سؤال العقيدة وسؤال الأخلاق في المجال العام

رضوان السيد

TT

كنت أعد محاضرة عن سؤال «التراث والحداثة» في مشروع المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري لمؤتمر يعقده مركز دراسات الوحدة العربية عنه، عندما لاحظت أنه في كتابه: «العقل الأخلاقي العربي» يقرر أن القرون الإسلامية الأولى شهدت تبلور خمس منظومات قيمية وأخلاقية في عالم الإسلام، وهي: المنظومة العربية الصافية، التي تعتد بأخلاق المروءة، والمنظومة الإسلامية الصافية التي تعتد بأخلاق الرحمة والإحسان، والمنظومة الفارسية القديمة والتي داخلت المنظومات الأخرى وهي تعتد بأخلاق الخنوع والطاعة، والمنظومة اليونانية التي تعتد بأخلاق السعادة، والمنظومة الصوفية، والتي تعتد بأخلاق الفناء. والجابري منزعج من هذا «التاريخ الأخلاقي الإسلامي» الذي استظهره من كتب تهذيب الأخلاق وكتب آداب النفس، وكتب النصائح، وكتب آداب المريدين، وكتب الآيين الإيرانية الأصل. إذ في اعتباره أنه ما دام الدين واحدا، وأصوله وثوابته واحدة؛ فإن منظومة قيمية واحدة هي التي كان ينبغي أن تسود، وأن تكون مزيجا من الأخلاق العربية، وأخلاق القرآن والسنة، وهو يعلل ذاك الواقع الوسيط بأن الإسلام من خلال الفتوحات، دخل مبكرا إلى ديار ومجالات كانت فيها أو تسودها أديان وثقافات ومنظومات أخلاقية ما تخلى عنها أهلها حتى بعد دخولهم أو دخول أكثرهم في الإسلام، وإنما حوروها لكي تتلاءم ظاهرا مع الوقائع الجديدة. وبهذه الطريقة أمكن لتلك النظم القيمية أن تحيا حيوات أخرى، وأن تخترق المنظومة العربية الإسلامية، فتحول بذلك دون توحد الرؤية للعالم، وتوحد الرؤية للأولويات، وعلى مستويين: مستوى الفكر العام، ومستوى السلوكات الفردية والجماعية. ولقد حظي كتاب الجابري هذا، وكتابه الآخر: العقل السياسي العربي، بشهرة واسعة، لكن كثيرين ناقشوه في ضرورة توحد المنظومة الأخلاقية ضمن «دار الإسلام» وبخاصة أن القرآن وأعراف المسلمين، أقرت التعددية الدينية، فأقرت بالتالي التعددية الخلقية. وقد فرض ذلك ضرورة الوصول إلى مشيج من الأخلاقيات وآداب السلوك المشتركة، التي تمكن من التعايش أو العيش معا. وهذا هو المستوى الذي حدث الاختراق فيه، إن كان من جانب الفرس (أو أخلاق أردشير كما سماه)، أو من جانب جماعات أخلاق الباطن (من الغلاة والصوفية). وخطورة هذا الأمر من وجهة نظره أنه ما عادت هناك «معايير» واضحة يمكن الاحتكام إليها حتى في أخلاق السلوك وأدبياته.

إن الطريف أن نقاشا محتدما ومشابها يجري الآن على صفحات الصحف السيارة ووسائل الإعلام والاتصال الأخرى، في سياق وجوه من السلوك النافر عاد للبروز في ظل المتغيرات العربية الجارية. فعندنا في لبنان، أصرت جماعة صغيرة بمدينة طرابلس تنتمي إلى«حزب التحرير» وبمناسبة أحداث سورية - على التظاهر، داعية لاستعادة الخلافة، باعتبارها النظام الإسلامي الشرعي الوحيد. وفي مصر أقبلت جماعات تنتمي للدعوة السلفية على تدمير المزارات الصوفية التي بنيت فيها مساجد، باعتبار ذلك محرما بنص الحديث الصحيح (لعن الله بني إسرائيل اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). وهي الجماعات التي لا تزال تطالب باستعادة كاميليا شحاتة، وهي كانت زوجة لقبطي أسلمت قبل سنوات وغادرت منزل زوجها، فأعادتها الشرطة إلى الكنيسة، حيث لا تزال مختفية. كما أنها الجماعات التي لا تزال تتظاهر في مدينة قنا، مطالبة بعزل المحافظ الجديد هناك لأنه قبطي، ولا ولاية لغير المسلم على المسلم. فهل من حق هذه الجماعات التدخل في هذه الأمور، باعتبارها داخلة في واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو الواجب الذي يكون على كل مسلم قادر القيام به بشروط معينة. أم أنها تدخل في باب «السياسة الشرعية» التي هي من صلاحيات ولي الأمر الشرعي، الذي يكون عليه دون غيره (باعتباره مؤتمنا على إدارة الشأن العام والعيش المشترك) أن يحسمها، ويستطيع المحتجون أو المعارضون اللجوء إلى القضاء وإقامة دعوى حسبة والاكتفاء بذلك. أم أن ذلك كله صار عرفا مستقرا من ضمن أعراف العيش في المجتمعات المتعددة، ولا يجوز لأحد أن يزعج ذلك العيش المستقر منذ قرون متطاولة، فيقتصر الأمر على منع الشرطة لكل مظهر من مظاهر التعرض لأهل الأديان الأخرى، وحفظ حقهم في العيش والتصرف بحرية. وإذا كان ذلك حقا من حقوق غير المسلمين على جماعة المسلمين وإمامهم وقضائهم؛ فإنه حق أيضا للمسلمين المختلفين الذين يشعرون بالقلق والانزعاج إذا تحدى مسلم آخر حرياتهم أو أعرافهم، بسبب خلاف ديني أو مدني. ففي القرآن الكريم: «لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ». أما بالنسبة للمسلمين؛ فإن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه قال في حجة الوداع: كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه. لكن «حزب التحرير» يذهب إلى أن الخلافة جزء من الاعتقاد، ولذا فإنه يعتبر نفسه مكلفا بالدفاع عن عودتها أو استعادتها، وإن لم يفعل ذلك يكون آثما في حق دينه. وكذلك الأمر مع السلفيين الذين يعتبرون «زيارة القبور» نوعا من الشرك، ولذا يرون أن من حقهم وواجبهم إنفاذ تعاليم دينهم! وهكذا فنحن الآن أمام معضلتين: وجود الأعراف المستقرة للمجتمع وضرورة الحفاظ عليها، ووجود الجماعات المسلحة وغير المسلحة، التي تعتبر تحدي هذه الأعراف واجبا دينيا. فالمسيحيون بطرابلس، ومعهم مسلمون كثيرون، تقلقهم مهرجانات حزب التحرير السنوية من أجل إقامة الخلافة - وكثير من المسيحيين بمصر منزعجون من زيادات الاعتداء على كنائسهم، ومن الصحوية الجارية المتصاعدة في المجتمع والدولة. ويقلل الكثيرون من شأن هذه الأخطار على المسيحيين، ويقولون إنه على العكس من ذلك؛ فإن حقوق المسيحيين بعد التغيير بمصر سوف تراعى أكثر إذا مضت البلاد بالاتجاه الديمقراطي. إنما ماذا يقال عن حدث المحافظ والمطالبة بعزله لأنه قبطي؟ هؤلاء يذهبون أنه يكون على السلطات التصدي بحزم لهذه الاحتجاجات، لأن تلك السلطات هي التي عينت المحافظ، ولا ينبغي عزله وهو ما مارس مهامه بعد، ولم يرتكب ذنبا أو خطأ. وأما مسألة الولاية فهي محلولة بمصر لأن الفقهاء المصريين كانوا قد تواضعوا على اجتهاد يقول بقيام «جماعة وطنية» على أساس مبدأ المواطنة، دونما تمييز في الحقوق والواجبات بين المسلمين وغير المسلمين.

والواقع أن مسلمي أهل السنة اليوم يتوزعون على ثلاث فئات كبرى هي الصوفية والسلفية والإخوان المسلمون. وقد كانت بينهم مشكلات في الرؤية والتعامل، لكن الإخوان يملكون نظرية سياسية دون الفئتين الأخريين. وكان المنتظر أن تحدث المشكلات أو تقع بين الإخوان وبين الأنظمة السياسية المدنية الحديثة، القائمة على مبدأ المواطنة، وليس على أوليات دار الإسلام أو المجتمع الموحد في الاعتقاد والاشتراع. لكنهم وبسبب التجربة الطويلة التي خاضوها عبر عدة عقود، أمكن لهم الآن بمصر أن يحصلوا على مشروعية تكوين حزب سياسي، وسيشاركون في الحياة العامة بدون عقبات بارزة. وليست لدى الصوفية مشكلة مع النظام الذي يتكون بمصر الآن، كما لم تكن لهم مشكلات مع الأنظمة السابقة. وما كان معروفا أن السلفيين الصاعدين، ستكون لهم مشكلات مع النظام الجديد، والذي لا يختلف كثيرا عن النظام المنقضي من حيث الأصول الدستورية. بيد أن اهتمامات السلفيين العقدية أحدثت مشاكل مع الأقباط، وهي توشك أن تحدث مشكلات مع الصوفية. وقد حسبت من قبل أن الطاعة لولي الأمر يمكن أن تحل المشكلة بالامتثال لمقتضيات السياسة الشرعية، أي صلاحيات السلطة الشرعية في القيام بكل ما من شأنه أن يحفظ الاستقرار، ويؤمن إدارة سلسة للشأن العام. إنما الذي يبدو الآن أن الأمر أعمق من ذلك، لأن السلفيين والأصوليين الآخرين، ما توصلوا لاجتهاد فيما يتعلق بالمواطنة، والمسائل الأخرى في الدولة الوطنية والتي لا تقوم على أساس ديني. وهكذا فإن العصبية للإسلام وتمايزه وطهوريته، تدفعهم للاصطدام بمخالفيهم في الدين أو بمخالفيهم في المذهب، صونا للعقيدة والعبادة من الابتداع ومن الشرك. وهم يعتبرون روحهم النضالية هذه إصغاء وأداء لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكما سبق القول؛ فإن الأمر كان ينحل من طريق دعاوى الحسبة، ومن طريق السياسة الشرعية. لكنّ للسلفية مستقبلا كبيرا، باعتبارها ذات الشوكة في الإسلام السني الآن، فيكون على فقهائها البارزين التفكير الآن في مسائل العلاقة بالآخر وبالشأن العام من منظور جديد، وليس الاكتفاء بالحلول الترقيعية للحسبة ودعاواها، أو الخضوع لما يراه ولي الأمر إذا كانوا يقولون بشرعيته. ولا ينبغي أن يكون ذلك صعبا، لأنهم أهل السنة و«الجماعة»، والشأن العام قائم على المصالح، فهي بيد الجماعة وخياراتها وإجماعاتها. وفي المبدأ لا ينبغي اعتبار الأعراف الاجتماعية داخلة من حيث الحكم عليها في مسائل الاعتقاد أو التوحيد والشرك، وإنما هي أخلاقيات سلوكية وعرفية، ما دامت جماعة المسلمين قد تواضعت عليها فيما بينها أو مع الآخرين؛ فإن التسليم بها لا يخل بأمر ديني اعتقادي. وهلال الرأي واللؤلؤي يدخلان هذه المسائل تحت قاعدة: لا ضرر ولا ضرار. أما إن تجاوز الأمر إلى الاعتراف بالشراكة والعيش المشترك على أساس المبدأ القرآني: «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم.. »؛ فإن ذلك يكون جيدا جدا، ويفتح للسلفية من طريق المراجعة والاجتهاد (تغير الأحكام بتغير الزمان) أفقا قويا وواعدا: «وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ».