آثار الخشوع في القلب والعمل

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

تفيد لفظة «الصلاة» لغة معنى الذكر والانقياد. وإذا كان الذكر والفكر والدعاء أرقى أنواع العبادة في الإسلام؛ فإن أرقى صيغ الأداء للذكر والفكر والدعاء هي الصلاة، لأن الشارع اشترط لها شروطا خاصة، وتؤدى على هيئة خاصة، بحيث يجتمع لثلاثية: الذكر والفكر والدعاء فيها ما لا يجتمع في غيرها من العبادات.

ولهذا تتضمن مراحل الصلاة كافة ذكرا ودعاء لله، أي جوهر العبادة في الإسلام. وبالإمكان أيضا إبراز هذين المعنيين بالنسبة للأذان الذي يلفت الانتباه فيه كونه يبدأ بلفظة «الله أكبر» ويقدمها على «لا إله إلا الله» على الرغم مما ورد من أنها خير ما قاله النبي، صلى الله عليه وسلم، والنبيون من قبله! والواقع الذي لا لبس فيه؛ أن لهذا التقديم مغزاه العميق لجهة كونه يعبر عن إرادة الله سبحانه ورغبته في أن يتذكر العبد المؤمن أن كبرياء الله أعظم من أي شاغل يشغله عن الاستجابة الفورية لهذا النداء. وكأنما يقول المؤذن في هذا النداء المرتب بتشريع الله: الله أكبر من أي كبير يشغلكم عن الصلاة، فهلموا إلى الكبير المتعال واتركوا ما لا يصلح أن يشغلكم عن سرعة التلبية التعبدية له. ولعل ذلك هو ما دفع الجيلاني لأن يصرخ في أحد مريديه قائلا: ويحك تقف في الصلاة وتقول: الله أكبر وأنت تكذب في قولك، الخلق في قلبك أكبر من الله، عز وجل! على أن هذه الاستجابة - فيما يؤكد ابن عطاء الله الحنبلي - لا تكون إلا على أربعة أوجه: إجابة التوحيد، وإجابة التحقيق، وإجابة التسليم، وإجابة التقريب. وبحسب الحكيم الترمذي؛ فإن من كبر فقد سلم الكبر إلى الله، وتبرأ منه، ووضع نفسه لكبريائه؛ فإذا وضع نفسه رفعه الله لأنه صار في صورة العبيد، والله يحب عبيده ما داموا له كهيئة العبيد، فإذا تجبروا مقتهم لأن ذلك منهم يشبه فعل المضاهاة! أضف إلى ذلك أيضا؛ ما في ارتباط هذه الشعيرة العظيمة بوقت محدد من عبرة وقيمة «الانضباط»، مما يحث المؤمن على ترك كل تسويف وكل تأجيل من شأنه أن يفوت الصلاة بحجة اتساع الوقت، وهو ما يعتبر نوعا من المماطلة في الاستجابة لنداء الصلاة، وإخلالا بالمعنى الذي يفيده قوله تعالى: «إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا».

على أن هذا المعنى يرتبط ارتباطا عميقا بمفهوم «الإقامة» الذي حدده المولى عز وجل شرطا لصحة الصلاة. فكأنه أراد بذلك أن يذكر القائمين بأن وقت الإيفاء بالعهود والمواثيق التي اشترطها المؤمن على نفسه قد حان بإعلان وقت الصلاة. ويترتب على ذلك أن من يؤدي الصلاة، صورة وشكلا، ولا يقيمها، ظاهرا وباطنا، لا يعتبر مقيما لها كما شرع المولى، عز وجل، الذي أمر بترجمتها عملا صالحا مع الله ومع الناس.

بمعنى أن يصبح شكر المصلي في الصلاة معاهدة نصها: «الحمد لله رب العالمين». وأن يترجم هذا الشكر اللفظي إلى شكر عملي باستخدام نعم الله فيما خلقت لأجله استخداما عمليا مفيدا، وأن يصبح الثناء اللائق بالله عز وجل قولا في «الرحمن الرحيم» مترجما إلى معاملة الناس جميعا بالرحمة التي عاملنا الله بها. وأن يصبح تمجيده تعالى لفظا في «ملك يوم الدين»، مترجما إلى تعامل العبد مع ربه على أنه مملوك له، وأن يصبح عهدا لعبودية الله الملخص في «إياك نعبد وإياك نستعين» مترجما إلى عبودية خالصة وفعلية لله وحده الذي «لا شريك له»، وليس لسطوة جاه أو سلطان أو غير ذلك من الأشياء.

والحال أن هذه العبودية لا تتحقق إلا بكمال طاعته، عز وجل، في كل شيء، وهنالك تصبح الاستعانة به مترجمة إلى وقوف العبد ببابه سائلا، وأن يترجم التماس الهداية إلى الطريق المستقيم إلى سلوك مستقيم فعلي. وهكذا تصبح وقفة الصلاة وقفة تجديد للعهود، وتصبح فواصل الزمن بين كل صلاة وأخرى مجالا لتطبيقها، وترجمتها إلى واقع فعلي في السلوك والأخلاق، في الأخذ والمعاملة، في الدنيا والدين.

وإذا كانت الصلاة في عرف الفقهاء عبارة عن أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير المقرون بالنية، مختتمة بالتسليم بشرائط مخصوصة. حيث أمر الحق سبحانه وتعالى عباده أن يقيموها: «وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين»؛ فإن إقامتها تتضمن أيضا إقامة الكثير من الأوامر الإلهية الأخرى، كالزينة، تبعا لما جاء في قوله تعالى: «خذوا زينتكم عند كل مسجد»، والوضوء مصداقا قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم..»، والقنوت لقوله تعالى: «وقوموا لله قانتين».

وإذا كان القيام يعني المثول بين يدي الله للخدمة والعبادة وإظهار العبودية بالقلب والجوارح معا، فإن كمال مثول القلب أن يكون ذاكرا لله تعالى: «واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين * فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون * وتوكل على العزيز الرحيم * الذي يراك حين تقوم * وتقلبك في الساجدين * إنه هو السميع العليم»، وأن يكون خاشعا في كل حركاته وسكناته: «قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون».

فكمال البدن لا يتحقق إلا بأن يكون على طمأنينة وسكون وهيبة وحياء، مطأطئ الرأس، ناظرا إلى موضع السجود، مستشعرا القصور والتقصير في جنب الله، مستجمعا همته لأداء حق العبودية بقدر الإمكان، ذاكرا هول المطلع، مقدرا في نفسه أنه حاضر بين يدي الله، عز وجل. ولذلك فسر مجاهد قوله تعالى: «سيماهم في وجوههم من أثر السجود»، بالخشوع والتواضع. ومع أن الخشوع قريب المعنى من الخضوع، فإن الخضوع يكون في البدن، بينما الخشوع متحقق في كل من: البدن، والبصر، والصوت، يقول تعالى: «وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا»، أي انخفضت.

وحب الحصيد: إذا كان الأصل في العبادات كلها أن تخشع الأبدان نتيجة خشوع القلب وذلته وانكساره؛ فإن الصلاة تعد من أعظم العبادات التي يظهر فيها هذا الأمر بوضوح تام؛ نظرا لأنه يجسد في واقع الأمر حقيقة العبادات كلها على اختلاف صورها. وأول ما يلزم أن يظهر فيه أثر الخشوع هو النية لأنها تتضمن قصد العبادة: إما حبا لله، أو خوفا منه، أو رياء الناس.. «وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة»، «ألا لله الدين الخالص»،«فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا».

فالقصد في العبادة إذن النية والإخلاص اللذان يعدان بمثابة «جوهر التقوى». ولعل ذلك هو ما دفع بابن عطاء الله لأن يفسر قول الله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون»، بالقول: حقيقة التقوى في الظاهر محافظة الحدود، وباطنها النية والإخلاص.

ومن هنا نفهم حديث رسولنا الكريم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله؛ ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه». إذ لا تصح نية من أصبح وأكبر همه الدنيا فألزم الله قلبه شغلا لا فراغ له منه أبدا، وهما لا ينقطع عنه أبدا، وأملا لا يبلغ منتهاه أبدا، وفقرا لا ينال غناه أبدا! الخشوع إذن هو المظهر الأرقى لصحة القلب، وارتفاع الخشوع يعني خراب قلب المسلم، مع ما يجره ذلك من أمراض خطيرة وأحوال شريرة، فمتى غلب القلب بالأمراض فقد التطلع إلى الآخرة، ومتى وصل إلى ذلك الحال فلا صلاح له لأن حب الدنيا تمكن من قلبه، وحب الدنيا يعقبه التنافس عليها، والتنافس عليها لا يقوم به أمر الدين ولا الدنيا! ولذلك روى أبو داود عن عقبة بن عامر، رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: «يعجب ربكم من راعي غنم في رأس شظية بجبل يؤذن بالصلاة ويصلي، فيقول الله عز وجل: انظروا إلى عبدي هذا، يؤذن ويقيم الصلاة، يخاف مني، قد غفرت لعبدي وأدخلته الجنة».

وختاما؛ إن مرورا عابرا بآيات الذكر الحكيم يفضي إلى نتيجة مفادها أن الأصل في المسلم أن يكون خاشعا في الصلاة وخارجها: «إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا * ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا * ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا»، «وبشر المخبتين * الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون»، «وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين».. إلى غير ذلك من الآيات.

* كاتب مصري