلب على الفروق التاريخية التي أدت إلى التنازع بين المذاهب، وتشجع على ثقافة المصالحة والتعايش السلمي اللذين اشتدت الحاجة إليهما في كل أنحاء العالم، كما أن وضع المقاصد موضع التنفيذ يجب أن يأخذ مكانه في اهتمام كل متخصصي الشريعة وواضعي السياسات المختلفة، بصرف النظر عن أسمائهم ومذاهبهم، على أساس أن صلاحية أي اجتهاد هي بقدر تطابقه مع تحقيقه لمقاصد الشريعة».

يذكر أن الدكتور عودة من المتخصصين في موضوع المقاصد، وله بصمات واضحة في إقامة الكثير من دورات مقاصد الشريعة على مستوى العالم الإسلامي، ويعمل حاليا أستاذا ببرنامج السياسة العامة في كلية الدراسات الإسلامية بمؤسسة قطر للتربية، وعمل مديرا لمركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية في لندن.

أما عن الكتاب الآخر بعنوان «الدليل المبسط في مقاصد الشريعة» للدكتور محمد هاشم كمالي، فقد استهله بالقول إن «مقاصد الشريعة هي أهداف الشريعة وأغراضها، وهو موضوع مهم، غير أنه لم يلاق في الواقع ما يستحق من اهتمام. وتقوم الشريعة عموما على مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع، وتقوم أحكام الشريعة بحفظ تلك المصالح وبتيسير وتحسين وتكامل أحوال الحياة البشرية على الأرض، فالقرآن الكريم يبين في نصوص كثيرة وفي سياقات متعددة الأسباب المبررة لأحكامه والقصد منها ومنافعها، إلى حد يمكن أن يقال معه إن القرآن الكريم يتميز بأن العمل فيه مرتبط بالأهداف، فمن يتتبع السياق القرآني يلاحظ ميزة ارتباط أحكامه حول المعاملات بالأهداف، وكذلك في العبادات، فالمقصود من الجهاد منع الظلم، والمقصود من الصلاة الوصول إلى نقاء الروح وصلاح العمل، مع تأمين النظافة البدنية من خلال الوضوء، إلى غير ذلك من نصوص الشريعة في القرآن والسنة، التي تبين الغرض والأسباب والمنافع التي تقصد من الأوامر الشرعية، بعبارات جلية مؤيدة لهذه الأعمال، فالفكرة العريضة الماثلة خلف كل الأحكام هي بشكل عام تحقيق المصالح، وهذه هي النقطة الرئيسية والمرتكز المهم في بحوث مقاصد الشريعة، لذا يمكن القول إن (المصالح) ليست إلا اسما آخر لـ(المقاصد)، ولهذا يكاد يكون استخدام العلماء لهذه الكلمة أو تلك بلا تفريق بينهما».

وقد صنف العلماء كل أنواع المقاصد أو المصالح، ضمن ثلاث فئات، بدءا من أكثرها أهمية فما دون. فأعلاها هي «الضروريات»، وهي ما لا بد منه لتكون حياة المجتمع سوية ومن أجل أن يتحقق الحفاظ على حياة الفرد وسلامته الروحية، وتشمل حفظ الدين والحياة والنسل والعقل والملك، وتليها «الحاجيات»، وهي المصالح التي تكمل الضروريات، وهي منافع يقصد بها إزالة أو رفع المشقة والمعاناة، من دون أن تصل إلى حد تهديد النظام العام، وينطوي تحتها عدد كبير من «الرخص»، مثل قصر الصلاة وإباحة إفطار المريض والمسافر، وكذلك في مجال المعاملات وأحكام الأسرة. أما الفئة الثالثة من المقاصد فهي «التحسينات»، وهي أمور محببة أو مرغوبة، تهدف إلى الحصول على تحسينات ثانوية، وإلى الكمال في العادات وسلوك البشر، مهما كان مجال هذا السلوك، ولهذه الفئة أهمية خاصة لأنها شديدة الاتساع وتتصل بكل المقاصد أو المصالح الأخرى، فمثلا الشريعة تحض على نظافة البدن والملبس أثناء الصلاة، والتعطر لصلاة الجمعة، وتنهى عن أكل الثوم النيئ لمن يحضر صلاة الجماعة، وتحث المسلم على بذل الصدقات زيادة على ما يجب عليه من زكاة، وفي مجال العلاقات الاجتماعية تحض الشريعة على الرفق وطيب الحديث وحسن الخلق والإحسان، فالهدف من كل ذلك هو تحقيق حياة جميلة كاملة بكل جوانبها.

ويخلص الدكتور محمد كمالي في كتابه إلى أن المقاصد علم فريد من نواح كثيرة، فالمقاصد تجعل قراءة النص الشرعي أكثر تنوعا وشمولية، وهو يعلو على الخصوصيات الدقيقة للزمان والظروف، فبينما نرى أن بعض أهم أركان أصول الفقه، مثل الإجماع والقياس والاجتهاد، كثيرا ما تثقلها ظروف صعبة، لكونها لا تتوافق أحيانا مع البيئة الاجتماعية والسياسية للمجتمعات المسلمة المعاصرة، فإن مقاصد الشريعة قد احتلت مكانة محورية، لكونها توفر تواصلا حيويا ومناسبا مع الشريعة، كما أن معرفة مقدار مناسب من علم المقاصد تزود طالب العلم الشرعي بالبصيرة، وتعطيه إطارا نظريا يستطيع من خلاله أن يكتسب معرفة تفصيلية بالعلوم الشرعية المختلفة بطريقة أكثر مغزى وأكثر متعة.

يذكر أن مؤلف الكتاب الدكتور محمد هاشم كمالي من المتخصصين في موضوع المقاصد، ويعمل حاليا مديرا تنفيذيا للمعهد العالمي للدراسات الإسلامية المتقدمة في ماليزيا، وسبق أن عمل أستاذا للقانون وفلسفة التشريع في الجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا.